أبو نبوت، محمد باشا: (توفي سنة 1833)
(أحد مماليك أحمد باشا الجزار، ومتسلم مدينة يافا ولواء غزة بعد محمد أبو المرق بين سنتي 1807 و1819. تميزت مدة حكمه في المنطقة بإعادة الأمن والإستقرار والبناء بعد فترة طويلة قاست فيها المنطقة، ومدينة يافا بالذات، الغزوات والدمار وعدم الإستقرارعُزل عن منصبه فهرب إلى مصر ومنها إلى استنبول، حيث عُين حاكماُ على ولاية سالونيك في اليونان.)
حين توفي أحمد باشا الجزار في عكا سنة 1804، كان محمد أبو نبوت أحد مماليكه المتقدمين سناً ومكانة. وعندما عُين سليمان باشا خلفاً للجزار، خدم أبو نبوت الوالي الجديد وأصبح أحد أعوانه المقربين. وفي سنة 1222ه/ 1807م جاءت الأوامر السلطانية إلى سليمان باشا بمحاربة محمد أبو المرق وإخراجه من يافا. وكان أبو نبوت يشغل منصب أمين الجمرك في عكا. ولما استعصى فتح المدينة على جيش سليمان باشا أرسله على رأس قوة عسكرية جديدة لإتمام المهمة فنفذها بنجاح. ولما وصلت البشائر إلى عكا عيّنه الوالي متسلماً للواء غزة ويافا، وحثه في كتاب التعيين على الإجتهاد بـ «راحة العباد وعمار البلاد».
استقام محمد أبو نبوت في يافا، وأخذ فعلاً في إعادة الأمن والإستقرار إلى المدينة النازفة، مع نشاط واسع في ترميم وإعمار ما دمر في الأعوام الماضية. وبالإضافة إلى نشاطه العمراني داخل المدينة، قاد بنفسه الحملات العسكرية على العربان الذين توغلوا في المناطق الآهلة لإعادتهم إلى الصحراء، وحقق بعض النجاح في ذلك. وثار عليه سليمان الوحيدي، شيخ عربان صف القيس، فاتفق أبو نبوت مع عثمان أبو غوش على محاربته، ونصبا له كميناً قرب يافا فقُتل وأُلقيت جثته في البحر. لكن نجاحه هذا ضد البدو كان مؤقتاً، لأن المهمة كانت صعبة للغاية وتحتاج إلى الكثير من المال والرجال لمتابعتها. ففي سنة 1224ه/1809م وصل إلى منطقة غزة عرب الهنادي من مصر، وكانوا يعملون في تأمين طريق الحج بين القاهرة والحجاز. فلما تعطل الحج بسبب الوهابيين، ضاق العيش عليهم في الصحراء، فتوغلوا من سيناء إلى منطقة غزة. وحاول أبو نبوت صدهم، وقاد حملة عسكرية عليهم، لكن قواته هُزمت في المعركة التي نشبت بين الطرفين، ونجا بنفسه بأعجوبة. فانحسب، وأرسل في طلب النجدة من سليمان باشا، لكن هذا لم يسعفه، فاضطر إلى السكوت عنهم والعودة إلى يافا.
واستمر عرب الهنادي في الإنتشار في منطقة غزة حتى وصلوا إلى منطقة يافا من دون أن يستطيع محمد أبو نبوت ردعهم وردهم على أقابهم. وفي سنة 1228ه/1813م نهب هؤلاء العربان قافلة تجارة مصرية تحمل الكثير من الأموال والبضائع، فأثار ذلك حفيظة محمد علي واستياءه. وأرسل إعلاماً إلى سليمان باشا بهذا الشأن، وطالبه بالعمل على رد البضاعة، فتوترت العلاقات بين الطرفين، ووجّه سليمان باشا العساكر مع أبو نبوت لمحاربتهم، لكن العربان تغلبوا عليه وردوهم على أعقابهم.
اتجه محمد أو نبوت إلى إعمار مدينة يافا وتحصينها من الداخل بعد فشله في إبعاد خطر البدر تماماً عن المنطقة. فأقام في سنة 1810 جامع يافا الكبير المعربوف باسمه، وأنشأ في جانبه بئراً وسبيلاً. ولما كان المسجد والسبيل بحاجة إلى مصروفات وخدمة، حبس عليهما الأوقاف الكثيرة من البيوت والأراضي والدكاكين لصيانة المسجد وخدمته. ثم رأى أن تلك الأوقاف غير كافية، فقام بترميم المسجد وتوسيعه على حسابه، وأجرى الماء إليه، وفرشه بأنواع البسط، ورتب له الموظفين، وزاد في مرتبات الوظائف السابقة حتى صار «نزهة للناظرين وتحفة للعابدين». ثم إنه اشترى من ماله محلات جديدة وألحقها بوقف الجامع والسبيل، كما أنشأ خاناً جديداً «يشتمل على سبعة دكاكين بداخله وأربع طباق وساحة سماوية» وألحقها كلها بالوقف المذكور.
استمر محمد أبو نبوت في البناء وإعمار المدينة، فأنشأ السبيل المحمودي وبئراً جديدة جانب الجامع الكبير، ثم أنشأ مدرسة في جوار المسجد وألحق بها مكتبة، وعين لها علماء وطلبة ومصدرين، ورتب لهم ما يكفيهم. كما أوقف عليهما الطواحين السبع الكائنة في أرض المر، على نهر العوجا، شمالي يافا، والتي اشتراها (وأعمرها بعد خرابها) من مشايخ ناحية جماعين أمثال قاسم الأحمد وموسى عثمان وغيرهما. واستمرت يافا في تقدمها العمراني أيام أبو نبوت، فدبت فيها الحياة والنشاط بعد فترة طويلة من الركود والإندثار. واهتم أبو نبوت بتحصين المدينة مع إنشاء الأبنية والمساجد والخانات. فقد عمّر ورمم أبراجها وأسوارها التي دكتها مدافع الغزاة. ثم وضع عليها المدافع التي أُحضرت خصيصاً من طرابلس وعكا. ولتأمين المدينة من الغزاة، حفر خندقاً خارج السور، من جهة البر، كما أقام سداً منيعاً على الميناء ليمنع تدفق مياه البحر على الحوانيت والبيوت المجاورة. وقد قام عماله بإحضار الحجارة لإنشاءاته تلك من حصون وأبنية قيسارية المندرسة.
وكان محمد أبو نبوت على علاقات حسنة بسليمان باشا العادل والي صيدا. ولما أُضيفت إليه ولاية دمشق وطرابلس أيضاً، بالوكالة، سنة 1815 عينه سليمان باشا متسلماً لدمشق حتى يحضر والي المدينة من الآستانة. وقد جاء سليمان باشا لزيارة يافا أيام حكم أبو نبوت فخرج هذا مع عساكره لاستقباله في أم خالد، نحو ثلاثين كيلومتراً شمال يافا. وقد سرّ الوالي لما شاهده من إعمار المدينة وتحصينها، لكنه خشي في الوقت نفسه من طموح أبو نبوت ونجاحه.
وأخذت العلاقات تتدهور بينهما بعد ذلك. فلقد كان أبو نبوت يعتبر نفسه مساوياً لسليمان باشا، ومن رجاله المقربين، ويأمل بأن يحل مكان علي باشا، نائبه ومعاونه المقرب، بعد وفاته سنة 1815م. لكن سليمان باشا، بمشورة صرافه ومستشاره الحميم، حاييم فرحي، نصّب عبد الله باشا مكان والده فذهبت آمال أبو نبوت أدراج الرياح. وفي سنة 1816 زار كوسا كيخيا، أحد كبار رجال الدولة، فلسطين، وسافر إلى يافا والقدس، فأكرمه أبو نبوت جداً، آملاً بمساعدته عند الباب العالي للحصول على رتبة «الباشوية». وحين عاد كيخيا إلى الآستانة أرسل إلى أبو نبوت في الهدايا مع رتبة قبوجي باشي. أما رتبة الوزارة فأُعطيت لعبد الله باشا، غريمه في عكا، فانغم من ذلك كثيراً. وحين التمس أبو نبوت الإذن من سليمان باشا في تحصين مدينة يافا وإنشاء سور من ناحية البحر، أذنله في ذلك. كما أنه التمس لصهره كنج أحمد آغا تعيينه متسلماً للقدس، فكان له ذلك أيضاً. وكانت الشكاوى ضد أبو نبوت وتصرفاته في يافا تصل أحياناً إلى ديوان سليمان باشا في عكا فيغض الطرف عنها. لكن في سنة 1233ه/1817-1818م وقع بين أبو نبوت وقنصل الإنكليز في يافا، يوسف دميان، خلاف. ولما رفع القنصل قضيته أمام سليمان باشا و «الدولة العلية»، التي حكمت له، انغاظ أبو نبوت لكنه رضي بالحكم مكرهاً.
ولقد استاء محمد أبو نبوت، كما ذكرنا، من تعيين عبد الله باشا معاوناً للوالي في عكا بدلاً منه، وكان يعلم بأن ذلك حدث بتدبير ومشورة حاييم فرحي. وعندما تكدرت العلاقات بين الطرفين، أخذ عبد الله باشا وفرحي يغريان الوالي لعزل أبو نبوت عن الحكم ويحرضان عليه في كل مناسبة. وتخوف سليمان باشا من بعض مظاهر الإستقلال التي كان أبو نبوت يطالب بها لنفسه. كما أنه اقتنع بتعيين ابن أخيه مصطفى بك على يافا، وبدأ يضع الخطة لذلك.
وفي سنة 1234ه/ سنة 1819م كان أبو نبوت خارج المدينة مع عساكره لمرافقة قافلة الحج الشامي، فلما عاد إلى المدينة وجد أبوابها مقفلة في وجهه والجند يمنعونه من دخولها. فلما علم بأن سليمان باشا أقاله وعين مصطفى بك بمكانه عاد إلى غزة وأخذ يجمع أمواله وأمتعته من يافا والقدس وغزة وغيرها، وحملها على أكثر من 270 جملاً، ورحل إلى مصر بلا زوجته، ابنة كنج أحمد آغا، وأولادها الصغار، إذ أبقاهم في بيت المقدس.
وانتهى بذلك دور محمد آغا أبو نبوت في تاريخ فلسطين، لكنه استمر في بقاع أخرى من الدولة العثمانية. فقد أقام وحاشيته في القاهرة، فأكرمه محمد علي، وتوسط له عند الباب العالي، فصدرت له للحضور إلى الآستانة.
وفي غرة صفر 1235ه/19 تشرين الثاني (نوفمبر) 1819م «سافر محمد آغا المعروف بأبي نبوت الشامي إلى دارة السلطنة»، على قول الجبرتي في تاريخه. ووصل أبو نبوت إلى العاصمة العثمانية، وقدم الطاعة والهدايا للسلطان ودائرته، وكانت ثورة اليونان قد نشبت فعينته الدولة حاكماً على ولاية سالونيك، فأبلى في محاربة الثوار اليونان. وتنقل بعد ذلك في مناصب الإدارة والحكم في الإمبراطورية، إلا إنه لم يعد إلى فلسطين.
وأما وفاة محمد أبو نبوت، فلا نعلم أين ومتى حدثت بالضبط، ولعلها كانت في نهاية سنة 1833 أو بداية سنة 1834. ففي كانون الثاني (يناير) 1834، أصدر محمد علي باشا، حاكم مصر، أمراً إبى ابنه إبراهيم، فاتح بلاد الشام، بان يعين مبلغاً من المال قدره ألف غرش شهرياً من خزينة الدولة لأرملة أبو نبوت، «لأنها محتاجة وليس لها من يأخذ بيدها ويساعدها.»
اشتهر أبو نبوت بذكائه، وقضى بين الناس وحكمهم بالعدل، لكنه تميز، مثل الكثيرين من أمثاله حكام ذلك العصر، بالشدة والقسوة ونهب الأموال، مع اهتمامه بتأمين الطرق والقضاء على السرقات والقلاقل. كما أنه تميز عن غيره من حكام فلسطين في ذلك العهد باهتمامه بالبناء والإعمار، فنمت يافا وازدهرت بعد عهد طويل من القلاقل والدمار وعدم الإستقرار، منذ أواخر القرن الثامن عشر.
أعلام فلسطين في اواخر العهد العثماني
عادل مناع