ياسر قدورة – برج البراجنة
لا نحظى بفرصة اللقاء مع أمثال الحاج عبد الكريم فايز كل يوم، فقد زرناه في منزل صهره مشهور عبد الحليم في مخيم برج البراجنة، أثناء زيارة الحاج عبد الكريم إلى لبنان قادماً من الدانمارك حيث يقيم، ويفترض أن تستمر زيارته هذه شهراً أو شهرين.
الحاج عبد الكريم من مواليد سحماتا في العام 1927 كما هو مسجل في بطاقة هويته، لكنه يقول كما يقول معظم اللاجئين الذين انتقلوا إلى لبنان عام 1948 بأن التواريخ المسجلة غير دقيقة لأنها لم تعتمد على أية أوراق ثبوتية، بل على ما كان يقوله الآباء أو المخاتير أحياناً. المهم أن الحاج عبد الكريم ورغم عمره الذي تجاوز 84 عاماً لا تزال ذاكرته متقدة لا سيما عندما يتعلق الأمر بسحماتا وحاراتها وبيوتها.. فقد جال على البلدة – أثناء الزيارة - بيتاً بيتاً ذاكراً أسماء أصحابها وكأنه يقرؤها من الخريطة.
بدأت معه ببناء شجرة عائلة فايز، وذكر من البداية أن عائلة فايز ليست عائلة كبيرة في سحماتا، وبدأ من جده أحمد فايز الذي كان له عدد من الأبناء والبنات ولكن الحاج عبد الكريم لا يعرف منهم سوى والده محمد وعمته زهيّة، كما أشار أن زيدان حسن وأسعد حسن هما شقيقا والده من جهة الأم، ولم يدرك الحاج عبد الكريم جده حياً، إذ كان قد توفي قبل ولادة عبد الكريم.
وكان لـ محمد أحمد فايز أربعة أبناء وابنتان، ولدوا جميعاً في سحماتا: عبد القادر، عبد الله، عبد الكريم، احمد، عيشة وريّا.. أما عبد القادر فقد توفي صغيراً في سحماتا، وعبد الله استشهد في مخيم الرشيدية بقصف للطيران وهو ذاهب للوضوء قبيل صلاة الفجر ودفن في المخيم، وأحمد توفي في سحماتا بعد مرض مفاجئ إثر حادثة يروي الحاج عبد الكريم تفاصيلها.
فقد تعرض أحمد محمد فايز لعملية احتيال من شخص ادّعى أنه في الجيش البريطاني وعرض على أحمد أن يبيعه سلاحاً بسعر زهيد ولكن الرجل أخذ منه المال واختفى. بعد المتابعة والسؤال تبين أن الرجل من بلدة كفرشوبا في لبنان فأصر أحمد على اللحاق به، رغم أن البعض ومنهم أخوه عبد الكريم قد نصحوه بأن لا يفعل، خاصة أن المبلغ المالي لم يكن كبيراً ( 50 ليرة)، إلا أن أحمد أراد أن يسترد حقه من الرجل بغض النظر عن قيمة المبلغ فذهب إلى لبنان ليلحق بالمحتال.. ولكنه عاد بعد فترة وقد أصيب بمرض مفاجئ يقال أنه بسبب التعب الشديد الذي أصاب أحمد من الجري رغم أن صحته لا تساعده على ذلك، ومكث أسبوعاً على هذا الحال حتى تمكن منه المرض وتوفي.
عبد الكريم الذي كان عازباً في ذلك الوقت تزوج من زوجة أخيه المرحوم، وقد كان لها ابنتان من زوجها أحمد وهما: صبحية ووداد.
يذكر أن والدة عبد الكريم وهي نبيهة عبد الكريم فرهود قد توفيت بعد 8 أيام من وصولها مع اللاجئين إلى منطقة بعلبك، وكانت أول من دفن هناك.. أما عبد الكريم فقد أصيب لاحقاً أثناء القصف على مخيم الرشيدية في العام 1987 إصابة بالغة في ساقه.
أما عن العمل في سحماتا فيذكر الحاج عبد الكريم أن معظم أهل البلد كانوا يعملون في الأرض، وكذلك يعتمدون على زراعة الدخان ولكن الشركة المحتكرة لشراء وبيع الدخان كانت تستغل أهل البلد ولا تعطيهم ما يستحقون من الأرباح. ويذكر أنه في إحدى السنوات زرعوا الدخان قنطار و15 رطلاً، ولكن الشركة قالت أنها لا تحتاجه ( وكان يوزن ويوضب في المنازل) فبقي المحصول في البيت. وفي العادة كانت الشركة تزن الدخان فإذا كان زائداً عن المطلوب قالوا أن ذلك بسبب الرطوبة ولا يدفعون مقابل الوزن الزائد أما إذا كان الوزن ناقصاً فكانت الشركة تفرض الغرامة على المزارع.. في السنة التالية قالت الشركة أنها ستشتري الموسم الجديد وتحرق القديم فهي لا تحتاجه أو بإمكان المزارعين التصرف بالمحصول بمعرفتهم، فما كان من والد عبد الكريم إلا أن باع الموسم القديم ولكن البيع كان مقابل مبلغ زهيد جداً لم يتجاوز الـ 40 قرشاً.
للأسباب السابقة فضل أحمد فايز وأخوه عبد الكريم فايز العمل مع الحكومة الانجليزية في رصف الشوارع وتزفيتها وبناء مقاعدها العامة، كما كان الحال في الشارع من عكا إلى الناقورة. وكن أحمد يتقاضى يومياً نصف ليرة وعبد الكريم 35 قرشاً يومياً، ولكن أحمد وجد وظيفة حكومية فيما بعد.. أما عبد الله فكان يعمل مع أخويه أحياناً ولكنه صار يعمل في التجارة لاحقاً، بدأ بجمع البيض من البلد ويينقلهم ببوسطة ترشيحا ويأخذهم للبيع في حيفا ويحضر معه عطارة واساور للنساء وخرز وعطور، يمر على سوق الدلالة ويحضر معه الجاكيتات للبيع في البلد.
عن الأحداث التي أدت إلى تهجير الناس من سحماتا يقول الحاج عبد الكريم:
( كنا نطلع لمّا ييجي الطيران يرموا علينا أوراق، زتّوا لنا أوراق " سلموا بتسلموا" جبناهم من البيادر.. ونحن كما تعرف ما عندنا استعدادات، الحكم للانجليز، ما كان عندنا فشكة، اللي بيلاقوا عنده فشكة بيحكموه سنتين أو بيجيب البارودة تبعتها. تسلّحت الناس بعدما انسحب الانجليز، لا تدريب ولا شي، فرضوا على البلد أن كل واحد لازم يشتري بارودة، اللي ما معوش كل اثنين يشتروا بارودة واللي معه يشتري بارودة.. تسلحنا وصرنا نطلع دورية حول البلد، إجا جيش الإنقاذ قال إحنا بنقاتل بس انتو احرسوا البلد.
كان في جيس بيقولوا له جيش ابو ابراهيم، ما شفناهم إلا هم منسحبين بلا سلاح وجايين على البلد، قالوا كانوا نواحي القدس وقالوا راحت حيفا وراحت عكا.. من جيش الإنقاذ جاء لعندنا الجيش السوري، أول يوم وثاني يوم قالوا بدهم ينبسطوا ليلتين وبعدين ينزلوا على الحرب.. أنا كنت أدق (اعزف) على الشبّابة وهم يرقصوا ويدبكوا.
النتيجة، قالوا شو في حواليكم يهود؟ قلنا حوالينا نهاريا وقلعة جدّين فيها شي 70 يهودي بس محصّنة.. قالوا هذول إن شاء الله ليلتين وبعدها فش يهود. بعثنا معهم دواليل نزلوا معهم، اليهود مشرطين حولهم وواضعين ألغام، أول النهار أعطوا كوماندا أن القلعة لازم تنهزم قبل نهاريا، في ناس صاروا يزحفوا وكان اليهود بدهم يسلموا، وكان بعد في دبابتين للانجليز ما انسحبوا كانوا صوب الكابري.. وقف القائد يقول انسحاب انسحاب فصاروا جماعتنا ينسحبوا وصار اليهود يطلقون علينا النار من الطلّاقات، كل الذين أصيبوا أصيبوا من الخلف.
غابت المسألة 4 أو 5 أيام قبل ما انسحبوا كمان جابونا ولموا أهل الدير وسحماتا وترشيحا ورحنا نعمل بتمهيد طريق من أرض الدير لأرض الرميش، وكل واحد فينا ضرب بهذه الطريق هواي (أي ضربة) قلنا هذا شارع الهزيمة، انهزم منها الجيش وانهزمنا معاهم. اللي جايين من ناحية ترشيحا والكابري يقولوا شو بعدكم بتسووا هون؟! المدافع صارت تضرب ترشيحا بالفعل.
أنا كنت دورية أنا وأسعد زهرة وزوج أختها للحجة بعثونا على سهلة اسمها قرحاتا، مرت طيارة وكان أسعد زهرة بدوا يرميها (يطلق عليها النار) قلت له: لا راح تصيبها ولا إشي، وإن رمت علينا الحجارة بتشقفنا (لأن الأرض فيها حجارة صغيرة)، والله طيارة برمت فوق البلد وضربت سهلة بالبلد بيقولوا لها العبية، هاي لدار قدورة حواكير تحت البلد. وضربت بالقلعة من فوق، في شجرة قصتها شقفتين وقتل واحد اسمه ....أسعد نمر وضربت من شمال البلد، دشرنا الدورية ورجعنا للبلد، مافيش باب عالق والناس عم ترحل، انهزمنا. انسحبنا وطلعنا على رميش.
طلعت أنا وأمي وأبوي ...أخوي طلع لحاله هو وامرأته وابنه شحادة. طلعنا على رميش 3 ليالي، كان معي بقر (6 روس) أطلعتهم معي وحمارة أجلك الله، بعتهم بتراب المصاري، 50 ليرة بينما البقرة الواحدة كان ثمنها 50 ليرة فلسطيني. مافي شي نطعميهم، كله صار يبيع البقر.
بتنا ليلتين في بنت جبيل والتقينا بدار خالتي دار الحاج هاشم وجابوا بوسطات وأخذونا على البرج الشمالي في صور، لاقيت أخوي سابقني لهناك هو وامرأته آخذين شادر هو ودار علي زهية والشيخ بدر وامرأته وأولاده (كان عنده بنات).
بقيوا أمي وأبوي عندهم وأنا ذهبت ونمت في المغر ليلتين، جابوا سيارات وأطلعونا على بعلبك وما كان فيها حدا، وصلنا فقط كم عيلة وصلنا بالليل نحن وعلي سليمان وعيلته وقاسم محمد يوسف وعيلته، بعد ليلتين أو ثلاث امتلأت القشلة .
أنا أخذت غرفة لحالي وبتنا فيها ليلتين، يوم طلعت لبرا واللا العسكريين من الجيش بيسألوني: مين في هون؟ قلت لهم أنا. قال كم واحد؟ قلت له ثلاثة.. قال يا بتسكّنوا حدا معكم يا بتطلعوا من هاي الغرفة. وأمي كانت عاجزة قالت لي: أنا مش قادرة اعجن ولا أخبز، بيكي بتشوف حدا من قرايبك ييجي يقعد معنا.. طلعت لاقيت محمد هدلة أبوه لعلي الشهربان، ابن عمها لعيلتي. وطلع جايب معه ابنته امرأة خالد محمد علي أبو سليمان ويعقوب.. عم بيدوروا على بيت، قلت له تقعدوا معنا؟ إجا ومعه 3 عائلات وصرنا 4 عائلات في غرفة).
حدثنا الحاج عبد الكريم فايز عن والده فقال: كان من الفلاحين، قبل أن يتزوج أمي أبوه كان حراث عند دار الحاج محمد وعند دار حسين علي قدورة.. كان مرابع مش أجير بعد أن تزوج، يأخذ ربع الأرض .. صار عندنا أرض وبقر.
جدي أبو أمي عندما توفي كان عمري 8 سنين ولقبه كان الشايب من كثر ما هو أشقر وهو من الدير، تزوج امرأة من الدير وخلفت خالتي زهية زوجة الحاج هاشم، وخلفت غزالة زوجة عبد الله علوان وهدى زوجة محمد سليم الخطيب وندى تزوجت سليم صبحة.