ياسر قدورة – صيدا
آذار 2011
ليست هذه زيارتي الأولى للأستاذ أحمد أيوب، ابو خلدون، بل سبقتها جلسات كانت في غالبها أحاديث عن قرية سحماتا وعائلاتها وذكرياتها التي يحفظ منها الكثير. ولكن هذه الجلسة اختلفت عن سابقاتها، لأني أردت أن أسمع منه عن عائلته – عائلة أيوب – كي يكون الحديث منطلقاً للتوثيق للعائلة.
أما شجرة العائلة فكنت قد حصلت عليها من أبو خلدون سابقاً:
وفيها أبناء محمود، محمد، خالد وأحمد وأحفادهم كذلك، وهي موجودة كاملة في موقع هوية.
ويروي لنا أبو خلدون حكاية والده وعمه بأسلوب قصصي شيق، لا يسعك إلا أن تصغي السمع دون أن تكثر من الأسئلة:
" جدي محمود أيوب كان وحيداً ، فقد كان له أخ اسمه سعد وتوفي باكراً.. وكان لـ محمود ولدان: حسن عمي وأيوب والدي.. كانوا في عمر الـ 14 أو 15 أيام حرب تركيا، والناس تهرب إلى الأرجنتين.. رتبوا أمورهم ( حسن وأيوب) وسافروا من سحماتا إلى حيفا، ومن حيفا ركبوا بالبابور إلى ميناء بور سعيد. في بور سعيد كان الصعايدة الذين على البواخر يطلعوا وينزلوا وما يفهموا عليهم شو يحكوا.. قعدوا يوم واحد، وثاني يوم راحوا على جنوة في إيطاليا. وكان عمي ووالدي أميين لا يقرآن ولا يكتبان، وكذلك معظم الناس الذين هاجروا تلك الأيام. في جنوة نزلوا على المدينة فكانوا في لباسهم الوطني أو البلدي ( الشروال والحطة والعقال) نزلوا واشتروا كل واحد طقم ولما طلعوا في السفينة، رموا الثياب القديمة في البحر. مكثوا – كما سمعت ولست واثقاً – ثلاثة أشهر حتى وصلوا إلى الأرجنتين.. كانوا معظم أيامهم يقضونها على ظهر السفينة، وصلوا إلى الأرجنتين وكان وضعهم مأساوياً لأن البلاد لا يعرفونها، ولا يعرفون (وين يروحوا ووين ييجوا).. لا يتحدثون اللغة ولا يعرفون قراءة الآرمات ولا شيء من هذا كله.. "
يفصل أبو خلدون عن حياة والده وعمه في الأرجنتين، فقد تمكنا بعد فترة قصيرة من الزمن من الاعتماد على نفسيهما، وصارا يبيعان القماش على الكتف كبائعين متجولين، وقد تمكنا من افتتاح محل خاص بهما بعد فترة.. في هذه الأثناء كان الجد محمود يعيش في سحماتا مع زوجته وبناته الثلاث ، عمات أبو خلدون، ويصف لنا أبو خلدون حال جده في ذلك الوقت كما سمعه: ( كان حياة جدي ينزل على ساحة المدرسة، والساحة قريبة من بيتنا وفيها شجرة توت ضخمة وصخور على الداير.. الختيارية تيجي تقعد وكل واحد راكي على عكازه ويتداولون بأحاديث ذلك الزمن.. حياة جدي لما كان يرجع على البيت تسأله ستّي: مبيّن رحت ورجعت بكير؟ فيقول لها: بس أشوف اولاد الناس كيف رايحة جاي بتذكر أولادي وبصير بدي أبكي، فأقوم عشان ما أبيّن عمال ببكي أمام الناس).
بعد مضي 7 سنوات من هجرة الولدين توفي محمود، جد أبو خلدون، ولم تجد بناته بداً من مراسلة أخويهم حسن وأيوب في الأرجنتين لتطلبن منهما العودة سريعاً، فأرسلوا لهما رسالة: ( إذا الحنّة على راسكم ما تنشّفوها إلا بسحماتا) يعني بأسرع ما يمكن.
حسن وهو الأكبر سناً من أيوب طلب من الأخير البقاء في الأرجنتين لتدبير أمر المحل لأنه أراد العودة إلى سحماتا لرعاية أخواته ووالدته.. ذهب سريعاً إلى حيفا واستأجرا حصاناً أسود وتوجه إلى سحماتا.. وبعد 4 سنوات أرسل حسن في طلب أخيه أيوب كي يتعاونا على رعاية الأسرة والعناية بالأرض، وهكذا كان.
الأخوان تزوجا من عائلة قدورة، حسن تزوج ابنة عبد الرحيم الحاج أي اخت ابو ساري وأخت أبو السعيد جميل، وأيوب تزوج ابنة الحاج أسعد. بعد عودة الأخوين توفيت والدتهما وهي من بيت علي سليمان.. عمل الرجلان في الأرض واجتهدا في العناية بها، حتى كانت محل إعجاب كل من مر بها لحسن تنظيمها وترتيبها.
يحدثني أبو خلدون عن أخته الكبرى أم حسن التي كان يجالسها ويسمع منها عن سحماتا، فكانت تسمي له قطع الأرض التي امتلكها والده وعمه، وقد قام أبو خلدون بتدوين أسماء هذه الأراضي: 25 قطعة أرض لوالده و15 قطعة أرض لعمه حسن، لأن حسن كان عنده ولد وحيد وكان يقول: ( بدي اشتري له أكثر؟!! مين بدّو يقوم بهذه الأراضي؟!!) وقد كان محمود ابن حسن يعمل في البوليس ولم يكن متفرغاً لرعاية الأرض.
ثم يتحدث أبو خلدون عما يذكره من موقع بيتهم في سحماتا، وقد كانت الأوضاع المادية آنذاك جيدة, وكان المنزل على موقع جميل بجانب المدرسة، وموقع البيت في مكان عال يطل على البلد كلها تقريباً، وكان في البيت عريشة على السطح طوال الصيف يقضون أوقاتاً في ظلها.. هكذا يذكرها أبو خلدون، بلد حلوة وجلسات حلوة رغم كل المآسي التي مرت على الشعب الفلسطيني.
إخوة أبو خلدون كلهم ولدوا في سحماتا، محمد وخالد أنهوا الدراسة في سحماتا، محمد كان يدرس في الصف السابع في ترشيحا أما خالد فكان يدرس في الصف السادس في معليا، ويذكر أن عدداً من أبناء البلد كانوا يدرسون مع أخيه محمد في ترشيحا منهم الأستاذ علي قدورة ،الأستاذ فاعور، رزق جميل، أبو نزيه رجا قدورة، ورزق قيصر.. أما في معليا فقد كان مع أخيه خالد عدد آخر من أبناء البلد منهم حسن عبد الوهاب، هاني حسين اليماني، خالد عزام، ووديع مبدا طنوس.. كانوا يذهبون إلى معلياً ويعودون يومياً، وفي فترة من الفترات استأجروا منزلاً لهم في ترشيحا من عائلة الدقاق.
ثم يحدثنا عن بعض مشاهد الرحيل عن سحماتا عندما وصل العدوان إلى البلد، فقد غادروها – عائلة أبو خلدون - باتجاه البقيعة ومعهم عمه وعائلته وكذلك عمته وابنها قاسم عزام وقد كانت أرملة في ذلك الوقت.
في مشهد الرحيل يذكر أبو خلدون أن أخته (أم حافظ) حفنت حفنة من تراب سحماتا ووضعتها في الحطة، بينما كانت أخته الثانية تقول بعض أبيات العتابا.. أما ابن عمه فكان يودع سحماتا وهو يؤشر لها ملوحاً بيده ويقول: ( والله ما عاد نشوفك يا سحماتا).
نقل أيوب أيوب بعض أغراضه مثل الفرش واللحف وماكينة خياطة وبعض المواد التموينية ووضعها عند بعض المعارف ( وقد سجلهم أبو خلدون بالأسماء في مذكراته التي لم تكتمل بعد)، وسكنوا عند محمد صالح الزموق إلا أن مدة الإقامة لم تطل لأن الإسرائيليين أتوا وأنذروا الناس بالرحيل..
ارتحل الناس ومروا في طريقهم ببلدة رميش جنوب لبنان وكانت جموع الناس على البيادر وقد انهكها التعب والجوع والعطش، واستغل البعض الظروف المأساوية لهؤلاء الفلسطينيين فصاروا يبيعونهم كل شيء حتى الماء بأسعار مرتفعة، فاضظر كثير من الناس لبيع دوابهم للحصول على الطعام والشراب وربما المأوى.
أكملت عائلة أيوب مجتمعة طريقها إلى دبل ( جنوب لبنان) وأقاموا فيها، وقد نزل أيوب أيوب وعائلته عند صديق قديم له هو شكر الله هاشم الذي كان يزورهم في سحماتا هو وزوجته قبل النكبة، وكان استقباله لهم جيداً.ومكثوا هناك حوالي 5 أيام ثم انتقلوا إلى بنت جبيل حيث كان الناس كالتائهين لا يدرون أين ينزلون وأين يبيتون، وكان الطعام غير متوفر للناس فكانت حالة صعبة على الجميع. أما أيوب أيوب فقد تمكن في اليوم التالي من العثور على محل كاراج للسكن فيه مع عائلته الصغيرة.. في ذلك الوقت كان المختار جريس قيصر يبحث عن مكان للمبيت هو وعائلته دون جدوى، فوجده أيوب ، وعرف مشكلته فأصر عليه لإحضار عائلته للمبيت مع عائلة أيوب في المكان الذي نزل فيه، وهذا ما حصل. فتقاسموا السكن وكذلك الطعام والشراب.
ومما يرويه أبو خلدون عن الليلة الأولى مع عائلة جريس سمعان في ذلك المكان، أنهم باتوا ليلتهم ولما أصبحوا سمعوا نباح كلب خارج الكاراج، وإذا به كلب المختار قد لحق به من سحماتا وقد قص الأثر ومكث أمام الكاراج ينبح ويهز ذيله.. وعند رؤيته أجهش المختار وكل أفراد عائلته بالبكاء.
بعد 10 ايام في بنت جبيل جاءت الأوامر من الحكومة بالانتقال إلى منطقة صور، وكان التجمع الرئيسي في البرج الشمالي حيث كانت المنطقة مزروعة بالخيام، فسكنت عائلة أيوب أيوب وعائلة المختار جريس في خيمتين متقابلتين لمدة أسبوعين تقريباً.. بعدها وقع حريق التهم عدداً من الخيام فبدأ العمل على نقل الناس بالباصات إلى بعلبك.. النساء والأطفال ركبوا في الباصات والرجال مع الأمتعة في الشاحنات، واستمرت الرحلة من الصباح حتى المغرب..
قبيل الحادثة كان أيوب أيوب قد عاد إلى سحماتا والبقيعة لإحضار ما يمكن حمله من الأغراض التي وزعها على بعض معارفه، إلا أن بعضهم لم يقبل إرجاع الأمانة فاضطر أيوب لبيعها بأرخص الأثمان، وعندما عاد إلى البرج الشمالي وجد أن العائلة قد ارتحلت إلى بعلبك.
يتذكر أبو خلدون أنهم أمضوا بضع ليال مع بيت جده وأخواله في ثكنة غورو، ثم وجدوا سكناً انتقلوا إليه هم وعائلة المختار جريس الذي كان له أربع بنات فقط. جاء أناس من مطرانية بعلبك لزيارة المختار جريس وطلبوا منه الذهاب لمقابلة المطران، وبالفعل توجه في اليوم التالي لزيارة المطران الذي تعاطف معه وقدم له بعض المساعدات من ثياب وطعام..وسألوه إن كان يحتاج إلى أي مساعدة أخرى فذكر لهم مشكلة السكن.. وبالفعل عمل المطران على إيجاد مسكن بديل للمختار في بناية كان يطلق عليها (بناية اليهود) كانت تستخدم لحجز الأسرى.. وعندما أخبروا المختار بإمكانية الانتقال للسكن الجديد أبى أن ينتقل لوحده، لأن له جاراً لم يتخل عنه طيلة الرحلة الشاقة، وربط مصيره بمصير عائلة أيوب.. وهكذا تم إيجاد غرفة لكل عائلة منهما وتجاورا لمدة طويلة.
بعد فترة من الزمن قد تكون بضع سنوات، أجرى المختار جريس معاملاته للعودة إلى سحماتا لأن معظم عائلته وأقربائه بقوا هناك، فأخذ أهله ومتاعه واتجه عائداً إلى سحماتا ولكنه لم يتمكن من تجاوز الحدود لأسباب تتعلق بالأوراق والمعاملات .. وكان المختار حساساً – كما يقول أبو خلدون- ورقيقاً ولم يشأ أن يعود بالخيبة إلى أهل بلده الموجودين في بعلبك، فقرر الانتقال مع امرأته وبناته وابنه قيصر الذي ولد في بعلبك وأخته رتيبة إلى مخيم ضبيه..
الجلسة مع أبو خلدون قد لا تنتهي إذا استمر الحديث عن الذكريات المتعلقة بسحماتا وأهلها، ولكنك عندما تتحدث معه عن فكرة العودة إلى سحماتا وعن مشاعره تجاه هذا الحلم، ستجد في قلبه غصة وفي عينيه الكثير من الدمع.. وإنك لتشعر في لحظة كهذه أن نسيان سحماتا البلد وسحماتا الأهل والتاريخ أمر غير وارد لا عند أبو خلدون ولا عند كل من عاش في سحماتا أو معها.