الحكاية المرّة لعائلة الجمل
محطات في المأساة.. ومحطة في النجاة
مجلة العودة
ماهر حجازي/ دمشق
عائلة الجمل.. إنها الحكاية المرّة لعائلة فلسطينية هُجرت من العراق وواجهت تفاصيل مأساوية في عدة مراحل، وصولاً إلى انفراج الكرب وانقضاء الحاجة، قلت في نفسي، بعد عام من الحكايات المأساوية والنهايات المؤلمة، عسى أن نختم العام الأول لهذه السلسلة، بالرغم مما فيها من هموم، بقصة تبعث الطمأنينة في القلوب، وإن كانت لم تحقق الحل المثالي؟
في البداية
إنها عائلة اللاجئ الفلسطيني رأفت الجمل المولود في عام 1970 في بغداد، وتعود جذوره في فلسطين إلى قرية إجزم قضاء حيفا المحتلة عام 1948. سكن رأفت وعائلته المكونة من ستة أفراد في مجمع البلديات، عمل في دهان السيارات، حيث كان يملك ورشة خاصة به، يكدّ فيها ويكسب ماله حلالاً طيباً.
عاش رأفت كغيره من الفلسطينيين حياة آمنة ومستقرة لا تشوبها شائبة، ويسود جو من المودة والأخوة بين ساكني تجمع البلديات الفلسطيني وعلاقات مميزة مع الشعب العراقي، كل ذلك كان قبل احتلال العراق.
نُذُر المعاناة
في عام 2006 لاحق رأفت عناصر من الميليشيات الطائفية يستقلون سيارتهم في منطقة العلاوة ببغداد حتى مطار المثنى وحاولوا اختطافه، لكنهم لم يتمكنوا من الإمساك به وطلبوا منه أن يغادر العراق. وبعد شهرين من محاولة الاختطاف الفاشلة اتصلوا بجواله الخاص: «رأفت ما زلت في العراق! هذا آخر إنذار لك»، كان ذلك في شهر آب (أغسطس) 2006.
بعد هذا التهديد أُجبر رأفت على البقاء في منزله وعدم الذهاب إلى ورشته، خشية أن يتعرض للخطف والتعذيب على يد هؤلاء المجرمين الذين خطفوا وعذبوا الكثير من الفلسطينيين وألقوا بجثثهم في مجامع القمامة وآثار التعذيب الوحشي بادية على أجسادهم.
في 19 تشرين الأول (أكتوبر) 2007 في شهر رمضان، وبعد خروج المصلين من صلاة التراويح في مسجد القدس بالبلديات، ومنهم رأفت وولداه، قصفت الميليشيات مجمع البلديات بثلاث قذائف هاون ثم أتبعوها بأربع قذائف أخرى، ليرتقي في هذه الجريمة أربعة شهداء منهم عدنان محمود وعامر فرحة.
زوجة رأفت أطلت برأسها من نافذة المنزل لتطمئن إلى زوجها وطفليها، إلا أن قذيفة غادرة انفجرت على مقربة منها فأصابتها في رأسها وهي تحمل طفلتها الرضيعة نبأ (شهران ونصف).
قام رأفت ورجال البلديات بنقل الشهداء إلى مسجد القدس، ثم عاد إلى منزله للاطمئنان إلى أسرته فوجد زوجته مستلقية على الأرض والدماء تتدفق من رأسها وتحتضن طفلتها بين ذراعيها.
على الفور نقل رأفت زوجته إلى مشفى الشيخ زايد في بغداد.. لقد أصيبت بتهشم في عظام الجمجمة. لقد أدخلت المشفى على أساس أنها عراقية خشية أن يعرفوا أنها فلسطينية، وأجريت لها عملية جراحية في الرأس..
خلال فترة علاجها في المشفى جاء أحد الضباط العراقيين للسؤال عن الجرحى الفلسطينيين في القصف، إلا أن رأفت أصرّ على أن زوجته عراقية وأنه يسكن بالقرب من العمارات الفلسطينية.
لكن سرعان ما انكشف أمرهم، فقرر بعد عشرة أيام أن يُخرج زوجته من المشفى على مسؤوليته الشخصية ليتابع علاجها على نفقته الخاصة في البيت، وكانت الزوجة لا تزال في غيبوبة استمرت معها شهرين، وبحاجة لجراحة ثانية.
السعي لعلاج الزوجة
نتيجة للتدهور الأمني في العراق لم يستطع رأفت إتمام علاج زوجته، وبدأ يسعى إلى نقلها للعلاج في الخارج.
وجاءت لحظة الفرج.. فضائية الجزيرة تعرض لقاء مع مدير الهلال الأحمر الفلسطيني، اتصل رأفت بالبرنامج وعرض مشكلته وما حدث مع زوجته وأنها بحاجة إلى عمل جراحي خارج العراق، وبعد يومين اتصل به السفير الفلسطيني في العراق دليل القسوس وأخبره أنه حصل على موافقة من رئاسة السلطة الفلسطينية لعلاج زوجته خارج العراق، وطلب منه إحضار جوازات سفر لإجراء المعاملات.
أخذت الأيام تمضي والأشهر ولا جديد يذكر، والزوجة المريضة تتفاقم حالتها الصحية من سيئ إلى أسوأ، وكلما اتصل رأفت بالسفارة الفلسطينية يسألهم عن موعد السفر يقولون له اصبر يا رأفت!!
حينها وبعد تبخّر وعود السفارة، قرر رأفت السفر إلى الإمارات العربية المتحدة بتأشيرة زيارة لثلاثة أشهر، وانطلق رأفت نحو محطة جديدة من مأساتهم.
في الإمارات
غادروا العراق في الثامن من آذار 2007 عبر مطار بغداد. في الإمارات أُجريت فحوص طبية للزوجة التي بالكاد تعرف ما يدور حولها، وقال الأطباء إنها بحاجة لزرع عظام في جمجمة الرأس وحددوا موعداً لإجراء العملية، لكن للأسف كانت مدة التأشيرة قد انتهت.
فقرر رأفت العودة إلى العراق من دون إجراء الجراحة لزوجته فهو غير قادر على دفع الغرامة المالية المترتبة على عائلته لكل يوم تأخير والبالغة (350 دولاراً) لكل يوم. وفعلاً في العاشر من حزيران (يونيو) 2007 توجهوا إلى مطار دبي للسفر على الخطوط الجوية العراقية، إلا أنهم فوجئوا بمنعهم من صعود الطائرة بدعوى أن أي عربي يغادر العراق يُمنع من العودة إليه وخاصة الفلسطينيين.
هنا بدأت محطة جديدة من المعاناة في مطار دبي حيث مكث رأفت وعائلته أسبوعاً كاملاً ينامون في صالة المغادرين والزوجة تعاني الأمرّين، لكنه حاول جاهداً أن يحصل على تأشيرة للعودة إلى العراق من السفارة العراقية في الإمارات التي رفضت ذلك. ذهب إلى السفارة الفلسطينية في أبو ظبي فلم يقدموا له شيئاً، أخبروه بأن يذهب إلى السفارة السورية بدعوى وجود اتفاق بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة السورية يمكّن الفلسطيني من دخول سورية بدون فيزا، ذهب لكن دون جدوى.
وجاء بعض الفرج
نُشرتْ قصة رأفت في موقع إلكتروني يُعنى بقضية فلسطينيي العراق، يتحدث عن عائلة فلسطينية محجوزة في مطار دبي. اتصلتُ برأفت، تعرّفتُ إلى قصته، وبدأنا العمل على مساعدته.
أرسلنا قصته ورقم جواله إلى «منظمة أصدقاء الإنسان الدولية» في النمسا التي بدورها اتصلت به وطلبت منه في خطوة أولى أن يعود إلى المطار بعد أن غادره إلى بيت أقاربه، وفعلاً عاد رأفت وأولاده فقط من دون الزوجة التي لم تكن تستطيع الحراك، ثم أصدرت منظمة أصدقاء الإنسان بياناً طالبت فيه الحكومتين الإماراتية والسورية بمساعدته. ثم اتصلت به أيضاً فضائية الأقصى، وكانت أولى وسائل الإعلام. ثم فضائية الجزيرة التي استضافته على الهواء مباشرة في نشرة أخبار مع مدير جوازات دبي، الذي اتصل بعدها برأفت وأخبره أنه سيحل مشكلته وسيعفيه من الغرامة المالية وجُددت إقامتهم لثلاثة أشهر أخرى.
الزوجة المريضة تمكنت من إجراء الجراحة على نفقة الهلال الأحمر الإماراتي، وذلك بعد أن لقيت قضيته لفتة إنسانية من مؤسسات إنسانية وإعلامية.
بعد انقضاء ثلاثة أشهر
بدأ رأفت يفكر ماذا سيفعل بعد انتهاء إقامته، وإلى أين يذهب، أيضاً خلال محاولات مساعدته وإنقاذه مما هو عليه، وبعد رسالة مناشدة إلى رئيس الوزراء الفلسطيني إسماعيل هنية في قطاع غزة، نُشرت في صحيفة «فلسطين» اليومية في قطاع غزة، اتصلت جميلة الشنطي عضو المجلس التشريعي الفلسطيني عن كتلة التغيير والإصلاح برأفت وأخبرته أن هنيّة اتصل برئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل بغرض الحصول على موافقة لدخوله سورية، وفعلاً بعد ثلاثة أيام اتصلوا به وأخبروه أن الموافقة جاهزة.
بعد خروج زوجته من المشفى، تردد رأفت في الذهاب إلى سورية، خشية أن يتكرر معه ما حصل بالإمارات بعد انتهاء مدة الإقامة ثلاثة أشهر، فقدم للحصول على تأشيرة دخول إلى دولة أوروبية، وتمكن من الوصول إلى السويد، وعند وصوله في 11/11/2007 بدأ بمعاملات اللجوء ليحصل على الإقامة الدائمة في 15/3/2008.
يقول رأفت: «وضعي الآن مستقر.. زوجتي تكمل علاجها، وقد تحسنت صحتها.. أنا وأولادي ندرس اللغة السويدية.. هدفي أن أحصل على الجنسية وأعود إلى الدول العربية.. لكن للأسف العرب ما بدهم إيانا.. ابني أحمد يعشق فلسطين يجهد ليحصل على خريطة فلسطين كي يعلقها على جدار منزلنا».
هل هذه هي النهاية المثالية؟ قد تكون سعيدة على غير ما كتبناه من حلقات سابقة، لكنها تبقى ناقصة بسبب الحسرة التي زرعها العرب في قلب رأفت وأسرته، وللشوق المتأجج بين جنباتهم لمن بقي من أهلهم بين فكي المأساة والآلام.