وتلك الأيام نداولها بين الناس
بقلم: محمود موسى طلوزي
ولد أبي رحمه الله عام 1937 في قرية لوبيا قضاء طبريا ولقبت العائلة بـ طلوزي نسبة لقرية طلوزة قضاء نابلس والتي هاجر منها جدنا الأكبر منذ مئتي سنه إلى لوبيا، و عام 1948 لجأ مع أهله إلى جنوب لبنان وناموا شهراً تحت الأشجار دون خيام في قرية بنت جبيل ثم انتقلوا إلى بعلبك وتم وضع اللاجئين في ثكنة للجيش الفرنسي تدعى ثكنة ويفل، وتم تقسيم إسطبلات الخيول بحدود 4×10 م لكل عائلة، وكذلك وزعت العائلات على باقي أبنية الثكنة. و سميت هذه الثكنة عند الفلسطينيين بمخيم الجليل، ولكنها عند الدولة اللبنانية ما زالت تسمى بثكنة ويفل. وبعد بقي أعمام الوالد محمد وزايد ببعلبك وانتقل جدي علي البدر إلى الشام، وفي الشام سكنوا مع بعض اللاجئين في مشفى المجتهد وكان ما زال على العظم وبقوا بالمشفى شهرين ثم انتقلوا إلى الجامع المعلق وهو مسجد في سوق الهال القديم جانب سوق الحميدية مبني فوق نهر بردى، وتقاسم اللاجئون المسجد بالبطانيات فكل عائلة تأخذ قسماً وتفصله عن الجيران بالبطانيات، وبقوا بالمسجد سنتين كاملتين، وكانت هذه المرحلة أسهل مرحلة للزواج فالعريس لا يحتاج إلا لثلاث بطانيات ليحصل على منزل، وفي هذه الفترة كان أهل الشام يتسابقون لرعاية ومساعدة إخوانهم اللاجئين، ثم انتقل جدي رحمه الله إلى جوبر عام 1950 وفي عام 1952 استأجرت وكالة الغوث بستاناً جنوب دمشق من الحكومة وأعطت الناس أرضاً ليبنوا عليها منازلهم (العائلة الصغيرة4×10 م= 40 م مربع) والعائلة الكبيرة 80م وهكذا لجأ جدي وعائلته إلى المخيم الجديد وسمي بمخيم اليرموك، وتزوج أبي رحمه الله عام 1954من والدتي الحاجة المرحومة عدله مرعي شهابي، ومن حسن الطالع أن جدتيَّ والدة الوالد ووالدة الوالده اسمهما شمسة. وعندها تمت قسمة منزل جدي إلى منزلين، كل منزل 40 م واحد لجدي مع أبي بعد زواجه والثاني لعمي الكبير (بدر رحمه الله)، ثم اشترى والدي أرضاً 90 وبناها وانتقل إليها في شارع الجاعونة نسبة لقرية الجاعونة في فلسطين (نفس المكان الذي سقطت به أول قذيفة هاون برمضان السنة الماضية واستشهد بها 25 شهيداً وجرح 70 آخرين ومن بينهم أبناء أخوتي الشهيدين أنس أحمد طلوزي و إبراهيم علي طلوزي)، وعام 1968 سافر والدي إلى ليبيا سنة وعاد للشام شهراً واشترى أرضاً بالحجر الأسود 300م مربع، ثم عاد لليبيا سنة أخرى وهو هناك ولدت أنا بالمخيم عام 1969 ، ثم عاد بعد مرور العام الثاني للشام و بنى بما رزقه الله من مال في سفره بيتنا الجديد 175 م مع جنينة (حديقة) 125م، وانتقلنا عام 1975 لبيتنا الجديد وهي نفس السنة التي رزق بها والدي بأخينا الأصغر إبراهيم ومع إبراهيم يكون عدد أخوتي 7 ذكور و4 إناث، توفيت اثنتان وهم صغار واحده بالحصبة والثانية لا أدري كيف، ومرت الأيام وتزوجت أختي الكبيرة بدرية وأنجبت 4 شباب و5 بنات وتوفي زوجها رحمه الله نور الدين ديب عام 1993 وكبر أولادها وتزج نصفهم وأصبح عندها من الأحفاد 16، وتزوج أخي الكبير محمد عام 1980 وأنجب وائل و6 بنات، وفي 25/2/1996 جاء أخي محمد ليبارك لي بولادة ابني الكبير وقال لي ما تنوي أن تسميه فقلت له إما حذيفة أو يمان حتى إذا كبر وتزوج يسمي ابنه حذيفة فيصبح عندنا حذيفة بن يمان، فقال لي "بكرة رح تسميه محمد وبتشوف" ولأننا بالعائلة عندنا محمد عند كل أعمامي فكان أخي معروف بين الأقارب بـ محمد الموسى وابن عمي بدر محمد البدر وابن عمي يحيى محمد اليحيى وهكذا..، فصلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله، وكذلك كل أخوتي وأخواتي التسعة عندهم أولاد سموا أحد أبناهم محمد.
ومر يومان بعد زيارة أخي لي وفي اليوم الثالث كان والديَّ عندي في البيت في شارع لوبيا وعندما هموا بالذهاب قلت لأبي ناموا عندنا اليوم أنت وأمي فقال لا يجب أن اذهب للبيت لأنني إذا ما أيقظت أخيك محمد فلن يذهب للعمل، فذهب هو ونامت أمي عندي، وفي اليوم التالي وأثناء عمل أخي في جديدة الوادي وكان يعمل مع والدي بنجارة الباطون والمعروفة بالاسم التركي " طوبرجي"، سقط أخي الكبير من سطح البناء وقام أبي ومن معه بإسعافه إلى مشفى المواساة فاتصل أحد زملائي الأطباء في غرفة عمليات الجراحة العصبية وأخبرني أن أخي بالإسعاف، فذهبت لأجد أبي قرب قسم الإسعاف فقال لي أخوك محمد وضعه خطير وغالباً لن يعيش، فدخلت الإسعاف وبالفعل كانت الإصابة شديدة، كسر بالجمجمة وبالأضلاع والساق ونزف بالصدر وبالبطن ونقلناه لقسم تصوير الطبقي المحوري وبعد التصوير بدقائق فارق رحمه الله الحياة، فعدت أنا وأخوتي لنخبر أبي فكان والحمد لله من الصابرين، وبعد دقائق جاءت أمي رحمها الله إلى المشفى فأخبرتها أن أخي أجريت له عملية جراحية وأرسلناه للمنزل وذهبت إنا وأخي علي مع أمي للمنزل وفي الطريق بدأنا نمهد لها و ما إن وصلنا المنزل حتى علمت بالخبر ولله الحمد كانت كذلك من الصابرات. وبعد أسبوع قال لي أخي أحمد أبوك حابب تسمي ابنك محمد فقلت له لقد ذهبت البارحة للمختار وسميته محمد الموسى وليس محمد فقط، وهكذا صدقت نبوءة أخي الكبير رحمه الله وسميت الولد محمد، ومر عام ونصف ورزقني الله بالولد الثاني فأسميته يمان ونسبة له أسميت المركز الطبي بمركز اليمان فكان اسماً موفقاً ولله الحمد، وبعد ذلك أسميت المركز الثاني باسم مركز الأمان الطبي فكانت ثنائية موفقة "اليمان والأمان" فكنت سعيداً بهذه الثنائية وظننت نفسي أنني وفقت بها ولم يسبقني إليها أحد، ألا أنني ومنذ أسبوع وأنا أقرأ عن مشاهير علماء الشام ورموزها قرأت عن الشيخ علي الطنطاوي ومما قرأت أن الشيخ رحمه الله أنجب عدة بنات وأسماؤهن : عنان وبنان وبيان ويمان وأمان، وبذلك زادت فرحتي لأنني اشتركت مع هذا الشيخ الفاضل بهذا الأمر.
وبما أن أبي رحمه الله كان يحب كثرة الأولاد فكان رحمه الله يشجعنا على الزواج المبكر فزوج أخي الثاني أحمد عام 1984 بعد أن أنهى خدمة الجيش مباشرة وقد زادت خدمته بسبب اجتياح إسرائيل للبنان والاحتفاظ به في الجيش سنتين وكان حفظه الله ممن حوصروا ببيروت 81 يوماً وكان حصاراً طويلاً ولكن حصار اليرموك اليوم أكثر طولاً وصعوبة فالمحاصرين في حصار بيروت كانت تصلهم وجبات الأكل وهي ساخنة أما في حصار اليرموك فقد أًفتي للناس بأكل الكلاب والقطط.
ومرت الأيام وتزوج بقية الأخوة علي وخالد وإيمان ومحمود ويوسف وإبراهيم وصار لأبي ما يحب وهو كثرة الأولاد فصار له 50 حفيداً من أبنائه و40 حفيداً من أحفاده (أحفاد أبنائه بدرية ومحمد وأحمد).
وعندما ضاقت علينا البيوت في منزل الحجر الأسود قام أخوتي الثلاث أحمد وعلي وخالد ببناء منزل شارع الجاعونة 3 طوابق وانتقلوا إليه. وبعد ذلك استأجرت منزلاً في اليرموك، وفي صيف 2011 وأثناء انشغال الحكومة بالمظاهرات طلبنا من أبي أن نبني جنينة المنزل (بقية الأرض التي اشتراها بعد عودته من ليبيا) والتي بقيت دون بناء من عام 1970 حتى 2011 وخلال 5 أسابيع أصبحت 5 طوابق وذهب الأخوة يخططون كيف سيكسون شققهم الجديدة ولكن الله أراد غير ذلك فتحولت المنطقة إلى ساحة حرب ونزح أبي وأخوتي من الحجر إلى منزل أخوتي وسط اليرموك في شارع الجاعونة، إلى أن انتقلت الحرب لليرموك وقصف اليرموك فذهب أبي وجميع أخوتي وأخواتي لبعلبك وكنت قد ذهبت قبلهم بثلاث أشهر إلى مصر. وجاء صيف 2013 وتوفي ابن عم والدي في بعلبك الحاج محمود محمد طلوزي رحمه الله ولم أستطع الذهاب للعزاء لعدم حصولي على الإقامة بمصر رغم أنني انتظرها من عدة أشهر وذلك لأن الفلسطيني تتأخر إقامته بسبب تأخر الموافقة الأمنية والفلسطيني إذا غادر مصر لا يستطيع العودة إليها إلا من سوريا، فتألمت كثيراً كيف يموت عم الشخص و لا يستطيع الذهاب للجنازة وللعزاء وقلت يا الله كيف هذا الأمر هذا ابن عم والدي وتألمت لعدم مقدرتي الذهاب فكيف لا سمح الله إن توفي والدي بلبنان وأنا هنا بمصر ولم أستطع الذهاب وبقي هذا الخاطر يراودني منذ ذلك اليوم إلى أن اتصل معي أخي صباح البارحة وأخبرني بأن والدي توفي. نعم توفي في بعلبك ولم أذهب لوداعه ومازلت أنتظر الموافقة الأمنية المصرية للإقامة. توفي رحمه الله عند أخته وأولاد عمه الذين أحبهم كثيراً وكان يزورهم باستمرار وزار أخته السنة الماضية أكثر من مرة، خاصة بعد أن كسرت حوضها العام الماضي، زارها أكثر من مرة وهو يقول أخاف أن تموت أختي ولا أستطيع الذهاب إلى لبنان إذا ساء الأمر في سوريا. ولم يعلم رحمه الله أنه سوف يلجأ مرة ثانية إلى قرب أخته وتكون أخته عليا فوق رأسه البارحة وهو مسجى أمام أبنائه وبناته وأقربائه ومحبيه، ويدفن رحمه الله في مقبرة مخيم الجليل إلى جانب أعمامه وأبناء عمه الذين لجأ معهم من فلسطين قبل 65 عاماً، هذه المقبرة طبعاً أصبحت ساحتها اليوم ملجأً جديداً للفلسطينيين الذي هجروا قبل سنة من اليرموك إلى لبنان بعد أن قام أهل الخير ببناء ساحة المقبرة غرفاً صغيرة 4×4 م مسقوفة بالزينكو (ألواح معدن الزنك) لكل عائلة لا تملك إيجار منزل أو دكان.
رحم الله المسلمين ، رحم الله شهداء سوريا الذين ماتوا قصفاً وتعذيباً وقهراً في سوريا، ورحم الله الذين ماتوا في بلاد اللجوء والشتات، ومما خفف عني الأمر ما قالته بنتي الصغيرة البارحة عندما قلت لها توفي جدك موسى بلبنان فردت فوراً الحمد لله أنه مات بلبنان وما غرق بالبحر، نعم الحمد لله أنه مات وخرجت لها جنازة ودفن في قبر، ورحم الله شهداء البحر الـ 400 مئة الذين دفنوا بايطاليا والمائة والخمسين الذين دفنوا مع سفينتهم على عمق 700 متر قاع البحر.
اللهم أرحم موتانا وصبر أهليهم واجمعنا وإياهم بجنتك
محمود موسى طلوزي