ذكريات من رحم النكبة مع الحاج ابو فاروق من ام الفحم
في ظل الأيام التي نمر بها، ومع ذكرى النكبة الفلسطينية، ارتأينا أن نقوم بعمل مقابلة مع احد كبار السن، ليحدثنا عن ذكرياته التي مر بها أيام النكبة عام 1948، وفي لقاء مع الحاج محمود حامد أبو فاروق، وجهنا له عددا من الأسئلة:
في البداية، هل لك أن تطلعنا على عمرك، وكم كان عمرك أيام النكبة؟
ابلغ من العمر 81 عاما، ولدت سنة 1932م، وأما عن عمري أيام النكبة، فقد كنت شابا في مقتبل العمر، ابلغ سن السابعة عشر تقريبا.
أين كنت تسكن قبل عام 1948، وكيف كانت طبيعة البلد التي سكنتها؟
نحن من سكان ارض اللجون، واللجون يوم أن كنا فيها، كانت مقسمة الى ثلاثة "خرب" وكان أشهرهن " الخربة العليا والخربة السفلى "، وكان أهل المحاجنة والاغبارية يسكنون في الخربة السفلى، وأما الخربة العليا، سكنها أهل المحاجنة أيضا، وأما الخربة الثالثة، فقد سكنها أهل الجبارين والمحاميد.
وأما عن عين الحجة، فقد كانت في الخربة التي كان يسكنها أهل الجبارين والمحاميد.
وكان في ارض اللجون ما لا يقل عن 16 او 17 عين ماء. وكان في ارض اللجون صحية، وجامع.
نحن كشباب كنا نتنقل بين ام الفحم واللجون، ففي الشتاء كنا نذهب الى ام الفحم، ثم نعود في الصيف لأرض اللجون مرة أخرى، وكان كبار السن يسكنون في اللجون فقط.
ما هي مصادر الرزق التي كانت في ارض اللجون؟
لقد عمل أجدادي وآبائي في بيع اللحوم، فقد كانت هذه المهنة سببا من أسباب رزقنا.
ماذا عن الزراعة؟
لقد كان أهل اللجون بادئ الأمر يزرعون أرضهم ويعتنون بها، ولما أن قدم الانتداب البرطاني، قلّ العمل في الزراعة، لأن القوات البريطانية كانت تأتي بالقمح والشعير والمزروعات الأخرى، بأقل من سعر التكلفة، مما جعل الناس يستغنون بعض الشيء عن الزراعة، إلا النادر اليسير.
وقد كانت الألبان من أسباب الرزق أيضا، فمن المعلوم انه لم يكن عندنا أجهزة لتبريد الألبان والأجبان، وإذا لم تحفظ في الثلاجة تتلف، فلذلك كنا نشتري الأجبان والألبان أولا بأول، وكانت هي من أهم أسباب الرزق لدى كثير من الناس.
ما هي وسائل النقل التي كانت متوفرة لديكم؟
كان في اللجون عدد من الباصات والتركات، التي كانت تنقل السكان من اللجون الى حيفا وجنين والناصرة وام الفحم.
حدثنا عن الشخصيات البارزة التي كانت تسكن ارض اللجون، وماذا كان عملهم؟
هناك قائمة طويلة من الشخصيات البارزة، وممن أستحضرهم الآن :
"محمد حسين إبراهيم أبو ظاهر": وقد كانت تاجر أجبان، وكان إنسانا واعيا.
" فياض حسن طميش": كان من وجهاء اللجون، وكان عنده ديوان يجتمع عنده الناس ليتداولوا شؤونهم العامة والخاصة.
" صالح عبد القادر" : صاحب حلال وأبقار وأغنام، وكان فلاحا صاحب ارض كبيرة، وعندهم عمال يعملون عنده.
" محمد حسين مصاروة": تاجر وصاحب ديوان، وصاحب ارض. كان إنسانا واعيا.
" عبد الحسن جبارين": كان فلاحا وكان من أهل الفكر والرأي.
" فواز حسن السعد": كان معه شهادة جامعية، فقد تعلم في إحدى جامعات لبنان.
كان هناك رجل مسيحي يدعى "راجي نويصر"، كان صاحب باص، وكان عنده نفوذ في المحاكم البريطانية، وكان يساعد الناس في حل قضاياهم.
من هم المخاتير الذين عايشتهم؟
أتذكر ثلاثة مخاتير :
1- عبد القادر عيسى ال عواد
2- محمد خضر حماد
3- اسعد محمد اسعد
وقد كان فياض حسن طميش مختارا في ام الفحم.
هل تذكر اين كانت المعركة بالضبط في ارض اللجون؟
كانت المعركة في منطقة التل اسمر، وهي بين منطقة الخربة العليا والخربة السفلى.
من هو قائد الثورة يومها؟
كان قائد الثورة " أبو درة، وهو شخص من منطقة السيلة، وقد تم القبض عليه وتم إعدامه من قبل الانتداب البريطاني في الأردن.
وكان يوسف حمدان قائد فصيل في منطقتنا، وقد استشهد في المعركة التي كانت بمنطقة التلول في ام الفحم، قتل يومها هو وقسم كبير ممن معه، حيث وقعوا هناك في كمين نصبه لهم الانتداب البريطاني. وقد كانت كتيبته مكونة من أشخاص من ام الفحم، واللجون والمنسه وقسم كبير منهم من البدو.
اخبرنا عن أمور ما زالت عالقة في عقلك حدث أيام النكبة؟
خرج الثوار في يوم الأيام لمنطقة " شمار هعيمك " وهي مستوطنة يهودية. لما دخل الثوار الى تلك المنطقة، هرب اليهود من هناك، وقد تركت إحدى العائلات أبنائها في المنزل، " وهم طفل وطفلة ". قام الثوار بأخذهم كرهينة لطلب المال مقابل تحريرهم. ولما أن عادوا الى اللجون، قال يوسف حمدان لأحد الأشخاص من الكتيبة التي معه، اذهب فقتلهم. فقال له محمد إبراهيم العائشة : "إذا أردت قتلهم فاذهب أنت واقتلهم بنفسك".
طبعا لم تطاوعه نفسه على قتلهم، فرغم العقل البدائي ومع وجود الحرب بيننا وبين اليهود، إلا أن عقله وقلبه لم يطاوعاه على قتلهم.
عندها عاد يوسف حمدان الى الخلف قليلا، وتبسم وقال: " اذهب واعدهم من حيث أتينا بهم".
فقال له محمد إبراهيم: " هل تريد منهم أن يقتلوني، كيف أعيدهم مكانهم!؟".
فقال له يوسف حمدان " اذهب، سأرسل معك من يراقب لك الطريق، ضعهم في اقرب نقطة ممكنة وعد".
فذهب محمد إبراهيم ومعه ثلاثة أشخاص، فلم يجدوا أحدا في تلك المنطقة وأعادوهم للنقطة التي تم أخذهم منها.
انظر المفارقة اليوم، كيف يتم قتل الأطفال الرضع، والطلاب الجامعيين، وهم يدعون أنهم حضاريين، ونحن على فطرتنا وقلة وعينا، لم نقم بهذا الفعل.
القمح منهم والسلاح منهم والسيارة منهم، كيف لنا ان نحاربهم !
لما ان بدأت الحرب، رأيت في من الايام قائد الجيش الأردني وقد كان كتفه مليء بالأوسمة، فسألته : " ماذا يحدث، وهل نخرج من هنا ام نبقى في ارضنا؟ ". فأجابني : " بل ابقوا هنا ". فقلت له : "وهل نأمن على انفسنا وشرفنا". فقال : " الافضل ان تبقوا هنا لان سيدنا " عبد الله بن حسين الاول " سيأخذ ضمانا لمن يبقى في ارضه ويطلب الحماية والأمان لهم.
قلت له: "لماذا لا نقاتلهم؟ ". فذهب بعيدا واحضر معه رغيف خبز يهودي، ثم عاد وقال : " ما هذا؟ " قلت : " خبز دولة - هكذا كنا نسميه - ". فقال لي : " ما هذه – مشيرا الى البندقية – ". فقلت " هذه بندقية ". ثم سالني عن السيارة والجيبات التي يستقلونها، ثم قال : " القمح منهم والسلاح منهم والسيارات منهم، كيف لنا ان نحاربهم ".
امرأة حملت الوسادة بدلا من ابنتها
لما ان دخلت القوات، وبدأت الحرب، دب الذعر في قلوب الناس، وبدأ اكثر الناس بالهرب، ومن شدة خوفهم، واضطرابهم دخلت احدى النساء لتأخذ ابنتها الصغيرة التي كانت نائمة في احدى غرف البيت، ومن شدة اضطراب الأم بدلا من أن تأخذ طفلتها المغطاة، اخذت وسادة وهربت، ظنا منها انها ابنتها المغطاة.
مرج ابن عامر ارض خصبة، ولكن للاسف جهلنا حجب عنا الكثير.
من المعلوم ان ارض اللجون " مرج ابن عامر" كانت ارضا خصبة، وكانت من افضل الاراضي للزراعة، إلا ان الجهل المطبق الذي كنا نعيش به، كان يجعلنا ان نذهب الى مناطق بعيدة، عند البدو، وحتى الى اماكن قريبة من حيفا، حتى نضمن اشجار التين وغيرها من الزروع، وللأسف لم يفكر واحد منا ان يزرع هذه الاشجار امام باب بيته، ليأكل منها.
لماذا خرجتم من ارضكم؟
سألني احد الطلاب مرة، يا جدي لماذا خرجتم من ارضكم؟. فقلت له: "كنا على جهل، وإذا تقاتل الجهل مع العلم، من سينتصر؟ "
ما هو السبب الرئيسي لخروجكم من ارضكم؟
الجهل !
لم يكن في زماننا علم، كان الجهل متفشي بيننا، هذا هو السبب الرئيسي لانتصارهم علينا، وكما قلت لك، اذا ما تصارع العلم مع الجهل، برأيك من سينتصر؟
كيف تصف العلاقات بين اهل اللجون في تلك الفترة؟
كان الادب موجودا بيننا، وكنا نحب بعضنا البعض، حتى لدرجة انه اذا ما تخاصم احدنا مع طفل من جيرانه، وكانت امهاتنا تقول لنا: " يا يما ما بهم، يما في بينا اكل وعيش".
هل زرت اللجون بعد خروجكم منها، وهل حدث معك موقف اثر في نفسك؟
بعد خروجنا من ارض اللجون، سكنا في ام الفحم، وكان عندنا ملحمة، وكنا نذهب الى ارض اللجون لكي نرعى الأغنام وكان ذلك بعد عام 1960 تقريبا، وعندما كنا نرعى الاغنام في ارض اللجون، كنا نلتقي بشخص ارجنتيني يدعى "فيليب"، وكان شخصا بشوشا مرحا، وكانت تربطنا به علاقة جيدة، وكان يحضر لنا الماء لنشرب.
وفي يوم من الأيام بعد اكثر من عشرين عاما على لقائي بفيليب، انطلقت بسيارتي الى ارض اللجون، لكي اجلس على الاطلال هناك، واستحضر الذكريات المؤلمة، انطلقت الى أرضنا وكنت وما زلت اعلم مكان بيتنا، ومكان الملحمة التي كان يعمل بها ابي، فذهبت إليه وجلست على حجارتها، وأخذت اتذكر طفولتي، واستحضر ذكريات الجميلة بين تلك الأشجار وكادت الدمعات ان تتحدر من عيني، لحزني على ارضي التي ضاعت من بين يدي. وإذا بفيليب يقبل الي من بعيد، فلما قدم الي عرفني وعرفته، فسالني : " لماذا تجلس على هذه الحجارة؟ لماذا لا تجلس تحت الأشجار او تجلس على الأعشاب ". فقلت له : "لا شيء". فاصر علي بالسؤال. فقلت له: " اخبرك على ان لا تأخذ مني موقفا، فعلاقتنا جيدة ولا اريد ان افسد العلاقة" فقال : " تفضل ". فقلت له : " ان هذه الحجارة هي حجارة بيتنا، وهذه الارض التي تقف عليها انت واجلس عليها انا هي ارضي وارض أجدادي ومعي اوراق تثبت ذلك، وان شئت احضرتها لك".
عندها تغير وجه فيليب، ثم انطلق من امامي من غير ان يتكلم بكلمة واحدة.
هل تظن انك ستعود في يوم من الايام الى ارضك؟
" هنا تغيرت نظرات الحاج محمود حامد ابو فاروق، ونظر الي بنظرات تملؤها الثقة والإصرار، وقال "
سالني قبل سنة احدهم هذا السؤال، فأجيبك كما اجبته تمام، ان العين التي تراك الان، وهي متيقنة انها تراك، وتثق انها الان تراك، بثقتي لرؤيتك امامي الآن كلي ثقة انني سأعود الى ارضي، وان الاحتلال سيزول بإذن الله، فهذا ما وعدنا به ربنا، وهذا ما وعدنا به رسولنا صلى الله عليه وسلم، وكلي ثقة ان عودتي لأرضي قريبة جدا بإذن الله.
هل حاولتم العودة لأرضكم بعد اخراجكم بمدة قصيرة؟
اليهود طلبوا من ابائنا ان يعودوا لأرض اللجون، ولكن للأسف لم يقبلوا بذلك. واليهود لما طلبوا منهم ذلك، ارادوا ان يبقوا على القليل من العرب حتى لا تقدم الجيوش على تدمير تلك الأرض وحتى يكونوا كجدار بشري لحمايتهم، وحتى يفكر الثوار اكثر من مرة عند دخولهم لتلك الارض التي يسكنها العرب.
هل عندك كلمة توجهها الى اهلنا وشباب امتنا؟
نحن بحاجة الى بداية صحيحة، والبداية الصحيحة هي ان نجعل رضا الله نصب أعيننا وان لا نبتغي من هذه الدنيا الا مرضاة الله تعالى، وعلينا ان نحذر وان لا نلتفت للمحسوبيات، وان لا نداهن من اجل ارضاء البشر، بل علينا ان نرضي رب البشر. فان حرصنا على الاخلاص وفقنا الله باذن الله.
ثم المحبة، واقصد بالمحبة، ان يحب الانسان عمله، وان يسعى لإتقان عمله، وان يعمل بقصار جهده حتى يتم العمل على الشكل الصحيح السليم.
وكذلك المحبة بين الخلق، فالمحبة هي سبب من اسباب التآلف والتقارب والتوحد، فإذا ما توحدنا وتقاربت قلوبنا سنكون كالجسد الواحد، وسيعجز أي انسان في الكون ان يفرقنا، وسيصعب على كل امة ان تهزمنا.
والانسان اذا ما اراد ان يحقق أي هدف في الكون، عليه ان يخلص النية، وان يجعل الاصرار لتحقيق الهدف نصب عينيه، وعليه ان يعمل بجد حتى يحقق الهدف المنشود.
المصدر: فلسطينو 48