جديدنا: وثيقة - مركز الوثائق الفلسطيني
غسان عبدالقادر :. أهالي صفورية تشتتوا بين لبنان وسوريا، ولجأ بعضهم إلى الناصرة، وغدا العثور على أي من أهالي القرية ممن عاشوا فيها قبل النكبة أمراً شاقاً. موقع 14 آذار إستطاع مقابلة الأستاذ عبدالرحمن علوش، مدير مدرسة متقاعد وأحد أهالي صفورية، وهو من القلة الباقية التي أسعفها الحظ بعد أن أمضى أول 18 سنة من حياته في ربوع تلك الأرض المباركة. هكذا سلم جيش الإنقاذ قرية صفورية ...وكان أحد قادته يهودياً ! يروي الأستاذ عبد الرحمن علوش، أنه في يوم 17 تموز من عام 1948، كيف غادر قريته صفورية وعائلته في عمر الثامنة عشرة. في لحظة العودة تلك، تتكثف الذكريات في ذهن الأستاذ عبد الرحمن التي لم تغب صورة صفورية عن ذهنه وسط تضارب وتزاحم الأحداث والمشاعر، وأول ما خطر على باله أن يطلعنا عليه هو كيف تخل جيش الإنقاذ العربي عن القرية الجليلية. وقال "أنا لا أنسى كيف نزع جيش الإنقاذ المتفجرات والعبوات الناسفة التي تم تلغيم أحد الجسور بها لأن ذلك الجسر يصل بين صفورية وشفا عمر التي أحتلها الصهاينة. هذا الأمر، سهل إقتحام صفورية من جهة الغرب بعد أن حشد الهاجاناه لذلك قوات ضخمة خصوصاً أنه إنضم إلى المدافعين عن البلدة مقاتلين آخرين قدموا اليها من عكا وغيرها من المدن التي سبق أن سقطت". ويورد علوش معلومة للتاريخ هي أنّ أحد قادة جيش الإنقاذ العربي في مدينة الناصرة والذي كان ساهم في عدد من الهزائم في المنطقة، كان في الواقع يهودياً من العراق، وإسمه ساري، وقد سلم مدينة الناصرة إلى الصهاينة بعد ذلك. صفورية تم إخلاؤها من سكانها البالغ عددهم ستة آلاف على أمل العودة بعد بضعة أيام كما أشاع الإعلام العربي آنذاك والذي يصفه عبدالرحمن بـ"الغبي". وقال الأستاذ عبدالرحمن "أنهم لم يستطيعوا ان يخرجوا من منازلهم إلا بطانية واحدة وبطاقات الهوية الصادرة عن الإنتداب البريطاني. وسيراً على الأقدام، قصد عبدالرحمن مع عائلته وأهل صفورية الشمال وقطعوا مسافة 35 كلم التي تفصل البلدة عن الحدود اللبنانية حتى وصلوا إلى بنت جبيل بعد أن مروا بقريتي سعسع وصلحا". معاناة الصفوريين لم تنته مع وصولهم إلى بنت جبيل حيث كان عليهم أن يشتروا الماء ويعانوا شظف العيش، وأرسلوا البرقيات إلى الشخصيات العربية المختلفة والجامعة العربية من أجل نقلهم إلى مكان أفضل حيث يتوفر الماء الضروري للشرب والإستعمال. بعد شهر من المعاناة، نقل أهل صفورية إلى ما مكان يسمى بمعسكر الفرنسيين في منطقة القرعون. في تلك المنطقة عانى الصفوريون هذه المرة من نقص في التموين ببسب تساقط الثلوج حيث كانوا يمضوا اربعة أو خمسة أيام من دون طعام وقتل أحد أهل البلدة بسبب تلك الثلوج. ومع ذلك، وكما أخبرنا الأستاذ عبدالرحمن، "كان هناك إصرار على التمسك بالعلم فافتتح أهالي القرية المهجرة مدرسة لتعليم أبنائهم كان فيه الطلاب يجلسون على الأرض". صفورية، درّة الجليل ...والحق الذي لا يموت في صفورية، أمتلكت عائلة عبد الرحمن علوش 8 آلاف دونم من الأراضي الزراعية التي كان يجري فيها نبع القسطل بالإضافة للمنازل والمخازن والبيادر التي تنتج القمح والزيتون والخيرات على أنواعها. وكانت المياه التي تنبع من صفورية والخيرات التي تنتجها اراضيها من خضار وفاكهة تصل الى مدن حيفا والناصرة التي تعتمد عليها لتأمين حاجيات سكانها. ومن جملة ما أطلعنا عليه الأستاذ عبدالرحمن، أن قلعة صفورية كانت تستعمل كمدرسة إبتدائية قبل أن تنتقل بعد ذلك الى منطقة السدر، والتي هي أعلى منطقة في القرية. ولا تزال صورة دير السيدة حنة، والدة السيدة مريم عليها السلام، ترتسم بذهن الاستاذ عبدالرحمن حيث أعتاد ان يقصد الدير الذي أفتتحت قربه عيادة للعلاج. الأستاذ عبدالرحمن لم يتعب من الدراسة بل أكمل دراسته الثانوية في الناصرة وتحول إلى التدريس بعد أن إجتاز إمتحان المعلمين الذي يعادل البكالوريا. وبعد أن هجّر من أرضه وارض أجداده، حصل على شهادة الكفاءة بالتعليم من خلال مراسلة جامعة لندن. وبعدها أنهى الإجازة الجامعية بالأدب العربي في بيروت. تنقل الأستاذ علوش بين عدة مدارس تابعة للأونروا، وتمت معاقبته عدة مرات ونقله من مكان لآخر نتيجة عمله الوطني ونشاطه السياسي، حتى إستقر أخيراً في شمال لبنان كمدير لمدرسة نهر الاردن هناك. مرارة النكبة تطغى على عبارات الأستاذ عبدالرحمن الذي يأسف أن يصف الأنظمة العربية التي سلمت فلسطين بمجموعة من الخونة والمتخاذلين. ولايهون عليه أن يرى المزيد من الأراضي الفلسطينية تقضم من قبل الصهاينة من دون أن يكون بأيدي من يفاوضهم سلاحاً يمنحه قوة التفاوض وإملاء شروطه. وهاله أن يرى القتل في الأراضي المحتلة والحفر تحت المسجد الأقصى والإعتقالات العبثية من دون أن يحرك أحد ساكناً. الأستاذ عبدالرحمن الذي يحمل عبأ التاريخ الفلسطيني لم يتعب من النظرإلى المستقبل ليرسم معالم الطريق إلى فلسطين. هذا الشيخ الثمانيني همه الأول والأخير حالياً أنّ يستلم أحفاده من بعده أمانة حفظ الحق بالعودة إلى صفورية. ولا يمل ولا يكلّ عن تمسكه بحقه وحق عائلته بالعودة لأملاكه، بل أنه يعدّ حفيده عبدالرحمن ملقنأً أياه مفردة أساسية لتكون نبراساً لحياته هي "فلسطين لنا وسنعود إليها.