أنا لاجِئٌ من قرية سمخ
إبراهيم ملك
كانت سمخ مسكونة في القديم وترجع في نشأتها إلى أصول كنعانية وكذلك اسمها . وهوما تؤكده القبور والآثار الكثيرة المتناثرة والمنتشرة في حواكيرها . لكنها،في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان يسكنها ناس كثيرون، عرب ذوو أصول بدويّة، ينزلون الأرض الواقعة بين طبريا، غربا، والحمّة السورية، شرقا، وبين البحيرة وملتقى النهرين، الأردن واليرموك، عند جسر المجامع، وينزلون، صيفا، في المرتفعات الواقعة الى الجنوب الشرقي من طبريا . وكانت أرضها خصبة، غنية بالمياه الجوفية وتكثر في سهولها الغزلان والطيور والخنازير البرّية.
وقد نزل فيها في سبعينيات القرن التاسع عشر أولاد سيدي يخلف الجزائريون واستقروا فيها . وجاء بعدهم اولاد حمولة المهناوي، التونسية – الجزائرية الأصول ( ومنهم أمي ) وشيدوا بيوتهم فيها عند الشَّطِّ الجنوبي للبحيرة وحيث ينطلق النهر منها جنوبا ( الشريعة ) .
في تلك الأيام لم تختلف سمخ، من حيث كونها قرية صغيرة، فقيرة ومتخلفة، عن أخواتها، قرى غور الأردن اللاهب . وكانت في تلك الأيام " ملطى الحرامية "بين عيدان القصّيب، عند النهر . ففيها كثر قطّاع الطرق من بدو المنطقة، الذين كانوا،بـِسـَطـْوِهم وقساوة قلوبهم، يهدّدون كل تجارة بين سوريا وفلسطين وعلى العكس في ذلك الموقع . وكانت الحكومة العثمانية ( السلطة الاستعمارية في استانبول ) من الضّعف الشديد، فلم يكن في وسعها توفير الحماية في المنطقة . فبوليسها ( الجندرمة ) كان يتحرك أساسا وفقط لجباية الضريبة وقمع كل حركة قد تهدّد السلطة العثمانية المركزيّة . ولكن حين كثر سكان القرية قاموا باستصلاح الأرض، التي كان يكثر فيها شجر الرّبيض الشوكي ( من عائلة السدر ) والقصّيب والحيوانات البرية، وقاموا باقتلاع ظاهرة قطاع الطرق لكن واقع سمخ السكاني، الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، بدأ يتغيّر، يا للمفارقة، تدريجيا جذريّا وكليّا بعد الاحتلال البريطاني . يومَها رُسِمَتِ الحُدود من جديد، وبدقّة، بين مناطق نفوذ الانتدابين الاستعماريين : الفرنسي في سوريا ولبنان والبريطاني في فلسطين وفيما صار الأردن لاحقا وفي العراق .
تمَّ رسم الحدود بشكل يخدم مصلحة الاستعمارَيـْن، البريطاني والفرنسي ، ومشروع الغزو الصهيوني – الغربي للمناطق من بر الشام التي عـُمـِل على أن تشكل أساس دولة اسرائيل العتيدة وبالطبع ليس مصلحة الأهلين . لكن الأهالي ربحوا ظاهريا ومؤقتا بعض الشيء . إذ طُوّر العمل يومها في سكة الحديد التي كانت تربط بين حيفا ومدينة درعا السورية، مرورا بالعفولة وبيسان وسمخ والحمة السورية وصولا إلى بلدة درعا فالشام . وشُيِّدَتْ في سمخ مَحَطَّةُ للحَجْرِ الصِّحّي ( الكرانتينا ) ومحطة لبوليس الحدود والبوليس العادي . كما استفادت سمخ، كثيرا، من الموقع التجاري ومن الشارع العام، الذي يربطها بالحمة، شرقا، وبالأراضي السورية ويربطها بطبريا والناصرة ( غربا ) وبجسر المجامع فبيسان ( جنوبا ) والأراضي الواقعة الى الشرق الجنوبي، والتي خضعت للسلطة البريطانية الاستعمارية وباتت تشكل أساسا للأمارة الهاشمية، شرقي نهر الأردن . فظهرت في سمخ الأسواق التجارية الكبيرة ( الحِسَب ) وشهدت بدايات ظهور برجوازيات تجارية. وقد شُيّدَ فيها مدرسة، جلب لها معلمون من الناصرة وطبريا وكفرياسيف وطرعان . واستقر فيها عشرات العائلات الطرعانية ( من طرعان ) والوافدة من لوبية وقرى أخرى . وصارت ملاذ كل وافد اليها، تُوَفّرُ له الأمن الشخصي والاجتماعي وفرص التقدم . وقد أسهم كل هذا في ازدهار العمالة فيها ونشوء أسواق تجارية واتساع السوق المحلي .
وللحقيقة ...عاش في سمخ، بحسن جوار وصداقة، سكان البلدة الأقدمون ( المهاجرون المغاربة ) والوافدون الجدد من أماكن مختلفة . وكان فيها مجلس محلي يدير حياة القرية المتّسعة .
لقد باتت سمخ، التي ازداد كثيرا ونسبيا عدد سكانها في فترة قصيرة زمنيا وبدأت تزول الفوارق بينهم، بين فلاحٍ وافِدٍ وبين مغربي ذي أصول مهاجرة وبدأت عملية صهرهم في مجتمعٍ قروي متجانس قليلا، ينزع الى التمدين ( من مدينة )، في هذا الوقت باتت سمخ تكتسب معالم بلدة، تعيش كل مظاهر التحويل المديني، مثل الناصرة وصفورية المهجرة ومثيلاتها، البصة، طيرة حيفا المهجرتان وطيبة بني صعب في المثلث وشفاعمرو في الجليل .
باتت سمخ مدينة حدودية مزدهرة لولا الاحتلال الاسرائيلي في ربيع1948، عام النكبة، الذي رحّل سكانها شرقا قريبا، أولا، الى الحمة السورية، وبعيدا في المرّة الثانية، في حزيران1967، الى ما صار يعرف بالشتات .
حال السطو الصهيوني في فلسطين، الذي باركته الدول العظمى المهيمنة على مصائر الشعوب المستضعفة، دون ازدهار سمخ ونموها الطبيعي :السكاني، الثقافي، الاجتماعي والاقتصادي.
حين تعود بي الذاكرة إلى سمخ، أذكر بيت جدي المبني من طين، لكن الرحب، المضياف والمطل على البحيرة شِمالًا وجنوبًا على الشارع الرئيسي الواصل بين الحمة السورية وبين طبريا الفلسطنية، أذكر بيت أبي الذي شيده على مقربة من بيت جدّي، ليسكنه في الشيخوخة ولم نهنأ ولو للحظة بسكناه، فكان أبي يسكن في حيفا حيث مكان عمله، ولم نستطع العودة إليه بعد عام النكبة وكان من حجر أسود ولا أزال أحتفظ بترخيص بنائه وتحضرني صورة البيادر وأذكر حديث أمي عن بعض أرض جدي واسمها أرض الدوير وكانت تمتد من الماء (نهر اليرموك) حتى الماء (بحيرة طبريا).
في خريف ذات سنة زارني ولدي الأصغر بلال وصدف أن كُنتُ مَدْعُوَّا من جمعية "السبيل" لأتحدث عن سمخ، فرافقني في الرحلة . كنت في أقصى السعادة إذ عُدنا يومها، وَلَدي بلال وأنا، إلى تراب سمخ، سمائها وعبق فضائها، لكن يا لحزننا :لم يُبقوا فيها حَجَرًا على حَجَرٍ يشهد على ما كان، هدموا القرية وحولوها منتزها وقام على مقربة من أنقاضها المُهَدَّمَة كبوتس تصيمح وَوَزِّعَتْ أراضيها الخصبة والرحبة على القرى التعاونية " بيت زيرع " و" هأون "و "تصيمح " .
مصير سمخ لم يختلف عن مصير أخواتها، بيسان،جسر المجامع،ناصر الدين، السمرا، النقيب و القرى الأخرى المنتشرة جنوبا حتى كوكب الهوا وبيسان وغيرها من قرى فلسطين .
وحين نقلت وسائل الإعلام المرئية والمقروءة صور الموت، الدمار والتدمير المُتعمَّد في قطاع غزة، كثيرا ما تذكرت ما أصاب سمخ وأخواتها :عقلية واحدة، آنذاك واليوم، تقف وراء هذا الفعل الفظيع، الغرض واحد والهدف واحد، المتواطئون والصامتون على جريمة ما كان وما حدث قبل أكثر من سبعين سنة وجريمة ما يحدث اليوم، هم ذلك الواحد وإن تبدَّلتِ السِّحَن وتبدَّلَ الشخوص .
وكثيرا ما سألت نفسي في السنوات الأخيرة ولا أزال أسألها عن السر والسبب في عدم تحويل مطلب العودة، هذا الحق الإنساني، إلى مطلب ونهج عمل نحققه بوسائل كفاحية مدنية، مثابرة، جريئة، لا موسمية ولا فئوية، مستعدة للتضحية.
وكم كنت أتمنى لو يغدو مطلب العودة مطلبا رئيسيا، يتبناه الفلسطينيون وغيرهم في عالمنا الصغير والكبير .فمطلب حق العودة هو مطلب إنساني قبل السياسة وفوقها . فما أفظع أن يحرم المرء عنوة من حقه في الحياة في مسقط رأسه .هذا الحق ثابت ودائم، أما الدول فمؤسَّسات عابرة ومتغيرة . هذا ما يجمل بنا أن نعيه جيدا وعميقا .
كانت تربط سكّان البلدة علاقات جوار حسنة وعادية مع السكان اليهود في الكبوتسات المجاورة، بيت زيرع ودغانيا (أ) ودغانيا (ب) وسكان طبريا، اليهود والعرب، لكن أهالي سمخ لم يتصوروا، لطيبتهم وبساطتهم، أن أهالي هذه المستوطنات، الذين أحسنوا معاملتهم، كانوا يتوقعون اللحظة المناسبة لترحيلهم والحلول هم أو آخرون في بيوتهم وفوق أراضيهم ويحولون دون عودتهم . وكأن سعادة الوافدين الجدد، بقوة السلاح لا الحق المتوارث ولا التواصل الإنساني، سعادتهم ومستقبلهم لا يكونان إلاّ فوق خرائب وجثث الآخرين .