"كنا أطفالا لم نعلم شيئا عما كان يجري قالوا لنا سنخرج لنعود بعد أيام.. من كان لديه دابة كان يحمل أطفاله عليها و إلا عليه المشي وكنت أنا ممن مشوا ... ثلاث أيام و نحن نمشي حتى وصلنا إلى منطقة آمنة".
وهذا الطفل الذي لم يكن قد أكمل عامه التاسع بعد، أصبح الآن لاجئا يحمل على ظهره سنوات نكبته الـ66 في مخيم قلنديا الواقع إلى الشمال من مدينة القدس، وذكريات أكبر منها عن بلدته التي هجر منها البرج الواقعة إلى الشمال من مدينة القدس المحتلة.
الحاج شاهر إسماعيل الخطيب، 75 عاما يذكر الصورة واضحة عن خروجهم الأخير من القرية التي لم يعد إليها منذ ذلك الحين ولو حتى زيارة:" لم يسمح لي بزيارة القرية فقد دمرت بالكامل وسلبت كل حجارتها التاريخية، والمرة الوحيدة التي استطاعت رؤيتها كانت خلال مروري من حدودها باتجاه سجن مجدو لزيارة حفيدي، استطاعت رؤيتها من بعيد".
قرية البرج تبعد عن الرملة 18 كيلوا فقط، خرج أهاليها مع أهالي القرى المحيطين بها بعد ما سمعوه ممن هربوا و لجأوا إليها من اللد والرملة والقرى المحيطة: "خرجنا من الخوف وحرصا على عرضنا، فقد سمعنا أبناء عن قتل الناس وذبحهم واغتصاب النساء، كانوا يتحدثوا عن ذبح الناس في داخل البيوت والشوارع وكانوا الناس الذين هربوا من المجازر يمرون من قريتنا ويتحدثون عن المجازر".
ويتذكر الخطيب عائلة من قرية البرية القريبة والتي لجأت لديهم قبل الخروج بعد هروبهم من قريتهم بسبب المجازر التي وقعت في قريتهم، وأنهم باتوا ليلتهم يتحدثون عن ما أصابهم من اعتداءات من قبل الجماعات الصهيونية".
وقال الشيخ الخطيب:" كان الجميع يردد "أطلع بعرضك و أترك أرضك" ولكننا كنا على يقين أننا سنعود بعد أيام".
من البرج مشى الخطيب وعائلته مسافة طويلة إلى عين عريك وهناك مكثوا تحت الشجر لأيام، ومن هناك انتقلوا إلى بيت نوبا ومن بيت نوبا ارتحلوا إلى عين كينيا.
في عين كينيا انتشرت الأمراض بين اللاجئين ومات منهم من مات، فانتقلوا إلى قرية صفا القريبة، ومنها لخربثا بني حارث، وفيها بقيت العائلة ثمانية سنوات، حتى انتقلت للمخيم".
ولم يكن خروج قرية البرج بشكل منفرد، فقد كان خروجا جماعيا للقرى المحيطة أيضا: "عندما خرجنا من البلدة خرجت معنا القرى المحيطة (بير أم معين) و التي أقيمت الآن عليها مستوطنة موديعين و(شلتا) من الجهة الشمالية، (بيرفيليا) وجيرانها.
لم يكن الخروج سهلا، فإلى جانب اضطراره للمشي طويلا وتحت الحر، لم تكن العائلة تستطيع أن تتوقف للراحة كانوا يسيرون بشكل مستمر لخوفهم من العصابات الصهيونية التي كانت تلاحق الناس وتطلق الرصاص عليهم، " كنا نسمع الرصاص بكل مكان".
وكانت القوات الصهيونية أغلقت مداخل البلدة من كل الجهات وأبقت الجهة الشرقية فقط على خط الهدنة باتجاه الضفة الغربية وليس إلى الداخل.
في عين عريك كانت عائلة الخطيب كما باقي العائلات، تعتاش على ما تقدمه الصليب الأحمر والتي تقدم الرز والحليب، وكان حظهم الجيد بان كان تجمعهم في المنطقة فيها نبع ماء.
يقول الخطيب: "كنا نجمع ورق العنب "الدوالي" من الحقول المجاورة ونبيعها في رام الله، أو يعمل الكبار في العتالة ليضمنوا كسب رزق يومهم".
خرج الخطيب من كل عائلته أعمامه وأخواله وأبوه ووالدته وأشقائه "وجيهة، وفيقة، محمد،،نجلاء، مصطفى".حمل أشقاءه الأطفال على الدواب في " الخرج" فيما أضطر هو وشقيقته الكبرى وجيهة للمشي على القدمين".
ويتذكر الحاج الخطيب منزله في البلاد، حيث لم تخرج العائلة أي شي منه، وتركت كل شي على حاله، الحبوب والمونة والزيت والزيوت والعسل والجبنة، وكل ما تنتجه المنطقة كان في مخزن البيت".
والبرج كانت تشتهر بزراعة القمح والشعير والزراعة الصيفية، على عكس البلدان القريبة التي كانت تشتهر بزراعة الحمضيات، إلا أن والده لم يكن يعمل في الأرض كباقي أبناء القرية، فقد كان يمتهن مهنه الحلاقة، يحلق لأبناء القرية في غرفة خصصت لذلك في طرف البيت، ويتلقى مقابل ذلك المونة أو مقابل مادي.
وعن بيته يقول الخطيب : عندما تفتح الباب الرئيسي من الجهة الغربية ويحيط بالبوابة سور من الحجر "سناسل" وفيها قوس كبير وباب خشب، ومصطبة طبقتين، وملحقة بطابون"، ويضيف : "كان أبي "إسماعيل الخطيب" حلاق فرنساوي، يحلق للقنصل الفرنساوي في يافا، ومشهور في البلدان المحيطة".
وأكثر ما يتأسف عليه ويحزنه في البلاد هو أبناء حارته الذين كان يلعب معهم ولا يزال يتذكرهم إلى الآن "فايق الحسن" و"عيسى منصور" و"محمد فايز"، ويتذكر أيضا أبناء صفه في المدرسة التي بنيت في القرى ولم يدرسوا فيها إلا عام فقط، حيث كان قد أنهى صفه الأول في مدرسة بير أم معهين القريبة، وانتقل إليها بعد إنشاؤها درس فيها الصف الثاني الذي لم يكتمل بسبب النكبة و الهجرة، وكان عدد طلاب المدرسة 34 ولدا".