المهد الأول حيث النشأة والتكوين فيه تنمو شخصية المبدع وتتطور خيالاته .. حدثـَّنا د. حسام عن طور النشأة والطفولة والشباب؟
ولدت في مدينة طبرية بفلسطين بتاريخ 10/5/1932، حيث مقر أخوالي آل الحاج خليل. وكان أبي الأستاذ أمين عبد الله الخطيب – رحمه الله – يذكرني دائماً أن أصل الأسرة من قرية المرصّص بقضاء بيسان حيث كان جدي الشيخ عبد الله محمد الخطيب أحد اثنين يتنافسان على زعامة القرية وربما المنطقة الضيقة من حولها. ولكني لم أعرف المرصّص إلا من خلال زيارات عابرة مع الأسرة خلال العطلة الصيفية. ومنذ ولادتي – وهذا هو سبب عزوفي عن التفاصيل – لم أعرف طعم الاستقرار، ففي طفولتي كنت موزع الانتماء بين العمومة والخؤولة، والحق أن طفولتي الأولى غير الواعية تماماً تركز على مدينة طبرية، ولكن دخلتُّ قرية المرصّص بعد ذلك جانبياً فقط. إلا أن المهم هو أن والدي كان مدرس لغة عربية وديانة في ثانوية طبرية، ولكن بسبب خلافات لا مجال لذكرها الآن حُكم عليه أن يصبح طوال حياته الوظيفية معلم قرية، وكان هذا التصنيف بين المدينة والقرية حادّاً في فلسطين، وما أظنُّ إلا أنه انتعش بتغذية من الاستعمار البريطاني آنذاك (1920-1948). وقد حدثني والداي، بل كانا يتندران بما لقيه والدي من عنت ومعارضة حين تقدم – وهو الفلاح ابن الفلاح – لخطبة ابنة المدينة، وهي من أسرة ذات مكانة، وكان من أبرز المعترضين شقيقها إسماعيل الحاج خليل (أبو عرب) ذو النفوذ الواسع، وكاد يبطل المشروع.
المهم أنه بسب انتقال والدي إلى القرى، وجدت نفسي أولا في قرية "حطِّين" ( قضاء طبرية). وفي حطِّين قضيت سنوات طفولتي الأولى، وكان أهلها فخورين جداً بالناصر صلاح الدين وانتصاره على الصليبيين في معركة حطين المعروفة. ثمّ استقر بنا المقام في قرية طيطبا التابعة لمدينة صفد، وأستطيع أن أكتب سيناريو شريط سينمائي عن ذكريات طفولتي (من الصف الأول إلى الرابع الابتدائي في مدرسة القرية التي كان أبي معلمها الوحيد)، ثم في مدرسة قرية "الجِشّ" القريبة من طيطبا حين ترفعت إلى الصف الخامس، وكان عليّ أن أداوم يومياً في تلك القرية قاطعاً الطريق كل يوم صباحاً ومساءً على الأقدام وفي ظروف مناخية قاسية جداً في فصل الشتاء.
وهكذا بدأ منوال عدم استقراري يدور دون هوادة، فبعد مساع ٍ و وساطات نُقل والدي إلى قرية "فراضية" وميزاتها أنها واقعة على الطريق العام بين حيفا وصفد، ولكن كنت حينذاك في الصف السادس، فأدخلت في منزل الطلبة التابع لثانوية صفد، وكانت تلك أولى تجاربي المرة في الحياة واحتفظ بذكريات سلبية عن تلك الفترة. وبعد سنة بقي أبي في "فراضية" وكان على الأسرة أن تنتقل إلى صفد، والأب يذهب صباحاً في الباص ويعود مساءً. وقد نعمت بأربع سنوات من الاستقرار في كنفِ الأسرة. وما كدت أنجز الصف التاسع (أيار – مايو 1948) حتى أتى اليهود الصهاينة واقتلعونا من البلدة، وغادرت مع أسرتي مشياً على الأقدام أولاً إلى جنوب لبنان ثم إلى دمشق، ومنذ ذلك الحين كُتب على جبيني العنوان الرئيسي لهويتي: "لاجئ فلسطيني"، حتى ساعة كتابة هذه السطور (1/9/2003).
أذكر زمان الكتابة، لدلالته أن الفتى – رحم الله طه حسين – عاش لاجئاً متنقلاً منذ يفاعته، أي منذ أن بدأت مرحلة وعيه الحقيقي. أما مكان الكتابة فهو أيضاً ذو دلالة ولاسيما من ناحية تأكيد الفكرة التي تطرحها إجابة السؤال الحالي، وهي أن عدم الاستقرار هو عنوان حياة الفتى العتيق والرجل السابق والشيخ الحالي! فهذه الأسطر تكتب في مقهى شرفة كوستا Costa Coffee في مطار لندن. وهذه الشرفة مطلة على حركة الطائرات الرائحة والغادية، فكأنها أبلغ ( ديكور) لشعور الفتى الشيخ بالتنقل والرحيل، فهو مثلاً قادم من ديترويت في الولايات المتحدة وفي طريقه من لندن إلى دمشق، وبعدها مباشرة إلى الدوحة عاصمة قطر.
وعذراً لهذه القفزات، فهذا ليس تاريخاً وليس سيرة ذاتية، ولكنه عرض لقلق التنقل والترحال الذي لازم حياة الفتى ولا شك أنه ترك بصماته على شخصيته وإنتاجه الفكري والأدبي الذي يمكن اعتباره رحلة سندبادية في أجواء المعرفة والكتابة. فبين أول مقال لغوي متشدد كتبه الفتى بعد تخرجه في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق أوائل النصف الثاني من القرن العشرين وبين مؤلفاته في أوائل القرن الحادي والعشرين التي تعالج مسائل الأدب والتكنولوجيا، والأدب المقارن من العالمية إلى العولمة، بين هاتين المحطتين هناك عملية ترحال وقفز وقلق وارتياد وارتجاع وتطلع، أشبه بأغنية الشيطان، إذ تبعد صاحبها عن حلاوة الاطمئنان وإلقاء العصا واستقرار النوى. وأين ذلك من قول الشاعر
فألقت عصاها واستقر بها النوى كما قرّ عيناً بالإياب المسافر
آه. كم اشتاق لأن استلقي على ظهري وأعد النجوم في فضاء البادية، مدة مئة سنة على الأقل.
وعوداً على بدء السرد، لم تطل إقامة الأسرة في جنوب لبنان ( بنت جبيل وجويّا). فقد أزف الترحال بعد أن وضعت أمي ابنتها الخامسة والأخيرة في بنت جبيل، ضمن ظروف اللجوء والاضطهاد والخوف، وفقدان ماء الشرب والاغتسال، ومع ذلك اسماها الوالد انتصار، رمزاً لأمل العودة، ولا أدري إذا كان قد سلمها فور ولادتها مفاتيح بيتنا المهجور في صفد.
المهم بعد شهور وفي أواخر صيف 1948، نقلتنا شاحنة إلى دمشق، وفي دمشق الحانية العربية الأصيلة، انتقل الفتى من مرحلة التكوين الجنيني إلى مرحلة التكوين الواقعي، ربما من البنية التحتية للتكوين إلى البنية الفوقية تدريجياً بالطبع. وفي سورية أنجز المرحلة الثانوية وخاضها بنجاح في سنة واحدة رغم اختلاف المنهج وشظف العيش في ظلِّ أسرة من سبعة أطفال وأبوين في غرفة واحدة لا تكاد تتسع للفراش الممدود على الأرض، وكان الفتى ينتظرهم حتى يناموا جميعاً، ثم يشعل ضوءاً خافتاً، أو كان ينام معهم ويستيقظ قبلهم لكتابة وظائف المدرسة. وهنا أيضاً بدأ التنقل التنازلي من غرفة معقولة إلى غرفة مقبولة ثم إلى غرفة الكهف مع انتهاء مخزون الأسرة من المال. وهذه المرحلة من التنقل المحدود لم تدُمْ أيضا. فبعد لأي ٍ وجهدٍ ورجاء ودعاء، وجد الوالد وظيفة معلم في قرية بصرى الشام بقضاء حوران. وهنا بدأت أيضاً صفحة جديدة من حياة الفتى فيها نور ورجاء. وكان قد نال شهادة الثانوية السورية (1949)، وساعده أحد أساتذته في الثانوية للحصول على وظيفة معلم وكيل في بصرى الشام من قضاء درعا، أي ليعيش مع أسرته مدة سنة واحدة وليوفر مصروف دراسته الجامعية المقبلة في جامعة دمشق. ومنذ ذلك الحين كان يأتيه النور والدعم والرجاء من أساتذته النبلاء [1] الذين طوّقوا عنقه حتى بعد أن شبّ عن الطوق.
وبعد سنة (1950) انتقل الفتى إلى دمشق واستأجر غرفة متواضعة، ثم تنقل من غرفة حقيرةٍ إلى أخرى، وظروف كل واحدة أسوأ من الأخرى وكانت الأخيرة غرفةً مهجورة، في سطح بيت عربي قديم، تتلاعب به الرياح، وحين يتذكر الآن لا يصدق كيف كان يحفظ ويحضر الوظائف، ويؤمن الطعام لنفسه، وسط الجلبة والضوضاء وضيق الأنفاس. وفي السنة نفسها انتقلت الأسرة إلى مدينة درعا، وأصبحت أيام الفتى نهباً بين دمشق وهذه المدينة الصغيرة التي نبتت فيها بعض أهم صداقاته فيما بعد. وبعد انتهاء مرحلة التكوين (فوق السطح) والتخرج من الجامعة عمل الفتى مدرساً في درعا ثم في دمشق، وتنقل في وظائف كثيرة، ثم قصد كامبردج ونال فيها الدكتوراه 1969، وعُيّن مدرساً في جامعة دمشق ثم انتخب عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وأخذ يتنقل أسبوعياً بين دمشق وعمّان.
وكانت تلك تجربة فريدة من نوعها أثمرت كتابه: " في التجربة الثورية الفلسطينية" 1973، الذي ربما كان أول كتاب تحليلي - على بساطته – يتناول تجربة الثورة الفلسطينية من الداخل. أما الأعمال الأخرى التي ظهرت في تلك الفترة فقد كانت تنطلق من مواقف الدعوة والتنظير الانتمائي التنظيمي.
ويطول الكلام في سرد تقلبات هذه الحياة التي لم تنعم أبداً بفترة استقرار ولكن كان قسم اللغة العربية بجامعة دمشق الذي تولى رئاسته طوال السبعينات والثمانينات هو الملاذ والملجأ الدافئ (وليس دائماً الهادئ!!) للفتى المشرّد بمختلف معاني الكلمة. ففي سبعينات القرن، انتقل إلى وظيفة معاون وزير التعليم العالي في دمشق إضافة إلى عمله في قسم اللغة العربية، وذاق لسعات العمل الإداري، وبعدها تسلم وكالة الأمانة العامة للاتحاد البرلماني العربي وشارك إيجابياً في بناء مقرّ الاتحاد في دمشق، وتابع نشاطاته البرلمانية في العواصم العربية والعالمية. وبعد سبع سنوات من العمل الدؤوب الذي كاد ينحرف به عن دروب الكتابة، عاد إلى المرفأ الحنون في قسم اللغة العربية، ثم وجد نفسه في جامعة إنديانا في الولايات المتحدة ( تفرغ علمي مع منحة فولبرايت 1987 – 1988)، وعاد بعدها ليستعد بعد بضعة أشهر لفترة جديدة من الاغتراب في اليمن أولا (1989 - 1993)،عميداً لكلية التربية ثم كلية الآداب التي أنشأها في مدينة تعز. وبعد ذلك انتقل إلى قطر (جامعة قطر 1993 - 2004) وهنا حاول الاستقرار في الدوحة وعزم على هجر النوى، ولكن ( المكتوب) لا بد أن تراه العين. في تلك الفترة قرأت ْ له مصيره امرأتان موهوبتان: مارتين فيدو، قارئة الكف المشهورة في باريس، ثمّ هند هارون الشاعرة الإنسانية الوفية، والبارعة في قراءة الفنجان (رحمها الله)، كلتاهما قالتا: لا تطمح بالاستقرار. فخطوط كفك قصيرة ومتقاطعة، وخطوط فنجانك لا توصل إلى هدف. وفعلاً بعد خمس سنوات من الاستقرار في جامعة قطر، بدأت رحلة الصيف المنتظمة إلى الولايات المتحدة، ومازالت شبه قدرٍ محتوم.... وفي نهاية عام 2004 انتهى عمل الشيخ في جامعة قطر، وتلقفه المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث ليعمل خبيراً ثقافياً فيه وينشئ مركزاً للترجمة. وكم يتمنى لو تكون هذه النقلة غير المنتظرة خاتمة المطاف في مجال العمل. ألا يفسّر هذا التنقّل الدائم ما وراء الإنتاج الفكري والأدبي المتنوع للفتى الشيخ، الذي ضاقت أدراج مكتبه ورفوفه بأكوام الارتيادات إذ لا يكاد يبدأ بواحدة منها حتى تغويه أخرى، وليس له من خيار سوى أن يتمثل بقصيدة الأخطل الصغير
كفـاني يا قـلب ما تحملُ
|
|
أفي كل يوم هوىً أول
|
أيخلق منك جديد الجمال
|
|
فؤاداً من السـكر لا يعـقل
|