كانت بيارة والدي سليم عودة إلى الجنوب من القرية .وكانت حدودها الشرقية الطريق العام، والجنوبية بيارة اسماعيل حسين والغربية بيارة خضر صبحة والشمالية بيارة محمود الخطيب.
وعلامة الحدود كانت أشجار الكينا والسرو ، تزنرُها أطواق من الأسلاك الشائكة وهذه الأسلاك هي سياجات البيارة مع ما ينمو على السياج عادة من نبات شائك مثل العليق ، الذي يتعلق بما حوله وله ثمر كثمر التوت ومثل الطيّون الذي كان يؤتى به الى البيوت لطرد أو قتل بعض الحشرات برائحته القوية والذي كانوا يضربون به الصبّار لتنظيفه من الشو وشوك الصبار دقيق جدا كالوبر كما هو معروف وللطيون ورق لزج يلتقط هذا الشوك بسهولة وللطيون زهر أصفر اللون.
كانت واجهة البيارة تطل على الطريق العام بوابتها مصنوعة من قطع الخشب الطويلة والغليظة والمثبتة بشكل متعارض ضمن تربيعتين من الخشب الغليظ أيضا هما مصراعي البوابة. كانوا في الزيب يقولون " مورينة " لقطعة الخشب الطويلة غليظة كانت أو رفيعة. وكانت بوابة البيارة قريبة من الطرف الجنوبي للواجهة وكان هناك عند هذا الطرف شجرة مشمش كبيرة ، من النوع الكلابي ذي البزرة المُرة كانت هذه الشجرة على السياج تماما وأغصانها تمتد الى الخارج، وفي موسـم المشمش كان بعض المارة يقطفون الثمر عنها ويأكلون وبعضهم يملأون به ما لديهم من الأوعية وينصرفون. كانوا في الزيب يقولون " صدقة جارية " عن الشجرة التي يأكل من ثمرها من يشاء من عابري السبيل.
وموسـم المشمش قصير كما هو معروف وكانوا يقولون " جمْعة مِـشِـمْـشية " في أمر يعتبرونه قصير الأمد. كانت تلك الأيام جميلة وكانت البوابة تفتح على فـسحة ترابية صلبة
تليها بئر ارتوازية فمها واسع مستـدير وكانت البئر بين بركة ماء لجهة الجنوب ، وحظيرة لجهة الشمال.
وكان للحظيرة شباك عريض يطل على البئر وكان في الحظيرة موتور قريب من هذا الشباك وقشاط عريض يصل الموتور بمضخة عند سطح الماء في البئر على عمقأمتار قليلة لا تتجاوز الأربعة أو الخمسة ،وكانوا ينهوننا نحن الصغار ،عن الإمساك بهذا القشاط خشية أن " ينتعْنا " أي يحملنا ويقذف بنا الى البئر. وكان الموتور يُدار بمفتاح يُعرف باسم مناويل . وبه أيضا كانت تدار محركات السيارات في ذلك الزمان، ومتى دار الموتور راح القشاط يدور ويُشغل المضخة فتسحب هذه الماء في أنبوب متصل بها وطرفه الآخر مُثبت على حافة البركة، وكان لهذا الموتور صوت عريض متقطع طقطقات تذهبُ بعيدا في سكون البساتين .
كانت تلك الأيام جميلة، وكان في الحظيرة عدد كبير من الصناديق الفارغة يحتفظون بها هناك بعيدا عن الشمس أو المطر لأنها مصنوعة من الخشب وفي مواسم الحمضيات ، كانوا يقطفون البرتقال واليوسف أفندي والليمون الحامض والليمون الحلو والمغربي والأبي صفي ويأتون به في الصناديق الى الحظيرة حيث يتم توضيبُه استعدادا لشحنه في صباح اليوم التالي الى عكا أو حيفا.
وكانوا أيضا، يملأون أكياس الخيش ، بما تساقط على الأرض من هذه الحمضيات بفعل الرياح ، أو لشدة النضج ويأتون به إلى الحظيرة وكانت هذه الثمار تعرف باسم الجُوُل . وكانوا في ذروة الموسم حين تهبط أسعار الحمضيات يحملون الجُوُل الى خارج البوابة ويحملون الى هناك أيضا الثمار المضْرُوبة واسمها عند أهل الزيب العـوِّير أي الثمار التي أصابها عطب في قشرتها أو كسر في أثناء النقل. وكان من عادة المكاري أن يمُرّ ببوابات البيارات والبساتين ، ويحمل على حماره ما يجده هناك من الجوُل والعـوِّير ويبيعه في القرى التي لا حمضيات في أراضيها. كانت تلك الأيام جميلة .
في يوم الرّي كان العم أبو قاسم يُدير الموتور فيصلُ الماءُ الى البركة وتوّا يفتحُ السِّكر فيندفع ماء البركة من خلاله الى الجدول وقد روعي التناسق بين الماء الداخل الى البركة والماءالخارج منها فهي على امتداد ساعات الرّي لا تفرغ ولا تفيض. كان والدي يوكلُ أشغال البيارة الى ابن عمه أبي قاسم محمود عودة لينصرف هو بمعظم وقته الى تجارته. كان الجدول يُتاخمُ السياج مع بيارة اسماعيل حسين ويصل بالماء الى الزاوية الجنوبية-الغربية للبيارة وكانت تتفرع عن هذا الجدول الممتد من ضلعها الشرقي الى ضلعها الغربي سـواقٍ تقطعُ البيارة من جنوبها الى شمالها وخريرُ السواقي يؤنـسُ النفـس.
كان العم أبو قاسم يفتح بمجرفته ترعة ضيقة في الجدول فينهمر الماء منه الى الساقية التي بين أول صفين من الشجر ويسقيهما منه شجرة بعد شجرة ثم يسد هذه الترع ويفتح أخرى ليجرى الماء في الساقية الثانية بين صفين أخريين من الشجر وهكذا الى أن يسقي الشجر في آخر صفين لجهة الغرب.
وكانوا في الزيب يقولون الريف بدل الصف من الشجر، كانت تلك الأيام جميلة.
غالبية الشجر في البيارة كانت من شجر البرتقال اليافاوي وهو البيضاوي الشكل الحلو الطعم وعلى شئ من الحموضة ذو النكهة الفريدة تليها أشجار اليوسف أفندي ، فالليمون الحامض وكانت هناك شجرات من نوع اسمه المغربي ونوع آخر أصغر حجما قشرته ملساء ولونه أصفر هو الليمون السكري، ونوع اسمه الأبو صْفير . بقيت منه بضع شجرات بعد تطعيمه بنوع من اليوسف أفندي اسمه الكلمنتين. ومن الأبي صفير كانوا يصنعون ماء الزهر وزيت ماء الزهر العالي القيمة.وكانوا يفركون ورقة الأبي صفير ، الطرية القصِفة بين راحتي اليدين فيعطيهما زيتها شيئا من عطره الزكي وكان في البيارة أشجار أخرى ، من غير الحمضيات منها بضع شجرات موز وكنا إخوتي وأنا نعجب كيف أن الشجرة كانت تموت بعد أن يكتمل نمو القطف الذي تحمله ثم تنبت من جذورها شجرة جديدة . ومنها بضع شجرات تفاح بعضها من نوع السكري والباقي من نوع آخر حبته أكبر بقليل من حبة السكري ولها خدّ أحمر وطعمها حلو على حامض ومنها شجرات الرمان بعضها من نوع البْرادي وهو الحلو وبعضها من نوع الخضاري بالخاء الساكنة ذي الحب الأحمر والطعم الحامض وبعضها من نوع اللفاني وهو لا حلو ولا حامض. ومنها شجرات الدراق صغير الحبة، ومنها شجرات التين، على أنواع . الطوالي ذو الكوز الطويل واللب الأحمر والأبيض؛ البْياضي، ذو الكوز الكروي واللب الأشقر والطعم الحلو؛ البقراطي، ذو الكوز الكروي على بعض الاستطالة واللب الأحم . وكان اسمه في الزيب الشـتاوي. ومنها شجرات الكمثرى ، صغير الحبة أيضا كانوا في الزيب يقولون انجاص ولا يقولون كمثرى . وكان في البيارة أكثر من شجرة عنب. منها واحدة من نوع الحلواني ، كانت عند الحظيرة أغصانها المرفوعة على أعمدة ، كانت تغطي المدخل اليها.
وكانت العصافير تحط على أشجار العنب والتين . وزقزقـتها نغمات توحي بالأمن والأمان وكانت نسمات الصباح تحمل من جبال اللوز المجاور صوت موسيقى حزينة ربما هي موسيقى الحنين أو النوستالجيا يعزفها جندي في معسكر الجيش البريطاني هناك ويشكو بها غربته عن الأهل والديار. كانت تلك الأيام جميلة .
في موسم الحمضيات الأول بعد سقوط القرية ، تسلل والدي اليها من جنوب لبنان وبصحبته صهره خضر صبحة دفعتهما الى هذه المخاطرة رغبة جامحة ، لأن يريا ما حلّ بأرزاقهما بعد أن طال الانتظار .. لأشهر.
وكان والدي يتحرقُ شوقا، ليرى بعينه ما إذا نجح تطعيم أشجار الأبي صْفير في بيارته بالكلمنتين ذلك أن هذه التجربة كانت جديدة على الزيب.
أخذا الطريق مشـيا من بلدة الناقورة حتى البساتين عبر جبل عامل ليتفاديا نقطة الحدود البريطانية في رأس الناقورة. رأيا الأرزاق وعادا سالميْن.
بعد عودته الى البيت، الذي كان استأجره لشهر واحد، بخمسة عشر جنيها فلسطينيا، من يوسف عواضة في صور روى كيف أن الكلمنتين في البيارة " مثل التراب على أمه ! " أي أن الشجر مُثـقلٌ بالثمر .من رأى وجهه وهو يروي ذلك ، أدرك كيف يكون الفرحُ مُرّا.
"الزيب كما عرفتها"
احمد سليم عودة