ياسر قدورة - صيدا
قبل أن ألتقي بالأستاذ خالد عزام، أبو وليد، كنت أدرك أن اللقاء سيكون غنياً بالمعلومات عن سحماتا وعائلاتها، وبالتحديد عائلة عزام، فقد أوصاني المرحوم أحمد أيوب بزيارته لمعرفته بما لدى الأستاذ خالد من إحاطة بكل ما يتعلق بالبلدة، وكذلك كتب لي الحاج عبد الرحيم الجشي في إحدى رسائله بأن زيارة الأستاذ خالد ستكون مفيدة جداً في إطار التوثيق لعائلات سحماتا..
ومن بداية الزيارة أدركت أن اللقاء لن يكون أقل مما توقعت، بل زد عليه أنه كان مليئاً بالعواطف والمشاعر الجياشة لبلدة أخرج منها الأستاذ خالد منذ 63 عاماً، ومع ذلك لا تزال كلماته وكتاباته تفيض حباً وشوقاً لسحماتا.
أظهر أبو وليد اهتمامه بمشروع التوثيق لجذور العائلات الفلسطينية، واعتبر أن اهتمام الشباب بما لدى الكبار من تاريخ وذاكرة عن الوطن وعائلاته يعتبر بشارة وتأكيداً بأن الأجيال لن تنسى حقها بالعودة.
أعطاني الأستاذ خالد جزءاً مهماً من وقته في الزيارة لبناء شجرة العائلة المكونة من فرعين: جده أحمد محمد طه عزام وكان له ولدان ( محمد وعلي) وثلاث بنات ( مريم، عائشة وتمام)، والفرع الثاني لابن عم أحمد محمد طه عزام وهو خليل عزام وقد كان له ثلاثة أبناء ( أحمد، إبراهيم ومحمد).
ومن جيران العائلة في سحماتا يتذكر أبو وليد: " أقرب الجيران بيت الجشي، الشيخ محمود الجشي، عبد الرحيم الجشي، محمد الجشي، عبد الكريم حسون، بجانب المسجد بيت عبد الوهاب، الشيخ يحيى الجشي، الشيخ حسين سليمان وأولاده، ودار أيوب: حسن أيوب وأيوب أيوب، ودار الحجار.. هذا هو التجمع القريب لبيتنا".
طلبت من أبو الوليد أن يحدثني عن جده أحمد محمد طه عزام، فقال: " رجل هادئ، مؤمن، على صداقة مع كل أبناء البلد، ودلالات الصداقة زواج أبنائه:
- محمد تزوج من ابنة مصطفى محمود كمال وهو من الرجالات الكبار في سحماتاز
- علي تزوج من ابنة أسعد زيدان وهو رجل من كبار أهالي سحماتا ومن الملّاكين.
- تمام تزوجت من رشيد العبد قدورة وقد كان زعيم العائلة، وفي أي زيارة رسمية لسحماتا كان بيت رشيد العبد يشكل أرضية صالحة للاستقبال.
- عائشة تزوجت من عوض الشيخ محمود الجشي وهو من كبار الملاكين في سحماتا.
- مريم تزوجت من يوسف عبد الغني عامر وهو أيضاً من الوجهاء والملاكين في سحماتا.
إذاً قراءة أحمد عزام، قراءة النسب وارتباطه بكل الناس الطيبين في قرية سحماتا، تعطي صورة واضحة عن احمد عزام..
من بين كل القرى بحسب معرفتي وإطلالتي، البلد االتي تمتاز أنه ليس هناك دم في سحماتا، بلد في علاقاتها مسالمة..
جدي كان يشكل حالة، معروف بشيخ من شيوخ القرية الهادئين والطيبين، وكان من االملاكين فيها. وقد خدم العسكرية مع الجيش االتركي في اليونان وعاد إلى سحماتا..
أما والدي محمد فكان من المميزين في التعليم، وقد سمعت منذ أسبوع من سيدة كبيرة في العمر، كيف كان والدي محمد عزام يمثّل اول مسرحية في المدرسة، كان يمثل دور الملك، وتقول لا زلت أذكر الدور االذي يأخذه والدك في المسرحية"..
أما عمه علي عزام فكان يشارك بثورة الـ 36 وبفاعلية وكذلك معظم أهل البلد شاركوا في تقديم المساعدات.. " أنا أذكر كيف كان أهل البلد يتوزعوا إعداد الطعام وحاجات المقاتلين ونقلها للجبال، اليوم دار عزام، بكره دار قدورة وبعده دار حسين.. كانت العملية منظمة وموزعة على العائلات. في تلك الفترة كان في لجنة في سحماتا، رئيس اللجنة علي العبد (قدورة) وله ولد اسمه كامل علي العبد (الحدّا). اللجنة مشكلة من رؤوس العائلات والمخاتير، كانت اللجنة هي التي ترتب العلاقة بين الثوار والناس..
كان مفخرة، أذكر كيف كان ينقل الطعام على الجبال للمقاتلين.. في بعض الروايات التي قالها لي أبو القاسم أبو الهيجا- وهو من رجالات فلسطين أصحاب الفكر الثاقب في تحليله للواقع الفلسطيني – ذكر لي رواية وهو يعزيني مثل أولاده.. يتحدث عن معركة رخصون التي قادها عبد الله الأصبح من االجاعونة مع مجموعة من الشباب ضد القوات البريطانية في جبل رخصون، وكان عبد الله الأصبح يقول أنا أعتز بأولاد سحماتا.. هذا كلام أبو قاسم رحمة الله عليه".
يحدثني أبو وليد عن الأراضي في البلدة فيذكر لي كرم الخلّة، البيادر والتين الغربي.. " كان هناك مجموعة كبيرة من الأراضي لجدّي وزعها بين والدي وعمي.. ما زلت أذكر البيادر وجيران البيادر:
- من الناحية الشرقية كان سمعان وخليل سمعان
- ممن الناحية الجنوبية كان يوسف قدورة، يوسف الحاج أسعد وأخوه محمد الحاج أسعد
- من الناحية الغربية جميل صالح
- من الناحية الشمالية بيت عثمان
البيادر كانت الحقل الغني لنتاجات القرية. أيام البيادر كنت تشعر بسعادة وأنت تتعيش صيفاً يعرف بصيف البيادر: الناس، الفرح، التعاون، الاطمئنان في علاقتك مع الناس. يوم يريدون أن يذرّوا يشارك 10 – 12 زلمة".
نسأله عن الأصدقاء المقربين للوالد، فيجيب الأستاذ خالد وكأنه يستحضر الصورة منذ 63 عاماً بلمح االبصر، فيجيب: " جميل صالح قدورة، رفيق درب للوالد بل هو أخ.. وعبد الرحمن قدورة، كان خاطب أختي آمنة لابنه محمد.. لا زلت أذكر محمد عبد الرحمن (قدورة) بنوع من الحرقة في قلبي عليه.. هدوء هذا االرجل الذي رفض أن يخرج من سحماتا، أصرّ أن يبقى مع الكبار والعدد قليل، وقتله االصهاينة أمام باب بيته. كنت قريباً منه جداً، أنا ولد ولكن كان يأتي للبيت لعندنا ويعرف أني عم أدرس وكان لسان حاله دائماً: يالّا يا خالد مثل أبوك.. يا ريت الناس تبحث عمن رفضوا أن يقتلعوا من الأرض وبقي حتى استشهد أمام بيت أهله.. انطخ.. هذه تجربتنا مع عدو لا يرحم”.
أردت أن أتعرف إلى سيرته الذاتية لأبو وليد، فسألته أولاً عن اصحابه في سحماتا فبدأ بـ هاني اليماني، حسن عبد الوهاب، خالد أيوب، وديع طنوس، محمد كامل خشان، حسين علي صالح ابن المختار، والأستاذ محمد فاعور..
ويقول أن الأربعة الأوائل ( هاني، حسن، خالد أيوب، ووديع) مع خالد عزام كانوا قد أنهوا الصف الرابع في سحماتا، وفي الصف الخامس " التحقنا بمدرسة معليا وهي قرية مسيحية قرب ترشيحا، لم يكن لنا موقع في مدرسة ترشيحا فأمضينا عاماً كاملاً في معليا.. هي قرية مسيحية، وحتى اللحظة لا زلت أذكر كم هؤلاء الأهل ( من مسيحيي معليا) يمتلكون كل القيم التي نبحث عنها في الإنسان.. عشنا سنة بين أهالينا نذهب من سحماتا إلى معليا على الأقدام، كانت أيام... وديع طنوس الله ييسر أموره وين ما كان، وديع مبدا طنوس كان واحد من خمسة مع بعض، وديع كان من أهدأ الشباب بل أهدأ واحد من المجموعة الخمسة، لم يكن هناك من يفرق أن هذا مسيحي يختلف عن الباقين..
كان بيننا شقاوة، كان في باص في الشتاء يطلع من عكا ويمر على نهاريا، الكابري، معليا، ترشيحا، سحماتا، الدير وفسوطة.. خالد أيوب الله يرحم ترابه، ونحن شباب كنا نكسر القروش اللي معنا (تصير قرشين) عشان الباص، نكسرهم بالحجار.. اكتشف سائق الباص مرة أننا نكسر القروش ونطلع بباص معليا، قال مرة ثانية ما عاد اوقف لكم.. في المرة التالية طبعاً وقف لنا وطلّعنا وأخذنا.. كان في محبة ولا زالت.
من الأيام التي أعتز بها أنني عشت مع هؤلاء الشباب، معظم الأيام على مدى سنة كاملة نمضيها سيراً على الأقدام... معليا، معليا، معليا.. بارك لله بكل إنسان في معليا".
وعندما نعود لسيرة الدراسة في سحماتا، يقول أبو وليد كان في سحماتا بنتان في المدارس فقط، من بنات محمد علي حسين قدورة (أبو خالد): رابعة وقد تزوجت فيما بعد من عادل عثمان (أبو بسام)، وبهيجة التي تزوجت من علي عبد الرحمن قدورة وقد استشهددت هي وعدد من أولادها في حرب تل الزعتر.
أما الأساتذة في سحماتا فقد كانوا من خارج البلد ويذكر منهم خالد القاضي، خليل الديماسي والأستاذ أحمد..
ونسأله عن ختم االقرآن في سحماتا، فيجيبنا: " ختمت القرآن وعملت نقشة. أذكر كل الجيل االذي معنا أنا وعبد الرحيم (الجشي) وحسن عبد الوهاب وهاني (اليماني) وكل المجموعة كنا نقرأ القرآن ونختمه ونعمل نقشة ونلف البلد كلها.. نجمع مصاري وبيض ونعطيهم للشيخ".
سألناه عن بعض أفراد العائلة ابتداء من رمزية عزام التي قرأنا أنها كانت تعمل بالخياطة في سحماتا، فقال أنها عزام نسبة إلى زوجها ابراهيم خليل عزام الذي كان مسافراً في أمريكا حيث تزوجها ورجعت معه وقد كانت امرأة ذكية.. عملت بالخياطة للعائلات وليست خياطة تجارية، يعني خياطة قمباز، شروال أو قميص. ويتوسع الأستاذ خالد في الإجابة ليتناول دور االمرأة في سحماتا:
" معظم نساء سحماتا كانت تعمل في الأرض في كل مواسم الحصاد، ومواسم الزيتون والتين والتبغ. المرأة تشارك بكل أعماال القرية بالمطلق، الأراضي المزروعة بالتبغ، قطف الدخان وشك الدخان، وجمع الدخان.. المرأة كالرجل تتشارك بفاعلية. كانت المرأة تذهب إلى الغابات القريبة من القرية تجمع الحطب، وحزمة الحطب التي تحملها المرأة يعجز عنها الرجل، تضع إكليلاً على رأسها وتضع حملة الحطب وتسير حوالي 4- 5 كيلومتر حتى تصل إلى البيت".
أما عن تمام أحمد عزام فيخبرنا أنها زوجة رشيد العبد (قدورة) وهي الوحيدة التي بقيت في سحماتا. مات زوجها رشيد موتاً طبيعياً في سحماتا قبل أحداث الـ 48، وعند النكبة خرجت معنا إلى بعلبك، ولكنها رفضت البقاء ورجعت إلى فلسطين وحدها. كان عمرها تقريباً خمسين عاماً، رفضت البقاء خارج فلسطين فعادت وعاشت في ترشيحا وتوفيت هناك.. ويروي عنها الأستاذ خالد: " كان هناك صراع بينها وبين اليهود، إحدى الروايات التي وصلتني عن طريق رجل ذهب إلى فلسطين يقول كانت تذهب إلى كرم التين في سحماتا واليهودي يقول لها ممنوع، فتقول له هذه أرض أبوي مش ارضك وبدي آخذ.. كان عندها عنفوان وشخصيتها قوية، متحدثة، لبقة، أمينة بالمطلق.. وعلى طريقة الفلاحين: أخت الرجال.. وزوجها كان مميزاً كذلك وكان من الشخصيات الأولى في دار قدورة".
ثم سألناه عن عمه علي عزام وسبب خروجه إلى سوريا بدلاً من لبنان عام 1948، فأجابنا بأن زوجته كانت ابنة أسعد زيدان المتزوج من وهيبة الجشي اخت عبد الرحيم.. بيت الجشي جميعهم انطلقوا إلى حوران، والجشي لهم اقارب في بلد اسمها كفر شمس. زوجة عمي ذهبت مع كل دار الجشي إلى كفر شمس وبقوا هناك لفترة طويلة ثم استقروا في الشام، وطلع عمي علي مع أهل زوجته إلى سوريا.
وكنت قد قرأت في كتاب "سحماتا.. زهرة من رياض الجليل الأعلى" أن علي عزام كان يمتلك مكبساً للدخان في سحماتا، فسألته عن الرجل، وقال:
" هو علي محمد عزام، الأخ الأكبر لقاسم عزام، وبالفعل كان عنده مكبس دخان وهذه قضية تستحق الوقوف عندها.
مشكلة إفقار الفلاح الفلسطيني.. فقد كانت القرية تعتمد على التبغ كأساس لتخفيف حاجات الأسرة، وما تبقى من المزروعات هي للحاجات اليومية االمباشرة مثل القمح، العدس، الشعير والكرسنّة. التبغ والدخان كان مصدراً لتلبية حاجات القرية. أذكر كما أراك الآن كيف كانت تأتي سيارات شحن تأخذ الموسم، على سبيل المثال أذكر مرة سيارة شحن كبيرة وضع والدي وعمي النتاج في بالات وأرسلها في سيارات الشحن لشركة قرمان وديك في حيفا، واذكر أن نتاج العام كله كان 40 جنيه فقط. كان هناك ضغط من قبل الشركات لإفقار الفلاح، فذهب الفلاح إلى العمل على أداة فرم الدخان وتنظيمه وترتيبه ووضعه بشكل أقّة وبيعه بطريقة غير قانونية (حسب رأي الانتداب)، وكان الفلاح ينتج من هذا الفرم 20 ضعفاً عن المدخول الذي تدفعه الشركة..
وفي قضية إفقار الفلاح الفلسطيني أثناء الانتداب كان يستورد البرتقال لفلسطين حتى يضعف حال الفلسطيني والانتاج المحلي..
أما مكبس الدخان فهو أداة لا تتجاوز هذه الطاولة، وينقل من مكان لآخر.. هذا المكبس كان البوليس يطلع يكبس البيوت ويبحث عن الناس اذين يهربون الدخان.. كانوا يلاحقونهم ويحاسبونهم محاسبة دقيقة".
أما عن ابراهيم خليل عزام الذي قرأنا أنه هاجر إلى أمريكا نهاية القرن التاسع عشر أو مطلع القرن العشرين فيخبرنا ابو وليد أن لإبراهيم أخوين هما محمد وأحمد.. وقد هاجر ابراهيم إلى أمريكا هرباً من فكرة القهر التي عاشها الفلاح الفلسطيني في المرحلة الأخيرة من عهد العثمانيين وتضييقهم على الناس، ومجيء الانتداب البريطاني وإقفال كل الطرق للحياة الكريمة، كان الناس يخرجون طلباً للرزق وبحثاً عن حياة أكثر راحة.. بعض الذين هاجروا عادوا إلى سحماتا بعد سنوات، " أما عمي إبراهيم بقي حوالي 30 سنة في الاغتراب.. أما عمي أحمد فقد عاد إلى سحماتا قبل سنة من النكبة أي عام 1947، رجع من أمريكا والبرازيل، وطلع من سحماتا لاجئ على غورو، وتوفي فيها.. المخيم الموجود في بعلبك.
كان عمي يعمل في البرازيل بـ (الكشّة)، صندوق ويبيعون منه في القرى.. وفكرة الصناديق هذه انتقلت من البرازيل والأرجنتين مع العائدين من هناك. في السنوات الأولى في بعلبك كان ما يقرب من 20 إلى 30 رجل من سحماتا يبيعون بين 75 قرية، يبيعون على الصندوقة: يبيعون زيت، صابون، عقود، شفرات وأدوات للأطفال.. كانت تجربة سابقة وانعكست في بعلبك".
في هذا اللقاء لم أكثر من الأسئلة عن سحماتا بل عن أهلها وتحديداً عن عائلة عزام، وكان الأستاذ خالد ( أبو وليد) طويل البال وخير معين للبحث عن تاريخ هذه االعائلة في سحماتا وقد أفادنا بالكثير ولكن الحديث لا ينتهي.. استودعته وفي نيتي العودة إليه مجدداً للمراجعة والمتابعة، وترتيب لقاء مصور معه- إن شاء الله - لأن " الحكي مش مثل االشوف"، وعندما يجلس أي واحد من الجيل الجديد مع الأستاذ خالد فسوف يحب سحماتا دون أدنى شك، فاللقاء معه ليس غنياً بالمعلومات فحسب بل كما ذكرت في المقدمة، مليء بالذكريات والمشاعر التي يمكن أن تنتقل بالوراثة من جيل إلى جيل حتى لو لم يربط بينهم دم أو نسب.