سميح حمودة[*]
مقدمة
ما زالت جوانب عديدة من التاريخ الفلسطيني في مراحله المختلفة تنتظر جهود المؤرخين من أجل إضاءتها، وما زالت أسئلة كثيرة تتعلق به بحاجةٍ لإجاباتٍ شافيةٍ ووافية. ولا شكّ أنّ هذا التاريخ، رغم الجهود الحالية لتوثيقه ودراسته من قبل المؤسسات البحثية والجامعات الفلسطينية والأكاديميين المهتمين من عرب وغربيين، ما زال يفتقد للعمل الجاد والمنظّم الذي تشترك به كل هذه الأطراف، وتعمل على مأسسته وتطويره وتوفير احتياجاته المختلفة،[2] ومنها تأسيس أرشيف مركزي يجمع كل ما هو متوفر من مجموعات وثائقية، بنسخها الأصلية أو بصورٍ ورقية، أو بالمسح الضوئي، ومنها تأسيس دارٍ للنشر تختص بنشر الأبحاث التاريخية العلمية، بما فيها رسائل الماجستير والدكتوراه، وتنشر بتحقيق علمي دقيق، يقوم به المختصّون، مجموعات مختارة من السجلات والوثائق النادرة والهامّة، ومنها مثلاً مختارات من سجلاّت المحاكم الشرعية، ومذكرات ويوميات الشخصيات الفلسطينية التي لم تجد طريقها للنشر بعد. ولا ندّعي أنّ هذا الأمر سهلٌ وهيِّن، ولكنّ كل من يعمل في مجال التأريخ لفلسطين يعرف أهميته، وكل من يدرك دور التاريخ في الحفاظ على الهوية الوطنية الفلسطينية، يدرك ضرورته، وكل من يعمل في سبيل القضية الفلسطينية يعرف أهمية دراسة التجربة التاريخية للشعب الفلسطيني دراسةً علميةً تحليلية.
تعرض هذه المقالة في جزأيها لمصدر تاريخي يكشف عنه لأول مرّة، وهو عبارة عن مذكرات وخواطر كتبها محمد إسحق درويش[3] خلال سنوات مختلفة من حياته. تعرض المقالة في جزئيها لحياة درويش، وتتطرق لما تضمنته مذكراته من معلومات وآراء تتعلق بجوانب وأحداث من التاريخ الفلسطيني في عهد الانتداب البريطاني وفي الفترة التي أعقبت النكبة إلى نهاية الخمسينات. ولهذا المصدر أهمية تاريخية عظيمة كون كاتبه من الشخصيات التي لعبت دوراً فاعلاً في السياسة الفلسطينية خلال عهد الانتداب البريطاني وفي الفترة التي تلت النكبة الفلسطينية سنة 1948م، وكان دوره السياسي واضحاً ضمن الحلقة الضيقة المحيطة بخاله الحاج محمد أمين الحسيني،[4] مفتي القدس، وزعيم الحركة الوطنية الفلسطينية منذ العشرينات وحتى الستينات من القرن العشرين،[5] وقد رافق محمد إسحق درويش خاله لسنوات طويلة، فشاركه في نشاطاته السياسية منذ السنوات الأولى للاحتلال الإنجليزي، وكان إسحق يعتبر ساعد المفتي الأيمن منذ تولّى الأخير رئاسة المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى، وحتى مغادرته القاهرة سرّاً سنة 1959م بعد خلافه مع النظام الناصري بمصر، واستقراره في بيروت.[6] لذا فكتاب مذكرات درويش يضمّ أسراراً كثيرة يكشف عنها للمرة الأولى، ومعلومات بالغة الأهمية تتعلق بالحركة الوطنية وبقائدها الحاج أمين الحسيني.
محمد إسحق درويش: سيرة الحياة
ولد محمد إسحق درويش[7] سنة 1898م في القدس، وعائلته من أصول تركية توطّنت في القدس في العهد العثماني، تزوّج والده من ابنة مفتي القدس طاهر الحسيني،[8] وقد ولد سنةً واحدة بعد ولادة خاله الحاج أمين. تلقى دراسته الابتدائية والإعدادية في القدس، ثم ذهب إلى بيروت حيث تلقى جزءاً من دراسته العالية، وأتقن اللغتين التركية والفرنسية. ويورد الجندي المقدسي في الجيش العثماني خلال الحرب العالمية الأولى إحسان الترجمان في يومياته أنّه اجتمع في يوم الأحد 25 نيسان 1915م بالحاج أمين الحسيني، وإسحق درويش في منزل خليل السكاكيني، وكان من الحضور أيضاً الشيخ عبد القادر المغربي، وإسعاف النشاشيبي حلمي الحسيني، وقد بحثوا في الحالة قبل إرجاع الدستور (1908م)، ثمّ تحدثوا بإيجابية عن الإمام محمد عبده، وعن تلميذه قاسم أمين ومؤلفاته، "وقد مدح الكل همّة هذين البطلين لما خدما به بلادهم [كذا] من معارفهم واقتدارهم [كذا]."[9] وهذا ممّا يدل على تأثر الحاضرين، ومنهم الحاج أمين وإسحق درويش، بتيار الإصلاح الإسلامي الذي كان عبده من أقطابه، ولا عجب في ذلك فقد كان الحاج أمين خلال سنة دراسته الوحيدة بالأزهر يتتلمذ أيضاً على محمد رشيد رضا، صاحب مجلة المنار وتلميذ عبده الوفيّ، وناشر أفكاره وآرائه الفقهية والتفسيرية للقرآن الكريم. أمّا خليل السكاكيني فقد كتب في يومياته بتاريخ 7 نيسان (أبريل) 1918م، خلال نفيه إلى دمشق بعد اعتقاله من قبل الأتراك أثناء الحرب، مستذكراً حياته في القدس، قائلاً "وقد أتصور أنني في بيتي جالس على شرفته مع أبي الفضل [إسعاف النشاشيبي]، والحاج أمين أفندي الحسيني وإسحق أفندي درويش، وأبي جميل [عمر الصالح البرغوثي]، وحلمي أفندي[10] وتوفيق أفندي الحسيني، وحنّا حمامة، نتجاذب الأحاديث اللطيفة."[11] وهذا يؤكد علاقة السكاكيني الوطيدة بإسحق درويش وبخاله الحاج أمين.[12]
أثناء الحرب ذهب درويش للكلية الحربية بالآستانة وتخرَّج منها ضابطا احتياطيا، فجنَّدته الدولة العثمانية في جيشها المشارك بالحرب ضد روسيا وبريطانيا وفرنسا. وبعد انتهاء الحرب عاد درويش للقدس وأخذ يعمل مع خاله الحاج أمين ويلازمه، ويتبين من يوميات خليل السكاكيني أنّ درويش والحاج أمين كانا ناشطين في الشأن الوطني منذ السنوات الأولى للاحتلال البريطاني، فيذكر أن الرجلين زاراه ظهر يوم السبت 12 نيسان (أبريل) 1919م وأخبراه أن عزة دروزة وحافظ كنعان حضرا من نابلس، وأنهما يريدان الاجتماع ببعض رجال القدس للتفاهم "ولتقرير ما يجب أن نطلبه من لجنة الدول[13] الآتية للقدس قريباً." وذكر السكاكيني أن الحاج أمين ودرويش أبلغاه بأن اجتماعاً سيعقد بعد الظهر في منزل سعيد الحسيني أو إسماعيل الحسيني، وأنهما جاءا إليه لتكليفه بالحضور، "فلم أر بداً أن أجيب الدعوة."[14] وفعلاً يحضر السكاكيني الاجتماع، ويدوّن في يومياته بعض التفاصيل عنه وعن قراراته، ويسرد أسماء الذين شاركوا فيه، والذين كان منهم الحاج أمين، في حين لم يحضره درويش.
شارك درويش في شهر آذار (مارس) 1918م، بعد أشهر قليلة من خروج العثمانيين وبداية الاحتلال البريطاني للقدس، مع الشيخ محمد الصالح والشيخ حسن أبو السعود وعبد اللطيف الحسيني، في إعادة إحياء كلية روضة المعارف الوطنية والتدريس فيها،[15] وهي مدرسة مقدسية أسسها سنة 1347هـ، 1906م الشيخ محمد الصالح لتعليم أولاد المسلمين، ثمّ أغلقت خلال الحرب العالمية الأولى. كما ساهم درويش مع خاله الحاج أمين وآخرين في تأسيس النادي العربي في القدس، وقد بلغ هذا النادي أوج نشاطه سنة 1920م، وكان درويش من أبرز العاملين فيه.[16] وعندما تأسس المجلس الإسلامي الأعلى سنة 1922م وانتخب الحاج أمين رئيساً له، تولّى درويش عدة مناصب فيه، وقد شارك خلال عمله في المجلس في اجتماع تمهيدي عقد في 14 تشرين الأول (أكتوبر) 1926م بين مدير الآثار "رئيسا للاجتماع"، ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى، الحاج أمين، والدكتور كنعان، وعادل جبر، وجورج أنطونيوس، والمستر كروممتون. وقد خصص الاجتماع للبحث في عمل متحف للأشياء الممثلة للحياة القومية في فلسطين وبالأخص الألبسة والصناعات.[17]
كان من الوظائف التي تولّاها درويش وظيفة مفتش المدارس الإسلامية، وهي تتطلب الإشراف على مدارس المجلس الإسلامي المنتشرة في القدس ويافا وغزة وغيرها من المدن، وتتطلب أيضاً العمل على تسيير شؤون هذه المدارس وتطويرها وتحسين أدائها، وحين تخرجت مقبولة عبد الله مخلص من دار المعلمات سنة 1928م، طلب إسحق درويش، بصفته مفتش المدارس الإسلامية، في رسالة لوالدها مؤرخة في 29 أيار (مايو) 1928م أن يوافق على تعيينها في إحدى المدارس الإسلامية،[18] على الرغم من أنّ مخلص كان من الناقمين على الحاج أمين والمعارضين له. وفي شباط 1932م عينّه المجلس مأموراً لأوقاف المركز [القدس]، بعد أن كانت هذه الوظيفة قد ألغيت وحوّلت لمدير الأوقاف العام، عزة دروزة، "مما تسبب بالارتباك والتشويش في العمل فتقرر تحويل وظيفة مفتش المدارس الإسلامية إسحق درويش إلى مأمور أوقاف القدس اعتبارا من 1 شباط (فبراير) 1932."[19] على أن هذا الإجراء لم يدم، فقد عاد درويش لوظيفة المفتش، ولدينا بعض الوثائق التي تزودنا بصورة أخرى عن طبيعة عمل درويش، فقد أرسل الأمير عبد الله الجابر الصباح رئيس معارف الكويت للحاج أمين كتاباً مؤرخاً في 3 جمادى الأولى 1355هـ، 22 تمّوز (يوليو) 1936م، يطلب إرسال مديرٍ وأساتذةٍ فلسطينيين لمدارس الكويت، فانتدب المجلس الإسلامي الأعلى السادة أحمد شهاب الدين من يافا وخميس نجم من القدس ومحمد أحمد المغربي من القدس ليقوموا بمهمة التعليم في الكويت. وقد أصبح أحمد شهاب الدين مديراً للمدرسة المباركية بالكويت، وأرسل كتاباً مؤرخاً في 19 تشرين الثاني (نوفمبر) 1936م للمجلس الإسلامي الأعلى يبلغه فيه عن وصوله والمعلمين الآخرين للكويت، فأرسل له درويش، مفتش المدارس، رداً في 15 رمضان 1355هـ، 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1936م، يقول فيه: "وأرجو أن تلاحظوا أنكم موفدون من قبل سماحة رئيس المجلس الإسلامي الأعلى. فتواصوا بالصلاة والصبر والعمل على نجاح المدرسة وتقدمها. وكونوا يداً واحدة، دائبين على ما فيه مصلحة المسلمين والبلد."[20] وهذا يدلّ على عمق ولائه لخاله، واعتقاده بدوره في الساحتين الإسلامية والفلسطينية. وكان آخر منصبٍ شغله درويش في المجلس هو عمله مديراً لمدرسة دار الأيتام الإسلامية، والذي استمر حتى تشرين الأول (أكتوبر) 1937م.
شارك درويش في مختلف المؤتمرات الوطنية الفلسطينية والعربية والإسلامية وفي لجانها التنفيذية، وكان ممن حضروا المؤتمر السوري الثاني في القدس،[21] الذي دعت إليها الشخصيات القيادية الفلسطينية بعد سقوط حكم الملك فيصل بن الحسين في دمشق، واحتلال الفرنسيين لسوريا. وقد منعت السلطات البريطانية عقد المؤتمر فلم يحضره سوى عدد قليل من الفلسطينيين المقدسيين،[22] وقد اتفقوا على عقد مؤتمر آخر في حيفا، فعقد المؤتمر العربي الفلسطيني الثالث فيها خلال الفترة من 13 إلى 19 كانون الأول (ديسمبر) 1920م، ثم شارك في المؤتمر العربي الفلسطيني الخامس الذي عقد بتاريخ 24 آب (أغسطس) 1922م، وفي المؤتمر السابع المنعقد بتاريخ 20 حزيران (يونيو) 1928م.[23] كما شارك في المؤتمر الإسلامي للدفاع عن المسجد الأقصى والأماكن الإسلامية المقدسة المنعقد في قاعة كلية روضة المعارف بالقدس سنة 1928م[24]، وشارك في مؤتمر التسليح الذي انعقد في نابلس بتاريخ 31 تموز (يوليو) 1931م احتجاجاً على قيام الحكومة الانتدابية بتسليح المستعمرات اليهودية، وقد حضرته وفود من أنحاء فلسطين كافة، وشارك في المظاهرة التي خرجت في شوارع القدس بتاريخ 27 آب (أغسطس) 1931م لذات السبب.[25]
اشترك في كانون الأول من العام 1931 في المؤتمر الإسلامي العام الذي عقده المفتي في القدس في الفترة من 7 كانون الأول إلى 16 منه، كما شارك في المؤتمر العربي القومي الذي عقد في منزل عوني عبد الهادي في القدس أيضاً، بتاريخ 13 كانون الأول (ديسمبر) 1931م[26]، خلال انعقاد المؤتمر الإسلامي من قبل عدد من القوميين والاستقلاليين العرب المشاركين في المؤتمر الإسلامي، وشارك في اجتماع اللجنة التنفيذية الخاص ببحث مشكلتي الهجرة اليهودية وبيع الأراضي الذي انعقد في 24 شباط (فبراير) 1933م، وقرر المجتمعون فيه إعلان سياسة "اللاّتعاون" مع سلطات الانتداب إلى أن يتم وضع تشريع يمنع منعاً باتّاً انتقال الأراضي العربية إلى اليهود، ويغلق باب البلاد أمام الهجرة اليهودية.[27]
كان درويش من المشاركين في تأسيس الحزب العربي الفلسطيني في آذار (مارس) من سنة 1935م،[28] وحسب المؤرخ المصري عادل حسن غنيم فقد انتخب الأعضاء المؤسسون للحزب في السابع والعشرين من آذار (مارس) جمال الحسيني رئيساً وألفرد روك نائباً له. ويعتبر الحزب تطوراً تنظيمياً لجماعة المجلسيين، جاء بعد توقف عقد المؤتمرات الفلسطينية، وبعد تأسيس حزب الدفاع سنة 1934م برئاسة راغب النشاشيبي، زعيم جماعة المعارضة. وقد أسس الحزب العربي فروعاً له في القرى والمدن والعشائر، وتشكلت له لجنة تنفيذية في القدس قوامها ممثلون للفروع، وكان درويش عضواً فيها. تكوَّن الحزب العربي من عناصر أساسها أعيان العديد من الأسر الفلسطينية المتنفذة والقوية في المدن والقرى، كما انضم لصفوفه مثقفون وعمال ومهنيون وصناعيون وتجار. وقد تحالف الحزب مع عدد من رؤساء البلديات وفروع جمعية العمال العرب الفلسطينية. وحسب ما نقله المؤرخ عادل حسن غنيم عن درويش فقد كان الحاج أمين هو الأب الروحي للحزب، ولم يتولَّ رئاسة الحزب محافظةً على مكانته الدينية بين الفلسطينيين، ولم يكن الحاج يحضر اجتماعات الحزب العامّة أو الرسمية.
ساهم درويش من موقعه في الحزب في نشاطات الحركة الوطنية خلال الثورة الفلسطينية 1936م، فكان عضواً في لجنة القدس القومية، وكان رسول المفتي لفوزي القاوقجي، الذي قاد الثورة من جبال نابلس-جنين، ويذكر القاوقجي في مذكراته أنّ درويش اجتمع به بعد وصوله لفلسطين في أواخر آب (أغسطس) 1936م وأبلغه عن الحالة المؤسفة التي وصلت إليها البلاد، وقال له "لو تأخرت يوماً أو يومين لكانت اللجنة [العربية العليا] استسلمت إلى الاقتراح بتوسط نوري السعيد ووقف إطلاق النار والصلح الملوث للشرف." ويضيف القاوقجي إنّ درويش "أخبرني بما تم، وبما هم عازمون عليه، فطلبت منه أن يسأل الإخوان إمهالي أسبوعاً واحداً، يماطلون خلاله المفاوضين، حيث أقوم بعمل جدّي خطير، فإمّا أفسح لهم طريقاً يوصلهم لغاية أمانيهم، وإما أبوء بفشل يقبلون عنده بالاقتراحات المعروضة. فتم الاتفاق على هذا الرأي."[29]
بعد توقّف الثورة وخروج القاوقجي من فلسطين في تشرين الأول (أكتوبر) 1936م، رافق درويش ومحمد العفيفي والشيخ حسن أبو السعود المفتي في زيارته لدمشق في 21 حزيران (يونيو) 1937م.[30] ولكن درويش عاد لفلسطين قبل المفتي، فبلغته أخبار مؤامرة لاغتيال الأخير في دمشق، وقد كتب عزة دروزة في مذكراته بتاريخ 2 تمّوز (يوليو) 1937م تفاصيل الموضوع: "أخبرني إسحق درويش أنه بلغه من أحد المتصلين بالبوليس أن هناك مؤامرة لاغتيال الحاج أمين، على أن تنفذ في سورية. والحاج أمين هو الآن في سورية، حيث ذهب منذ عشرة أيام للاستجمام ولتهنئة هاشم الأتاسي ورفاقه بنجاحهم في عقد معاهدة الاستقلال واستلام الحكم. ولتهنئة الأمير شكيب وإحسان الجابري بعودتهما إلى الوطن بعد طول شتات. ومما قاله لي إسحق أن أحمد الإمام أخبره بهذه المؤامرة قبل أن يخبره بها المخبر المتصل بدائرة البوليس، الذي قال له إن التنفيذ سيكون في سورية، وقد أرسل إسحق الخبر مع رسول خاص إلى الحاج أمين."[31]
اضطر المفتي ومرافقوه للعودة إلى فلسطين لتوتر الأوضاع فيها بعد انتشار الشائعات عن قرب صدور تقرير لجنة التحقيق الملكية البريطانية (لجنة بيل) وبضمنه توصية بتقسيم فلسطين، وقد صدر التقرير فعلاً بتاريخ 7 تموز (يوليو) 1937م متضمناً هذه التوصية، ممّا أدّى لاستئناف الأعمال الثورية ضد الجيش البريطاني. وخلال هذه الفترة شارك درويش في مؤتمر بلودان الذي عقد بمصيف بلودان قرب دمشق خلال يومي 8-9 أيلول (سبتمبر) 1937م، رفضاً لقرار التقسيم وتأكيداً على عروبة فلسطين، وحق الفلسطينيين في الدفاع عنها. وحين قام رجال الثورة بقتل حاكم لواء الجليل آندروز بتاريخ 26 أيلول (سبتمبر) 1937م في الناصرة بدأت السلطة بإجراءات انتقامية ضد الحاج أمين وأنصاره، فحلّت اللجنة العربية العليا، وعزلت المفتي عن رئاسة المجلس الإسلامي الأعلى، وحاولت إلقاء القبض عليه لنفيه خارج فلسطين، فاضطر للخروج إلى لبنان فراراً من الاعتقال في تشرين الأول (أكتوبر) 1937م، فتبعه درويش[32] ليشاركه قيادة الثورة من لبنان، فأصبح عضواً في لجنة الجهاد المركزية مع منيف الحسيني وعزة دروزة،[33] وقد أوقفت السلطات البريطانية في تشرين الثاني 1937م راتبه الذي كان يتقاضاه من المجلس الإسلامي الأعلى بصفته مديراً لدار الأيتام الإسلامية، رغم اعتراض وكيله في الإدارة إسحق الدزدار.[34]
بقي درويش ملازماً للمفتي خلال مكوثه في لبنان، وسكن في بيتٍ مجاور لبيته في ذوق مكايل، وأخذ يلقَّب بين القادة الفلسطينيين وبين الثوار بأبي بكر. ويورد أكرم زعيتر في يومياته بتاريخ 1 آب 1938م أنّه تلقّى رسالة من درويش، من بيروت، خصوصية ومكتومة، فيها نص وصية الشهيد الفتى محمد محمود أحمد حسين، من قرية كفر مندا، قضاء الناصرة، كتبها قبل أن ينفِّذ الإنجليز حكم الاعدام فيه يوم الاثنين 25 تمّوز 1938م، وكان رحمه الله في الثانية والعشرين من عمره، وكان والد الشهيد أرسلها للمفتي في بيروت مع رسول خاص، وقد قام زعيتر بطباعة نسخ منها ووزعها على الصحف اعتزازاً ببطولة هذا الفتى الشهيد.[35] ويورد زعيتر أنّه أثناء عودته من القاهرة لدمشق في الأول من آب 1938م بعد حضوره المؤتمر النسائي العربي، سافر بالباخرة من الاسكندرية إلى أثينا، ومنها إلى بيروت، حيث واجه مشكلة في النزول في مينائها من السلطة الفرنسية، ولكن قيادة الثورة، وبتدخل خاص من المفتي، عالجت الأمر مع السلطة، وسمحت له بالنزول فكان باستقباله في بيروت اللبناني كاظم الصلح، والفلسطينيون إسحق درويش وعز الدين الشوا وخالد الفرخ.[36] وهؤلاء من المجموعة القيادية التي كانت حول المفتي أثناء وجوده ببيروت.
دوّن الأمير عادل أرسلان في مذكراته، في يومية السبت 15 تموز (يوليو) 1939م، ما يشير إلى شدة التصاق درويش بالحاج أمين واشتراكه في اجتماعاته المهمة، فيتحدث عن اجتماع الأخير وجمال الحسيني وأمين التميمي وجورج أنطونيوس وموسى العلمي وإسحق درويش وغيرهم مع نوري السعيد في منزل قنصل العراق بعاليه بلبنان، ويقول أرسلان إنّهم "كانوا يقترحون أموراً يظنون أنّ نوري يقبل بإجرائها تخفيفاً عن عرب فلسطين، فكان يظهر الإصغاء ويتصنع التفكر وبعد ذلك يقول لا أعتقد أن هذا يفيد."[37]
ومع قرب اندلاع الحرب العالمية الثانية، وقيام التحالف بين بريطانيا وفرنسا لمواجهة ألمانيا، بدأ الفرنسيون بالتضييق على الفلسطينيين المقيمين في لبنان وسوريا، وقاموا باعتقال الكثيرين منهم وتسليمهم للسلطات البريطانية، كما قاموا بحجز الأموال المخصصة لدعم المجاهدين الفلسطينيين، ومنعوا وصول التحويلات المالية من الخارج، ممّا خلق أزمة معيشية مستعصية للاّجئين الفلسطينيين في سوريا ولبنان، وبدأ عدد منهم بالتذمر والتمرد وتهديد قيادتهم باستخدام العنف إن لم يتم دفع رواتبهم لهم. حينئذ قرر المفتي والمحيطون به الانتقال للعراق، ويصف درويش الحالة في مذكراته بقوله: "حتى 24 أيلول (سبتمبر) 1939 لم تظهر بادرة حل [للأزمة المالية]، واستكلب الإنجليز بعد أن شعروا بضعف اللجنة المالي، وتنمردوا ورفضوا كل وساطة، وسافرت وجمال الحسيني والشيخ حسن أبو السعود إلى بغداد لتعجيل وساطة الحكومات العربية، وللاهتمام بتسهيل مغادرة الحاج أمين أفندي لبنان إلى بغداد وإرسال ما أمكن من الأموال للمنكوبين".
يضيف أكرم زعيتر في يومياته مزيداً من المعلومات لما ورد في رواية درويش حول انتقال المفتي وأنصاره إلى العراق، فيقول بأنه "مع تطور الأحداث وعمليات الحرب، أخذ المجاهدون والمناضلون الفلسطينيون والسوريون يتوافدون تباعا إلى العراق، أفراداً وجماعات، فوصل بغداد في 23–24 أيلول (سبتمبر) 1939 كلٌ من الشيخ حسن أبو السعود ومحمد إسحق درويش وجمال الحسيني وموسى العلمي. وسرى خبر سرّي بتدبير الحاج أمين الحسيني لأمر قدومه إلى العراق، وتم ذلك التدبير على درجة من الكتمان مع علي جودت الأيوبي وزير الخارجية الذي أعطى أوامره سراً لسلطات الحدود، وبأوامر من الوصي [على العرش العراقي] عبد الإله [بن علي بن الشريف حسين] و[رئيس الوزراء العراقي] نوري السعيد لتسهيل أمر دخول المفتي برغم أنف الإنكليز." وينقل زعيتر قول الأيوبي: "نحن أحرار في استقبال إخواننا المجاهدين، ولا نسمح بأن يعترض علينا أحد". ودوّن زعيتر في ذات اليوم أنّه وصلت بغداد جماعات أخرى من المناضلين الفلسطينيين، ومنهم: ممدوح السخن، وبهاء الدين الطباع، وقد عُيِّن مدرسا في الكلية العسكرية، "ثم المجاهد عبد القادر الحسيني، والأستاذ راسم الخالدي والدكتور داود الحسيني والمجاهد سليم الحسيني، ثم وصل واصف كمال، ثم الشيخ حسن سلامة. وقد أوجد العراق لجميعهم وظائف محترمة."[38] ودوّن زعيتر في يومياته، بتاريخ 16 تشرين الأول (أكتوبر) 1939م وصفاً لوصول المفتي لمكتب رئيس الديوان الملكي، رشيد عالي الكيلاني، ومعه إسحق درويش وأمين بك التميمي.[39]
كان درويش من النواة الأولى التي أسست حزب الأمة العربية برئاسة المفتي في بغداد سنة 1941[40]، وانضم للحزب رشيد عالي الكيلاني وعدد آخر من القوميين في العراق. وقد بقي الفلسطينيون في العراق إلى أن نشبت الحرب بين الجيش العراقي وبريطانيا في أيّار (مايو) 1941م، فيما عرف بحركة رشيد عالي الكيلاني، وشارك فيها درويش مثل سائر الفلسطينيين المتواجدين في بغداد، وقد عهد إليه المفتي بأمانة المال المخصص للعاملين في الحركة ضد الإنجليز، ممّا يشير إلى شدة ثقة المفتي به واعتماده عليه. وبعد فشل الثورة رافق درويش خاله المفتي في هروبه، وحسب ما يرويه أكرم زعيتر[41] فقد خرج فلسطينيون عديدون، ومنهم أكرم زعيتر وإسحق درويش والشيخ حسن أبو السعود، من العراق إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، ولكنهم غادروها لاحتمال أن يحتلها الإنجليز، فذهبوا إلى طرابلس، ومنها إلى اللاذقية فحلب، وفي حلب اتصلوا بالقنصلية التركية للسماح لهم بالسفر إلى تركيا، وبعد عدة اتصالات ومفاوضات، سمحت القنصلية لعدد من الأشخاص بالدخول منهم إسحق درويش وعزة دروزة وأكرم زعيتر والشيخ حسن أبو السعود ومحمد العفيفي وصفوة يونس الحسيني. وقد سافر أكرم زعيتر وعزة دروزة وأخوه محمد علي ونبيه العظمة والشيخ حسن أبو السعود والدكتور مصطفى الوكيل وواصف كمال بسيارة كبيرة إلى أعزاز على الحدود التركية، ومنها إلى استانبول، وقد تخلّف عنهم درويش في حلب لمحاولة إقناع القنصل التركي بالسماح لمنيف الحسيني بالسفر إلى تركيا، والذي كانت السلطات التركية قد رفضت دخوله لأنّه حين كان رئيساً لتحرير جريدة الجامعة العربية بالقدس نشر فيها مقالات عديدة ضد الحركة الأتاتوركية العلمانية في تركيا. وتقريباً في العاشر من تموز (يوليو) سافر درويش لاستانبول عن طريق الإسكندرونة. أمّا المفتي فقد نزل وعدد من المرافقين في طهران، ولكنهم اضطروا لمغادرتها حين احتلّت القوات البريطانية إيران، فذهب المفتي إلى تركيا فبلغاريا فأوروبا، وذلك بعد أن رفضت تركيا بقاءه فيها.
بقي درويش وعزة دروزة وأكرم زعيتر ومعين الماضي وحسن سلامة وفلسطينيون آخرون في استانبول بعد أن سمحت لهم السلطات التركية بالبقاء على أراضيها، كما استقر في تركيا كلٌ من نبيه وعادل العظمة، والأمير عادل أرسلان، وعدد من العراقيين الذين شاركوا في الحركة الكيلانية. كان درويش في استانبول حلقة الوصل بين المفتي والزعماء الفلسطينيين اللاجئين لتركيا، فكانت تصله رسائل المفتي بواسطة رسل خاصّين يرسلهم المفتي، فيبحث درويش مضامين هذه الرسائل مع هؤلاء الزعماء وينقل آراءهم للمفتي.[42] وقد أثارت علاقته الوطيدة بخاله، واعتماد الأخير عليه في الشؤون المختلفة، حفيظة خصوم المفتي، فحين فوّضه رشيد عالي الكيلاني، بناءً على اقتراح من المفتي، بتوزيع المخصصات المالية على اللاجئين العرب إليها بعد أن أساء كامل الكيلاني، شقيق رشيد، التصرف بها، أثار هذا الأمر حفيظة فوزي القاوقجي، والذي كتب لعادل العظمة بتاريخ 7 شباط (فبراير) 1942م قائلاً عن المفتي: "فانظر كيف إنّه لا يشذ عن خططه الممقوتة قبول السيد إسحق [درويش] قريبه بينما يوجد كثيرون من الرجال يفوقونه قدراً ومكانة وقابلية، وهكذا تمثل أمامنا ونحن في بلاد أجنبية وأحوج ما نكون إلى التضامن والاتحاد، السياسة الإقليمية بل والعائلية الممقوتة."[43]
وحين أوكل المفتي لدرويش الملف السوري لمتابعته مع دولتي المحور، ألمانيا وإيطاليا، أثار ذلك احتجاج الزعماء الاستقلاليين السوريين مثل الأمير عادل أرسلان ونبيه العظمة وأخيه عادل. وقد اعتبر الأمير عادل أرسلان أن المفتي بهذا التعيين يتبع سياسة عائلية، وقد كتب في مذكراته، يوم الأحد 26 نيسان (أبريل) 1942م، يقول: "بعض إخواننا من المقربين إلى الحاج وأقربائه كانوا يشكون أساليب خاصّة له يستعملها في سياسته، وكنت أحمل عليهم وأدافع عنه، وما زلت أدافع عنه، لكني صرت أشعر أن شكواهم لم تكن في غير محلها. الحاج أمين وكّل إسحق درويش لا في قضية فلسطين فحسب بل في قضية سوريا... وأبلغ ذلك حكومات المحور، وذلك بعد أن أفهَمْنا نحن تلك الحكومات أنّه [الحاج أمين] ينوب عنّا جميعاً."[44]
بقي درويش يقوم بدور الوسيط بين المفتي واللاجئين العرب في استانبول حتى تاريخ 23 أيلول (سبتمبر) 1943م، حيث داهم البوليس التركي شقته، وصادر رسائل واردة له من المفتي، واعتقله إلى تاريخ 5 تشرين الأول (أكتوبر)، حيث أطلق سراحه بشرط أن يغادر الأراضي التركية خلال أسبوعين، وقام الأتراك بترجمة هذه الرسائل، وقرروا على أثرها طرد جميع الفلسطينيين، إلاّ أن مساعي حثيثة بذلت لدى عددٍ من المسؤولين الأتراك أسفرت عن إبقاء الجميع باستثناء درويش، فاضطر للسفر لألمانيا ملتحقاً بالمفتي[45]، وبقي ملازماً له خلال فترة وجوده في برلين وروما. وحين استشهد مصطفى الوكيل في ليلة 4 آذار (مارس) 1945م في برلين بعد أن أغارت طائرة إنكليزية على المعهد الإسلامي وألقت عليه قنبلة فسقطت على بعد عشرة أمتار منه، بادر معروف الدواليبي وإسحق درويش وسميح الموصلي، وكانوا مع الحاج أمين في "بادغشتاين"، بالسفر إلى برلين للقيام بواجب تكفينه والصلاة عليه ودفنه في المقبرة الإسلامية.
بعد هزيمة المحور، وقبل نهاية الحرب بقليل، سافر المفتي ودرويش وراسم الخالدي بالطائرة لسويسرة، أملاً في اللجوء إليها باعتبارها التزمت الحياد خلال الحرب،[46] ولا يمكن للإنجليز أن يعتقلوهم على أراضيها، ولكنها رفضت استضافتهم، فسافروا بالسيارة إلى فرنسا، ووقعوا في قبضة السلطات الفرنسية على الحدود السويسرية الفرنسية، بين كونستانزة وباريس، التي اعتقلتهم في[47] منزل مستقل (فيلا) على نهر اللوار، في قرية صغيرة فيها عدة بيوت ومركز للشرطة، وتقع على مسافة 30 كم تقريباً جنوب باريس. وكان الثلاثة لا يخرجون من الفيلا ولا يدخل عليهم أحد، ولم تسمح السلطات الفرنسية حتّى لأحمد الداعوق، سفير لبنان بفرنسا، بزيارتهم.[48] بقي الثلاثة معتقلين في الفيلا حوالي السنة، طالبت خلالها بريطانيا بتسليمهم لها لمحاكمتهم، كما طالب باستلامهم الجنرال تيتو رئيس يوغوسلافيا لمحاكمة المفتي بتهمة تشكيله فرقة نازية من مسلمي البوسنة. ولكنّ فرنسا رفضت تسليمهم لخوفها من ردة فعل المسلمين في مستعمراتها، وبالأخص في المغرب العربي حيث تمتّع المفتي بشعبية كبيرة، وقيامهم باحتجاجات ضدّها إن هي فعلت ذلك. وفي عام 1946م تمكن الثلاثة، وبمعاونة السياسي السوري معروف الدواليبي، من الهروب ولجأوا للقاهرة.[49] ويلخّص الدواليبي قصة هروبهم في مذكراته[50]، ويقول إنّه تمكن من إقناع الجنرال ديغول بتسليم المفتي لدولة عربية، فوافق وتم تسفير المفتي بطائرة أمريكية من باريس لروما فالقاهرة وبجواز سفر الدواليبي نفسه.[51] تأخر درويش خلف خاله عدة أسابيع، إذ بقي في باريس، ثم سافر بالباخرة مع الدواليبي وعدنان الأتاسي، وزير سورية المفوض في باريس، إلى الإسكندرية في 20 تموز (يوليو) 1946م.[52] وقد انضم درويش للمفتي في مقر إقامته في الإسكندرية، حيث استأجر المفتي منزلاً وأقام فيه مكتباً للعمل.[53]
خلال غياب المفتي في فرنسا، كانت الأحزاب الفلسطينية قد اتفقت على تشكيل الهيئة العربية العليا، فتأسست في 12 حزيران (يونيو) 1946م، وتركت منصب الرئاسة شاغراً للمفتي، وحين لجأ الأخير وابن أخته درويش للقاهرة قام فوراً بتعيينه والشيخ حسن أبو السعود ورفيق التميمي أعضاءً في الهيئة[54]، وقد بقي عضواً مهماً في الهيئة طيلة حياتها. ومن القاهرة شارك درويش في تنظيم المجهود العسكري للفلسطينيين خلال حرب 1948م، وبعد ضياع فلسطين بقي في القاهرة ملازماً للمفتي، وعاملاً في صفوف الهيئة العربية العليا، ولازم المفتي في سفراته المختلفة في العالم العربي والإسلامي، وشاركه حضور المؤتمر الإسلامي العام الذي عقد في الباكستان واختير المفتي رئيساً له، كما شارك مع المفتي وإميل الغوري في وفد الهيئة الذي حضر مؤتمر باندونج في أندونيسيا الذي عقد في نيسان (أبريل) 1955م[55].
في عام 1959م غادر المفتي القاهرة سراً إلى لبنان بعد خلافه مع النظام الناصري، إلاّ أن درويش بقي وعائلته الصغيرة يعيش في القاهرة[56]، ولم يكتف المفتي بالخروج من القاهرة بل قام بالتحالف مع نظام عبد الكريم قاسم في العراق الذي كان يشنّ حرباً ضدّ عبد النّاصر محاولاً أخذ مكانه في زعامة العالم العربي، كما شنّ المفتي في عام 1964م هجوماً إعلامياً ضدّ أحمد الشقيري الذي وكّله عبد النّاصر بتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، وشملت حملة المفتي ومنشوراته اتهاماً مبطناً لعبد النّاصر بالتآمر مع الولايات المتحدة الأمريكية على القضية الفلسطينية والسعي لتصفيتها. أدت مواقف المفتي إلى منع النظام المصري لدرويش عام 1964م من العودة إلى القاهرة بعد أن كان في زيارة للمفتي في بيروت.
لم يجد درويش مكاناً يلجأ إليه فقرر العودة لمسقط رأسه القدس، وقد توسط له أنور نسيبة لدى الحكومة الأردنية التي كانت تبسط سيادتها على الضفة الغربية منذ نكبة فلسطين 1948، فسمحت له الحكومة بالدخول للأردن، فعاد للقدس، وبسبب إصابته بالروماتزم فقد كان يسكن أريحا خلال فصل الشتاء عند أخته أم حكمت. وقد اشترط عليه الأردنيون تقديم تعهد بعدم الاشتغال بالسياسة.[57] بقي في فلسطين إلى أن توفي سنة 1974م، وكان قد اشترك بعد حرب 1967 في تأسيس الهيئة الإسلامية العليا[58].
المذكرات:
دوّن محمد إسحق درويش مذكراته على دفتر أجندة لسنة 1939[59]. وتضمنت هذه المذكرات أحداثاً شهدها هو شخصياً، أو حصلت مع آخرين ورويت له، كما تتضمن ملخصات لرسائل وصلت للمفتي الحاج أمين الحسيني وقرأها هو، ومقتبسات من كتب وجرائد ومجلات يتعلق قسم منها بالتاريخ العربي-الإسلامي، وخصوصاً المتعلق بفلسطين وبالصراع العثماني الأوروبي، وقسم آخر بأوضاع بعض الدول العربية التي اهتم بها، كما اهتم درويش بتدوين بعض الأشعار، ومنها أشعار شعبية ثورية. والواضح من قراءة المذكرات والنظر في ترتيبها أنها كانت مدونةً أصلاً على أوراق متناثرة ومتفرقة بتواريخ مختلفة، ومكتوبة في أماكن متعددة[60]، ثم جمعها درويش في هذا الدفتر، وأضاف لها لاحقاً مذكرات وملاحظات إضافية ولكن دون الحفاظ على تسلسل زمني، إذ يوجد اختلال بالترتيب الزمني، فهناك حديث عن وقائع حصلت في الثلاثينات والأربعينات متسلسلة زمنياً يتخللها أحياناً عديدة حديث عن وقائع في الخمسينات وفي النصف الأول من الستينات، والواضح أن درويش كان يضيف ملاحظات وأحداثاً تتعلق بنفس الموضوع الذي كتب عنه في البداية. يلاحظ أيضاً أن درويش أجرى بعض التصحيحات لاحقاً وبقلم حبر جاف[61]، بينما المخطوطة مدونة بالحبر السائل، وأغلبها بالحبر الأسود، وباقيها بالأزرق، وهو القسم الذي كتب في الستينات.
يذكر درويش تاريخ الأحداث، وهي ترجع إلى فترات مختلفة، ولكن أغلبها في فترة الاحتلال والانتداب البريطاني، وفترة ما بعد النكبة، وأول حدث تاريخي في هذه الفترة يرجع لأواخر العام 1917 بعد دخول الجنرال ألِنبي للقدس، وهو يبين طبيعة الاحتلال البريطاني لفلسطين حسب درويش، فقد أظهر اعتقاده بوجود بعد ديني للاحتلال البريطاني لفلسطين، والقصّة أنّه بعد دخول الجنرال ألِنبي القدس يوم 9 كانون الأول (ديسمبر) 1917م، قام بزيارة كنيسة القيامة، حيث استقبله رؤساء وبطاركة الطوائف المسيحية من أرثوذكس ولاتين وموارنة وأقباط، وكان بجانبهم حراس الكنيسة من آل نسيبة. "وهنا سأل ألِنبي، ما شأن هؤلاء المسلمين في بالكنيسة المسيحية؟ فأجابوا إننا هنا من عهد عمر بن الخطاب، كحراس للكنيسة." وقد علّق ألِنبي على ردهم بأنّ عهد الأتراك (المسلمين) "انتهى وانتهى عملكم." فكان هذا بمثابة طردٍ لهم فانصرفوا مذهولين. ويكتب درويش تتمة للقصة، وهي أنّ "ألِنبي عاد واستدعاهم وقال لهم: الآن تعودون إلى عملكم ولكن في عهد بريطانيا." أمّا آخر تاريخ فيما دوّنه درويش فيرجع للعام 1964م. كما يدوّن بعد أغلب هذه الأحداث والملاحظات تاريخ تدوينها الأصلي، وغالباً بالتقويمين الهجري والميلادي (الغريغوري)، ومكان معرفته بها، ويذكر أسماء الرواة الذين استقى الحوادث منهم.[62]
موضوعات المذكرات الأساسية
اهتم درويش بتدوين أحداث وتعليقات تتعلق بجملةٍ من القضايا السياسية والتاريخية والأدبية، كان منها القضايا السياسية التالية:
·مكانة المفتي في القضية الفلسطينية وزعامته لحركتها الوطنية، فكتب حول العديد من نشاطاته، واتصالاته وعلاقاته بالقادة العرب، واهتم درويش بالكتابة عن الزعماء الفلسطينيين الذين اختلفوا مع المفتي، أو عارضوه وحاربوه، فهو يهتم خصوصاً براغب وفخري النشاشيبي، وعوني عبد الهادي، وموسى العلمي، وجمال الحسيني؛
· أحداث الثورة الفلسطينية 1936-1939 وبطولات رجالها، ومشاكلها وأسباب توقفها. وهو يروي تفاصيل كثيرة عنها تتعلق بالبطولات التي قام بها الثوّار، والمصاعب والمشاق التي تحملّوها، وبالأخطاء التي ارتكبت خلالها، وبالأشخاص الذين خانوا، باعتقاده، الثورة وساعدوا الإنجليز في القضاء عليها، وبالاغتيالات التي حصلت خلالها؛
·إظهار طبيعة الصراع على فلسطين، وأنّه مرتبط بالأطماع الغربية، وبالصراع الإسلامي-الغربي؛
·وكتب تفاصيل مهمة متعلقة بحرب 1948 مبيناً عوامل الهزيمة حسب وجهة نظره، ومشيراً إلى التخادل العربي تجاه قضية فلسطين، وإلى العدو الصهيوني وطاقاته وقدراته.
·كما تطرَّق للمشاريع التي طرحت لحل القضية الفلسطينية، ومصير هذه المشاريع؛
صورة معارضي المفتي في مذكرات درويش
أغلب ما كتبه درويش حول الشخصيات الفلسطينية التي عارضت سياسة المفتي، سواءً كان تأثير معارضتها ضعيفاً أم شكّلت تهديداً حقيقياً لها، كان سلبياً، ويهدف إلى التقليل من وطنية هذه الشخصيات، وإلى إظهار علاقتها بالسلطة الإنجليزية، أو تورطها في بيع، أو تسهيل بيع، الأراضي لليهود. تتناول هذه الحلقة صورة عوني عبد الهادي، الرجل الأول في حزب الاستقلال الفلسطيني، في هذه المذكرات، وهي صورة تعكس بالتأكيد ما آمن به المفتي حول عوني، وعلاقة الكره والنفور الشخصي بين الرجلين، وهو أمر انعكس على علاقة المفتي بحزب الاستقلال ورجاله، وخصوصاً خلال الحرب العالمية الثانية، حيث وقف أغلب هؤلاء ضد تحالف المفتي مع دول المحور، وأيدوا بالمقابل الحلفاء.
صورة عوني عبد الهادي
يظهر عوني في تسجيلات درويش كشخصية قابلة لتضييع الحقوق الفلسطينية، فهو يوافق في اجتماع مع الزعيم الصهيوني حاييم وايزمن على أن تصل نسبة اليهود في فلسطين 40%، في الوقت الذي لم يوافق المفتي وأنصاره والعاملون معه مثل عزة دروزة على أن تزيد نسبتهم عن أكثر من 30%، كما أنّ عوني متورط في تضييع حقوق الفلاحين في وادي الحوارث وفي التسبب في إخراجهم من أرضهم، وهو أيضاً ضدَّ الثورة وضدّ القائمين عليها.
يدوّن درويش قصة اجتماع عوني بوايزمن في القاهرة والتي رتبّها هوراس رامبولد، أحد أعضاء لجنة بيل التي اقترحت تقسيم فلسطين سنة 1937م، وكان صديقاً للأمير محمد علي ولي عهد مصر. ففي أثناء مرور وايزمن في مصر سنة 1938م اقترح رامبولد أن يجتمع ببعض الرجال من مصريين وفلسطينيين، ودعا عوني عبد الهادي آنذاك للاجتماع، "وفي حديث بين عوني ووايزمن، قَبِلَ عوني أن يبلغ عدد اليهود في فلسطين 40% ووافق وايزمن"، وأعلن رامبولد ذلك في لندن بواسطة أعضاء مجلس اللوردات، وطلب حل قضية الهجرة وفلسطين على هذا الأساس. ولما بُحث مع عوني في هذا الموضوع قال أنا لم أوافق ولكنني سكتُّ".
أمّا عن مسألة أراضي وادي الحوارث، وتورط عوني فيها، وتسببه بإخراج الفلاحين العرب منها، فيدوّن درويش بتاريخ 19 كانون الأول (ديسمبر) 1939م، 10 ذي القعدة 1358ه، أنّ المستر غراتان بوش المستشار القانوني لوزير المستعمرات دعا المستر بريدي محامي حكومة فلسطين أمام لجنة شو، ودعا معه "جمال الحسيني وحسن الخالدي وموسى العلمي وعوني عبد الهادي، وكان من جملة الحاضرين كثير من كبار رجال الإنجليز... وفي حديث له مع موسى وعوني: اطلعت على تقرير يذكر فيه إجلاء 48 عائلة عربية من أرضها، وأنها هامت على وجهها لا تجد ما تعتاش به، وورد في التقرير أن المسبب لهذا، شخصية عربية كبيرة من متطرفي العرب السياسيين، أما هذه الشخصية فهي: عوني عبد الهادي زميلي وصديقي المحترم، وهنا حاول عوني نفي التهمة: فقال بريدي.. نحن محامون وزملاء يفهم كل منا الآخر ثم التفت إلى موسى وقال:
Don’t tell this in Jerusalem because they kill him.
لا تقل هذا في القدس لئلا يقتلوه.."
وفيما يتعلق بموقف عوني من الثورة الفلسطينية فقد كتب درويش النص التالي في بغداد بتاريخ 27 ذي القعدة 1359ه، 27 كانون الأول (ديسمبر) 1940م:
"الغريب في وضعية عوني عبد الهادي أثناء وجوده في مصر بعد سنة 1938 أنّه كان يتظاهر في الوطنية المتطرفة أمام عموم الفلسطينيين... وعندما قتل بعض آل رشيد، وحسن صدقي الدجاني انقلب ثائراً ضد الثورة. أما آل رشيد في جنين فلأنهم حلفاء آل عبد الهادي... فلا يجوز الاعتداء عليهم ولو أنهم عملوا ضد المصلحة العامة... وتواطأوا مع السلطة ضد المجاهدين .. واستلموا سلاحاً بواسطة سليمان طوقان لمقاومة الجهاد...
وأما حسن صدقي الدجاني... فلا يوجد سبب في تعليل غضبه لأنه خصمه... ويبغضه لمواقف عديدة... ولا تعليل لهذا إلا إظهار ما يخفيه ضد الثورة وضد القائمين على رأسها.
وفي سنة 1358ه/1940م حضر الشيخ حافظ وهبة إلى مصر في طريقه إلى الحجاز.. فتحدث في مجلس العامة، عن ضرورة وجود أشخاص من فلسطين قرب جلالة الملك... وسافر عوني وأخوه فؤاد... وفي مجلس الملك سئل عوني عن أسباب توقف الثورة فأجابه: نحن قضينا على الثورة لأننا اعتدينا على كبار وزعماء البلاد لمآرب خاصة وأحقاد شخصية... وأما أخوه فؤاد عبد الهادي: فكان يجيب على الأسئلة الموجهة إليه عن الثورة هكذا: "عرب تقتل عرب، وكذلك الإنجليز واليهود يقتلون العرب."
تبيّن هذه الاقتباسات من مذكرات وملاحظات إسحق درويش الصورة السلبية لعوني عبد الهادي عنده، ويعكس هذا بالتأكيد رأي المفتي أيضاً، ونستطيع أن نقرّر بناءً على هذه الصورة، وأيضاً بناءً على الإشارات الكثيرة في المصادر التاريخية حول نفور المفتي وأنصاره من عوني،[63] أن المفتي لم يكن يقبل اعتراضات عوني على سياسته، ولم ينظر إليها على أنها وجهة نظر أخرى، بل تعامل معها من منظار أنها صادرة عن شخصية مفرِّطة بالحق الفلسطيني، مستعدة للتهاون في المطالب الوطنية. وسنرى في العرض اللاحق أنّ موقف المفتي هذا لم يقتصر على عوني عبد الهادي فقط، بل شمل معارضيه الآخرين.
الهوامش
[*]محاضر في دائرة العلوم السياسية بجامعة بيرزيت.
[1]محمد إسحق اسم مركب، وقد شاع الاسم إسحق في المصادر التاريخية.
[2]هناك العديد من المؤسسات المختصة بدراسة تاريخ الدولة، منها مثلاً جمعية التاريخ التركي، وقد أمر بتأسيسها مصطفى كمال أتاتورك سنة 1931م، وهي تشغل بناية خاصّة بها في أنقرة تضم قاعات للمحاضرات والندوات ومكاتب للباحثين وعلماء التاريخ، وتخصِّص لها الحكومة التركية ميزانية محترمة تصرف على نشاطاتها ومنها تشجيع الأبحاث المتخصصة في التاريخ التركي، وعقد المؤتمرات والندوات المتعلقة به، وقد عقدت مؤتمراً حول فلسطين منذ العهد العثماني وحتى الآن خلال يومي 27 و28 تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 2013م، وشارك في المؤتمر حوالي عشرة من الباحثين الفلسطينيين، بالإضافة لعدد آخر من الباحثين المغاربة والمصريين والعراقيين، كما شارك باحثون من الولايات المتحدة وبريطانيا. وهناك مؤسسات شبيهة في مصر والمغرب والمملكة العربية السعودية، التي أنشأت دارة الملك عبد العزيز آل سعود للبحث في تاريخ المملكة.
[3]زوَّدني بهذا المصدر السيدة الفاضلة زكيّة كريمة المرحوم محمد إسحق درويش، وزوجها الكريم د. عدنان عبد الرازق، فلهما منّي عظيم الشكر والتقدير.
[4]ضمّت هذه الحلقة بالإضافة لإسحق كلاً من الشيخ حسن أبو السعود ومنيف الحسيني، ابن أخت المفتي، ومحمد العفيفي وسعد الدين عبد اللطيف، وجميعهم من القدس.
[5]اضمحلّت زعامة المفتي حين تمّ تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة أحمد الشقيري وبدعم مصري من الرئيس جمال عبد النّاصر، حيث أصبحت الهيئة العربية العليا التي رأسها المفت&