ياسر قدورة - البداوي
أثناء زيارتي لمخيم البداوي كنت أسأل أهل بلدنا (سحماتا) عن أحد من عائلة اليافاوي لمقابلته، لأنني عرفت أن هذه العائلة السحمانية قد استقرت في شمال لبنان منذ عقود.. وحتى ذلك الحين لم أكن قد حصلت على إجابات شافية عن هذه العائلة، واقتصرت معلوماتي على أن رجلاً كبيراً في السن كان يعيش في سحماتا قبل النكبة ومعروف باسم الحاج عبد يافاوي، وكان يعمل إسكافياً في البلد، ويجيد صناعة المراكيب، (جمع مركوب وهو نوع من الأحذية كان يلبسه أبناء البلد حين ذهابهم للعمل في الأرض)، وقد أضاف لي الحاج محمد أسعد عثمان (أبو أحمد) معلومة بأن شخصاً آخر من عائلة اليافاوي كان يعيش في سحماتا قبل النكبة، وهو أحمد اليافاوي وأبناؤه عوض وخليل.
في البداوي كان الأمر سهلاً، فقد أرشدنا أحمد عبد المجيد قدورة أنا ووالدي إلى منزل أحد أفراد العائلة المذكورة حيث التقينا الحاج جبر ابن الحاج عبد يافاوي.
وفي اللقاء أوجز لنا الحاج جبر تاريخ العائلة في سحماتا، فقد بدأ مع قدوم الحاج عبد إليها من مدينة يافا، اجتناباً لعملية التجنيد الإجباري في الجيش التركي.. وقد عاش في سحماتا وعرف بالحاج عبد يافاوي، وتزوج بفاطمة محمود عبد الوهاب وأنجب منها: جبر، علي، ثريا، خديجة، عيشة، زهرة ورسمية.
وقال لنا الحاج أن قليلاً من أهل البلد كانوا يعرفون أن أباه اسمه عبد الرحمن، بل أنه يروي عن نفسه بأن الأستاذ في مدرسة سحماتا سأله يوماً، ما اسم أبيك؟ فأجابه: الحاج عبد.. فسأله الأستاذ: عبد ماذا؟ فلم يعرف، حتى عاد إلى البيت وسأل والده ثم عاد للأستاذ في اليوم التالي وأجابه: اسمه الحاج عبد الرحمن.
"بيتنا كان في الحوش بسحماتا، الرحبة مواجهة للساحة والبركة، والحوش فيه 10 أو 12 بيت وله باب واحد، وفي البيادر إلى الامام يوجد بركة ثانية، حتى عند الزواج كانوا يعملوا الزفة بالبيدر... وكان الشيخ عبد الله عبد الوهاب ساكن معنا بالحوش، وأبو رياض أحمد عبد القادر، ومحمد قدورة، وعبد الغني عبد الوهاب، محمد هدلة، ويعقوب، ومصطفى الحسين كلهم داخل الحوش، ويوجد معصرة بالداخل.. بيتنا ما زلت اذكره، عمار قديم، عرض الحيط ¾ متر، من حجر، والسقف من خشب قناطر وتراب.
أنا مواليد 1932 دخلت المدرسة بسحماتا، وكان فيها مدرستين، المدرسة التحتا، والمدرسة الفوقا جنوب البلد. أنا درست 4 سنوات بالمدرسة، ولم أخرج خارج البلد.
كان محمد فاعور وحسن عبد الوهاب ونجيب جميل عبد الله، رزق جميل كانوا من رفاقي في المدرسة.. والأستاذ كان شوكت دلال، وفوزي، وكان هناك أستاذ اسمه خالد القاضي كان من ترشيحا".
بعد فترة الدراسة اشتغل جبر وأخوه علي في الفلاحة والزراعة، وغالباً في زراعة الدخان، الزيتون والتين.. فالزيتون كان كثيراً في سحماتا كما يروي الحاج جبر، و"يكفي كل سحماتا وزيادة، وكان كيف ما زرعته يطلع، نقطفه وناس تبيع الزيت. كان في عنّا معصرة بالحي. والبلد مكتفية بالقمح والشعير والفول والعدس".
" قبل الاحتلال كلّ الناس إشترت سلاح، حتّى وأنا صغير كان معي سلاح، أنا كنت أطلع للحراسة بدل واحد كان يعطيني بارودته اسمه محمد عبد الرحيم فاعور.
اللي معه سلاح كان يخرج مع جيش الإنقاذ حيث كان بترشيحا (القيادة)، فكان اللي يطلبوه يروح، خاصة يوم معركة جدّين. كان الذي يريد الحصول على بارودة كان يبيع فدان الأرض اللي عنده ليشتري بارودة.
جيش الإنقاذ أخرجونا بالقوة من سحماتا
" في الـ 48 كنت واعي عند الخروج كنت 16 سنة عمري، وأبوي ان متوفي.. توفي عام 1942 أو 1943.. نحن لم نر اليهود بالمرة، اخذوا حيفا وعكا، وصلوا إلى الكابري، كان محمد من ترشيحا ضابط بالجيش ( قوات الحدود ) وعمل فرقة من أهل البلد، ظلت 6 أشهر من بعد ما سقطت، جاءت الطيّارات ضربت خارج البلد، فجاء جيش الانقاذ وأخرجونا بالقوة من سحماتا، قبل أن تسقط خرجنا حول البلد على أساس نهرب من الطيران ولكننا لم نرجع، كانت أمي وأخي وأخواتي برة، طلعنا من نواحي الدير على الرميش، على أساس يومين ونرجع، لم نخرج معنا شيء كل شيء ظل هناك، الخبز والملابس.. طلعنا على رميش ثم على صور وركّبونا بالقطار وجئنا على طرابلس.
في الفترة الأولى كان في ناس ترجع على سحماتا من بعد الخروج ولكني لم أرجع.. طلعنا ومش متوقعين أن اليهود، تحتل البلد كلها".
جبر عبد الرحمن وأبو ماهر قدورة
هذا الحوار مع الحاج جبر كان في بيت أخيه علي (أبو خالد)، ومع انتهاء الحوار حضر أبو خالد الذي لاقانا في بيته بكل الترحاب والسرور، وكأنه قد عاد إلى سحماتا في جلسة كانت ايام البلاد محور الحديث فيها، بحضرة والدي أبو ماهر والشيخ أسعد عبد الوهاب الذي انضم إلى الجلسة وإلى طعام الغداء أيضاً لأن أبا خالد أبى أن نغادر منزله بدون تناول الغداء..
علي عبد الرحمن (أبو خالد) يتصفح خارطة سحماتا
وقد لفت أبو خالد نظري إلى نقطة مهمة، فعندما استقرت العائلة في لبنان سجّل بعضهم عائلته باسم " عبد الرحمن" بينما سجل آخرون باسم " اليافاوي"، ولكن جميع أفراد العائلة أعادوا تصحيح الأمر لاحقاً وصاروا جميعاً مسجلين باسم عائلة "عبد الرحمن".. أما اليافاوي فهم عائلة أخرى تقطن في البارد، وهم أبناء عوض وخليل يافاوي اللذين ذكرهما لي الحاج محمد أسعد عثمان..
وأختم بما ختم به جبر عبد الرحمن: ( أتمنى الرجعة عالبيت بسحماتا، لوصحت لنا فرصة كلنا بنرجع على فلسطين بعد غربة 63 سنة، لم نتعلق بالبلد اللي عايشين فيه هلأ، لولا أولادنا ما استحملنا).