جديدنا: وثيقة - مركز الوثائق الفلسطيني
كان يجلس على كرسي متواضع، يضع النظارات على عينيه، ويعبث بأوراق على طاولته، وهو يبتسم وقد اشتعل رأسه شيبا حتى بدا كأنه الثلج الأبيض، هو السيد راشد مرشد ماضي (75 سنة)، متزوج وله 6 أبناء و18 حفيدا، يسكن في حي واد النسناس في حيفا منذ سنين طويلة. استقبلني أبو محمود في منجرته المتواضعة وقد ألقى بالأوراق التي كان يقلبها وهو يقول: هذه هي المشاكل مع الـ"عميدار" و"شكمونه" وما شابهها. عندما يأتي نيسان يقول أبو محمود: كلما اقترب شهر نيسان، يدور في مخيلتي شريط يحكي قصة حيفا؛ قصة النزوح والتشريد، ففي نيسان سقطت حيفا، ولم يستوعب أحد يومها كيف سقطت، وكيف أخرج منها سكانها، الذين كنت واحدا منهم. كنت في العاشرة. وكنت أسكن مع عائلتي في حي الكنائس، وبالضبط في الموقع الذي يقوم عليه مبنى المحاكم في المدينة اليوم ولا زلت أذكر الطريق إليه". والطريق القديم إلى البيت القديم لا يزال موجودا، وقد مررنا قربه وأشار إليه بألم وحنين دفينين. كان ذلك آخر يوم تعليم في مدرسة "البرج" التي كانت في حي طلعة البرج وتتبع للجمعية الاسلامية العليا، كنت في الصف الثالث في مدرسة السباعي، التي تقع بالقرب من مباني الحكومة، وما زالت قائمة وتستعمل لأهداف أخرى، يومها دخل المربي عمر، نعم كان اسمه عمر ولكن لا أذكر اسم عائلته، دخل غرفة الصف وقال: " الوضع خطير ويجب وقف التعليم في المدرسة". ويتابع السيد راشد ماضي فيقول: خرج الطلاب من جميع المدارس ،وكان في حيفا 4 مدارس إسلامية وهي السباعي، والبرج، والنهضة، ومدرسة الوداد للبنات، وأذكر يومها أن شائعات تناقلها السكان، منها تصوير رجل الهجانا كأنه غول ولا يمكن أن يُغلب، فكنت أنا وأترابي كلما نسمع عن الهجانا نهرب إلى بيوتنا ولو لم يكن هذا حالنا لكان الحال غير الذي هو الآن. ليلة 22 نيسان يتنهد أبو محمود قليلا ثم يتابع: أرخى الليل سدولة في تلك الليلة حتى إذا انتصف، سمعت صراخا وعويلا وأنات اختلطت مع بعضها لكن كلها تصرخ: "سقطت حيفا"... وبدأ الناس ينزلون إلى الميناء حيث كان الانجليز قد فتحوا بوابتين شرقية وغربية من ناحية مسجد الجريني، نزلت أنا وأمي وأخواتي، وكنت أمسك بيد أمي ولم أعرف أين كان والدي في تلك الساعة، وعندما وصلنا إلى البوابات أغلقها الانجليز (أعتقد أنها كانت خدعة متفق عليها مع اليهود حتى لا يدخل الناس). وبقيت مغلقة حتى الساعة الخامسة والنصف صباحا ففتحوها ثانية وكان الناس يصطفون بالآلاف؛ الكل يريد أن ينجو بنفسه وولده، وفي تلك الساعة كان أفراد "الهجانا" يطلقون النار من بنادق ركب عليها ناظور، ما زلت أذكرها حتى الآن، وكانوا يتمركزون في حي "الهدار" بينما المنطقة التي تمركز فيها الفلسطينيون مكشوفة، كانوا يطلقون الرصاص باتجاه الناس لقتلهم. دفعت والدتي جانبا والتصقنا بها أكثر وإذا بصوت أزيز رصاصة مر بجانب أذني ثم رأيت الشاب الذي كان أمامي يسقط أرضا ثم ينهض مسرعا وقد كانت قد أصيب في قدمه. ويضيف ماضي: واصلنا سيرنا مع الآلاف حتى وصلنا العوامات، وكان عددها 5 عوامات ربطت بلنش كبير بواسطة حبال ثم سار اللنش والسفن تقاطرت خلفه باتجاه عكا، حتى إذا وصل الركب إلى عرض البحر بدأ عدد من الناس يتقيأون لأنه أصابهم دوار البحر.وفي الطريق انقطع الحبل وأفلتت عوامة فخاف الناس من الغرق لكن شاهدت شخصين قفزا إلى المياه وأعادا الحبل إلى مكانه لنصل إلى عكا. وقد ظننا أن القضية انتهت، لكنها في الحقيقة لم تنته فقد واصلت الشائعات تفشيها بين الناس كالنار في الهشيم، حيث أشيع أن يونس نفاع المسؤول عن المعارك في حيفا وصل عكا ليسلمها كما سلم حيفا، وأعتقد أن هذه كانت شائعة مقيتة.فيونس هذا كان مسؤولا عن النظافة في بلدية حيفا ولم يكن له دور عسكري، لكن إشاعة من هذا القبيل كانت كفيلة في خلق أجواء من الفوضى واختلاط الحابل بالنابل. عودة إلى إجزم في المثلث الصغير بعد أن مكثنا عدة أيام في عكا عند عمي وعمتي عدنا إلى حيفا، لكن العودة لم تكن إلى بيتنا الذي هدم مع غالبية الحي في الأيام الأولى للنكبة.كان عمي فوزي الذي كان يعمل بحريا قد وعدنا بعد رحلته إلى صور في لبنان بأنه سيعود وينقلنا إلى لبنان، لكنه لم يعد، فسافرنا إلى إجزم حيث أقاربي في المثلث الصغير، وهناك وقعت معركة بين اليهود وبين أهل القرى استمرت ليوم ونصف اليوم. يومها أخذ أهل الطيرة اخذوا نحو 50 سيارة مؤن وبضاعة وأهل إجزم نحو 40 سيارة، وكنت أنا مع صديقين ومعنا الدواب فحملناها بما عثرنا عليه من طعام ومؤن وعدنا إلى إجزم قبل غروب الشمس.ولدى عودتنا أطلق الجنود علينا الرصاص فاختبأنا خلف تلة صغيرة وتركنا الدواب لوحدها فلم يصب أحد منا. وفي ذلك اليوم كان في إجزم رجل وزوجته أذكر أن اسمه "إتكس" وهو مهندس، وكان يقنع الناس بالتسليم وهو يعدهم بحفظ الحقوق لهم، وكان ذلك داخل خيمة كبيرة كان يجتمع فيها الوجهاء لتقرير مصير القرية، وكان قسم أقر بالتسليم والقسم الآخر رفض، فقذفت القرية بالقنابل وسقط شهداء، وبعدها سقطت القرية كباقي القرى. بعد سقوط إجزم وقرى الساحل في أيار 1948 نزحنا إلى دالية الكرمل، وهناك اجتمعت خلائق كثيرة من معظم قرى الكرمل، وسكنا عند عائلة درزية، ومكثنا في دالية الكرمل مدة من الزمن مع أقارب لنا ثم عدنا إلى حيفا مع الكثيرين من السكان الذين عادوا وسكنوا في بيوت ليست لهم، في وادي النسناس والحليصة عباس. استخلاص عبر من سقوط حيفا يقول السيد ماضي: بعد عودتنا إلى حيفا وصرت في سن التمييز بين الأمور كنت أجلس مع نفسي كلما اقتربت ذكرى النكبة أو كلما اقترب نيسان وأبدا التفكير: لماذا حصل لنا ما حصل في عشية أو ضحاها؟ كيف أصبحت حيفا فارغة من السكان العرب؟ في اعتقادي أن السذاجة والجهل كانا مسيطرين في ذاك الوقت، فأنا في صغري في تلك الأيام لم أتنبه مثلا أن اليهود سكنوا في بيت الصناعة وبيت "النجادة" ومنطقة الميناء. لقد سكن اليهود في منطقة الميناء لهدف عسكري وسكنوا كذلك في حي الهدار، في حين تمركز العرب في البلدة التحتا، لذلك عرفت في كبري وأعدت الذاكرة لتلك الليلة التي، كلما أردنا الخروج من بيتنا في حس الكنائس كان أحدهم يطلق رصاصة تشعل لونا أحمر فيأتي الرد من الهدار بوابل من الرصاص. تجدر الإشارة إلى أن حيفا سقطت في عملية عسكرية أطلق عليها اسم " المقص". وخلالها دكت الأحياء العربية بمدافع المورتور من التلال العالية في جبل الكر مل وقد سبقها دحرجة البراميل التي كانت مليئة بالقنابل إلى البلدة التحتا.
المصدر: موقع فلسطينيو 48