في مدينة اللد العريقة، على أرض فلسطين التي كانت مهدًا للحضارة، بدأت حكاية عائلتي. لم تكن الحكاية حكاية مالٍ أو جاه، بل كانت قصة علمٍ وورع، خُطّت بالحبر والورق، بالقرآن والفقه، وبصوت المساجد وحديث المنابر. من هناك وُلد جدي، الشيخ خليل حمّاد اللّدي، العالم الفقيه، الذي أصبح اسمه مرادفًا للعلم، وسيرته تُروى كلما ذُكر الأزهر الشريف أو حضرت مقامات الفتوى.
الشيخ خليل حمّاد اللدي
يعود تاريخ الشيخ خليل إلى ما قبل عام 1910م، ويُقال إنه عاش أكثر من قرن من الزمان، قاطعًا دربًا طويلًا في التعليم والفتوى، حتى صار مرجعًا في الفقه والشريعة. كان من أتباع الطريقة الماتريدية التي أقرّ الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب بأنها جزء أصيل من عقيدة الأزهر الشريف، إلى جانب منهج الإمام الأشعري وفقه الأئمة الأربعة وتصوف الإمام الجنيد. لم يكن مجرد عالم، بل فقيه متمكن، يُقدَّم اسمه احترامًا وتقديرًا في المحافل العلمية. وتُروى قصة شهيرة عن رجل قصد الأزهر يطلب فتوى، فلما سُئل من أين أتى، قال: من اللد، فكان الجواب: "أجئت وفيكم الشيخ خليل حمّاد؟ ارجع واستفته، فهو أعلم من كثير ممن عندنا".
توثيق النسب والتوقيعات
جميع الوثائق التي حملت توقيع الشيخ خليل حمّاد ذُيّلت بلقب "اللّدي"، تمييزًا له عن أي شخص آخر يحمل الاسم ذاته. هذا التوثيق عزز من مكانة العائلة، التي واصلت حمل راية العلم والتدين، وأصبحت من أعمدة الفكر والفقه في فلسطين، مدافعة عن القيم في وجه التحولات التاريخية العاصفة.
الإرث العلمي للعائلة
لم يكن الشيخ خليل استثناءً، بل حلقة ضمن سلسلة من العلماء والوجهاء:
-
الجد الأكبر الشيخ حمّاد: عُرف بورعه واتصاله بالقرآن، حيث كان يكتب مصحفًا كاملًا أسبوعيًا بخطه المتقن ويهديه إلى المساجد، في زمن ندر فيه من يتقن ذلك.
-
الوجيه محمد حمّاد: من رموز الحكمة والإصلاح الاجتماعي في اللد، عُرف بكرمه ورجاحة عقله ومساهماته المجتمعية.
-
الشيخ طاهر محمد حمّاد: من علماء الأزهر الشريف، تولّى الإمامة والفتوى في يافا وفلسطين بعد نكبة 1948.
-
الشيخ رمزي حمّاد: والدي، درس في الأزهر، وعمل في جريدة الدفاع، وكان إمامًا وواعظًا ضمن القوات المصرية، واستمر في نشاطه الدعوي والصحفي في غزة.
أصل العائلة: بين الرواية والتاريخ
أكد والدي أن أصول العائلة تعود إلى فخذ من آل إقدح من آل خطاب بفلسطين. في المقابل، ظهرت روايات تربطها بالمغرب العربي، ولكن هذه الرواية يُشكك فيها بناءً على دلائل علمية ولغوية، أبرزها قدرة الجد الشيخ حمّاد على كتابة المصاحف وتشكيلها، وهو ما يتطلب إتقانًا عاليًا للغة العربية، ما يصعب توافقه مع بيئة مغربية كانت تعاني من الأمية خلال تلك الحقبة.
الهجرة الحجازية إلى فلسطين
شهد القرنان 18 و19 موجة من الهجرة الدينية من الحجاز إلى فلسطين، بدافع المجاورة في الأماكن المقدسة ونشر العلوم. ويُعتقد أن جد العائلة الأول جاء بعد أداء فريضة الحج، واستقر في اللد، القريبة من القدس والرملة ويافا، لما كانت تمثله من أهمية علمية وزراعية.
رمزية "الحج المعاكس"
ظاهرة استقرار بعض الحجاج في فلسطين بعد إتمام المناسك عُرفت أحيانًا باسم "الحج المعاكس"، وهي تعكس ارتباطًا روحيًا قويًا بالأرض المقدسة، وسعيًا للعلم والسكينة.
الاستقرار والامتداد
منذ استقرارها في اللد، انتشرت العائلة في يافا ومصر وشرق الأردن، وبرز أفرادها في مجالات الدين والتجارة والتعليم، ما يعزز فرضية الأصل العلمي والديني للعائلة.
الاسم الذي أصبح هوية
"حمّاد" ليس مجرد اسم، بل راية، يُقال لأبنائه: "أنتم أولاد الشيخ خليل حمّاد" تكريمًا وإجلالًا. وكل الدلائل التاريخية واللغوية تشير إلى أصل فلسطيني ضارب في عمق مدينة اللد.
اللد والثورة
اللّد، التي يصفها أهلها بـ"الدولة الثامنة"، لم تسقط إلا بخديعة، حين دخلها العدو متخفيًا بزي الجيش العربي. دافع الأهالي عنها بأسلحة بدائية، واستولوا على مدافع من سكة الحديد، وصنعوا عربات مصفحة بجهودهم، عبر مخارط مثل محددة ديدج ومحددة حسين حمّاد.
شهادة الحاج حسين يوسف حمّاد
روى الحاج حسين أن أول مدفع صُنع في فلسطين خرج من يده، وكان أول من اختبره بنفسه، في موقف يعكس روح التضحية والإقدام. شهادته تُناقض روايات أخرى منشورة، وتستحق التوثيق لما تحمله من مصداقية ووزن تاريخي.
عبقرية التصنيع المحلي
لم يقتصر دور مخارط اللد على تصفيح العربات، بل أُعيد تدوير القذائف مرارًا، في وقت كانت بعض الجيوش العربية عاجزة عن امتلاك قاذفات مدفعية، مما يكشف عن عبقرية أهل اللد في مواجهة الاحتلال.
الوالد الشيخ رمزي حمّاد
نشأ يتيمًا بعد وفاة والدته، لكنه واصل طريق العلم، فدرس في الأزهر، وتزوج من كَربهان الكيالي، سليلة أسرة كريمة من اللد.
زواج رمزي وكربهان: قصة تُروى
وثّق القاضي الشيخ خليل حمّاد زفاف ابنه بأبيات شعرية خُبّئت فيها سنة الزواج بحساب الجُمّل:
الكرب هان بنظرةٍ في كَربهان
والهم زال بنظرةٍ في رمزي
بحساب الجُمّل، حمل البيت الأول تاريخ 1 محرم 1334 هـ / 16 نوفمبر 1915م، وسُجل هذا الزواج في الشعر كما في المحكمة، كتحفة أدبية وتاريخية تُروى بفخر إلى يومنا هذا.
والدي الشيخ رمزي: العالم، القاضي، المربي
لم يكن والدي، الشيخ رمزي حمّاد، مجرد رجل دين؛ بل كان أنموذجًا متكاملاً للعالم العامل، الذي جمع بين نور العلم وصدق السيرة. تخرّج في جامعة الأزهر، وأبى أن يبقي علمه حبيس الكتب، بل أنزله إلى أرض الواقع، حيث افتتح مكتبًا قانونيًا قبالة محكمة يافا، أسماه «مكتب الشيخ رمزي». لم يكن ذلك المكان مجرد دكان معاملات، بل كان مقصدًا لطالبي العون والمشورة. كان يستقبل الناس بابتسامته الهادئة، يُعينهم على تجهيز الوثائق القانونية، ويشرح لهم تفاصيل القضايا بروح العالم الحليم.
وبفضل هذه الخبرة، نال ثقة المجتمع، فشغل منصب قاضٍ شرعي في محاكم يافا، وعمل كذلك مصححًا لغويًا في جريدة الدفاع الفلسطينية، وهو ما أتاح له الجمع بين الفقه والقلم، وبين القضاء واللغة. وبما أن موارده تنوعت، فقد عاش ميسور الحال في زمانه، وهو ما أتاح لي، كابنه، أن أرافقه كثيرًا، وأتتلمذ على يديه خارج أسوار المدرسة، مستقيًا من حكمته ومواقفه دروسًا عميقة لازمتني طوال حياتي.
ومضات من الطفولة: بين المنبر وسجائر الحشيش
من أصفى ذكرياتي، تلك الجمعات التي كنت أرافق فيها والدي إلى منبر الكتيبة المصرية في رفح. كان يخطب دون ورقة، بكلمات تنساب من قلبه كما ينساب النبع الرقراق. كلماته كانت تسبقها نواياه، تصل القلوب قبل الآذان، وتهز النفوس قبل العقول. كنت أجلس بين المصلين، طفلًا صغيرًا بعينين واسعتين، أراقب التأثير الساحر لصوت أبي. المصلون يبكون، الرجال ينتحبون، والمكان يكتسي بسكينةٍ تتخللها همسات الخشوع.
لكن الدهشة كانت في ما يلي الخطبة، بعد التسليم والخروج من المسجد. رأيت بعض المصلين يسحبون سجائر الحشيش من جيوبهم، يشعلونها بأيدٍ ما تزال مبلّلة من دمع الصلاة. وبدافع طفولي بريء، كنت أقترب وأسأل: "كيف؟ أليست هذه الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر؟" وكان الجواب يأتي بلهجة مصرية لا تخلو من سذاجة: "ده فرض وده فرض." في عقولهم، الصلاة والحشيش أمران لا يتعارضان؛ كلاهما صار من طقوسهم.
في تلك اللحظات، وقفتُ على التناقض الغريب في النفس البشرية: أن يُبكيك الوعظ، لكن لا يُغيّر فيك شيئًا. أن يتبلل خدك من الخشوع، بينما يدك تشعل ما يُذهب العقل. أدركت أن الإيمان، أحيانًا، قد يكون هشًا أمام سطوة العادة، وأن بين تأثر القلب وتغيير السلوك مسافةً طويلة.
من فتاوى الشيخ رمزي
من المواقف التي لا تُمحى من ذاكرتي، أن رجلًا جاء يسأل والدي عن تفسير آية الوضوء:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}
فقال الرجل: "أليست الأرجل ممسوحة كما الرأس؟"
فأجابه والدي بهدوء العالِم المتقن: "بل الأرجل منصوبة كالأيدي والوجوه، فيعود حكم الغسل عليها. أما المسح، فخاص بالرؤوس، هكذا قالها القرآن، بلسانٍ عربي مبين."
وكانت هذه إحدى المرات التي رأيت فيها كيف يكون العلم الحقيقي مزيجًا من اللغة والفقه، من المنطق واللطف.
حكمة "أظن"
من وصاياه التي لازمتني طوال حياتي، أن أبدأ كل رأي بكلمة "أظن". كان يقول لي:
"إذا قلت: أظن، ثم أخطأت، فإنك لم تجزم. وإن أصبت، قيل: إن كان ظنه صوابًا، فكيف بيقينه؟"
كانت هذه العبارة درعًا من الغرور، وسيفًا في معركة الجهل، علمتني أن التواضع لا يُنقص من العلم، بل يُزيده هيبة. وقد ورّثتها لأولادي كما ورّثني إياها، وقلت لهم: "اجعلوها شعاركم، ترفع رؤوسكم وتحمي قلوبكم."
لا تغضب
كثيرًا ما كان يردد حديث النبي ﷺ: "لا تغضب"، وكأنها وصية خاصة له. كان يرى في الغضب عدوًا يُحطم الحكمة، ويشوّه القرارات. وكان يقول: "إن استطعت أن تملك نفسك في لحظة الغضب، فقد أمسكت بطريق إلى الجنة."
لم يكن هذا مجرد وعظ، بل سلوك يومي في بيته، في عمله، في أقسى المواقف. رأيته يغضب مرة، فسكت، ثم ابتسم. وكان هذا درسًا لا يُنسى.
لا تكذب
وما زلت أذكر كم كان يكرر: "لا تكذب". كان يرى في الكذب أصلَ كل شرّ، وبدايةَ كل انحدار أخلاقي. لم تكن هذه مجرد قاعدة أخلاقية، بل كانت ركيزة في تربيتي. كلما وقفت أمام خيار صعب، ترددت في النطق بغير الحقيقة، كان صوته يأتيني من أعماق الذاكرة: "لا تكذب، فإن الكذب يُفسد على الناس دنياهم وآخرتهم."
الصدق في القول والعمل هو من أعظم الفضائل التي يجب أن يتحلى بها المسلم، كما كان الشيخ رمزي يُعلّم محيطه أن الإنسان الذي يتحرى الصدق ويتجنب الكذب، يُصبح في حالة من الطمأنينة والاحترام من قبل الآخرين وعلى الرغم من أن الكذب قد يكون مغريًا في بعض المواقف، إلا أن قيمته الضارة في المستقبل تجعل الصدق هو الخيار الأكثر حكمة, هاتان الوصيتان - «لا تغضب» و«لا تكذب» - هما جزء من الأخلاقيات النبوية التي أثرت بشكل كبير في حياة الشيخ رمزي، وأثرت بدورها علي، تلك الدروس التي تعلمتها من والدي، كان لها دور كبير في تشكيل شخصيتي وحياتي العملية، حيث أصبح أدرك قيمة السكينة والصدق في مواجهة تحديات الحياة.
طرَف والدي وألغازُه
في مجلس والدي، لا تُروى الطرائف لمجرد الضحك، ولا تُقال الألغاز عبثًا بل هي نوافذ يفتحها على اللغة، على الحكمة، وعلى الفن الذي لا يُعلَّم، بل يُشرب شربًا، وهنا واحدة من كلماته المحفورة في الذاكرة، لا لأنها مُزخرفة، بل لأنها كشفت لي يومًا أن الجمال الحق لا يحتاج إلى تكلّف وأن روعة العربية لا تكمن في استعراض عضلاتها، بل في صدق شعورها: ليست روعةُ اللغةِ العربيةِ في «فتى فُتن في فتاةٍ فتاه»
ولا عظمتُها في: «أَلَمٌ أَلَمَّ أَلَمْ أُلِمَّ بِدَائِهِ . . . إِنْ أنَّ آنٌّ آنَ آنُ أَوَانِهِ»
ولا جمالُها في: «طرقتُ البابَ حتى كلّ متني . . . فلمّا كلّ متني كلّمتني»
فكان طيب المعشر وابتسامته تسبقه دائما فهذا لهوه بعد تعبه معانا مع اخواتي ، فكانت كل ألغازه وألعابه علم يستنار به، ولم يمكنك معها إلا أن تقول: « ياالله على جمال اللغة العربية!»
رايات بيضاء في زمن الهزيمة
في العدوان الثلاثي عام ١٩٥٦قبل أن تعلن الهزيمة رسمياً بدأ الجيش المصري بالانهيارة فجأة وبدأ جنوده يفرون بلا أوامر واضحة تاركين خلفهم اسلحتهم وعتادهم حتى زيهم العسكري ، كان المشهد كأن المدينة كاملة تسلم للغرق لا بسلاح العدو وحده، بل بانسحاب الحامي وغياب الموقف، انسحب الجيش المصري من غزة في ليلة مباغتة، تاركًا خلفه مدينة بلا حماية، بلا جيش، بلا ذخيرة حتى البنادق تُركت مرمية على الأرض، وكأنها لم تعد تؤمن بالقتال، وفي تلك اللحظات التي اختنق فيها الزمن خرج والدي، الشيخ رمزي، مع وجهاء غزة، في مشهد لا يُنسى لم يحملوا بنادق ولا شعارات بل خرجوا رافعين الرايات البيضاء، لا جبنًا، بل حرصًا على أرواح الناس التي تُركت فريسة سهلة لعصابات الاحتلال الزاحفة، كانوا يمشون بخطى ثابتة، بقلوب ترجف لكنها لا تنهزم كانوا يعرفون أن العدو لا يرحم، وأن لا أحد خلفهم ليحميهم، ومع ذلك وقفوا كجدار أخير من الكرامة في زمن تكالبت فيه الهزائم.
أتذكّر أبي جيدًا في تلك اللحظة مع أربعة رجال من وجهاء المدينة، بثوبه الأبيض، وعمامته البيضاء التي لطالما كانت تاجاً في مجالس الصلح، يمشي بهدوء لكن بعينين تمتلئان بالدمع المكابر لم يكن فقط يرفع راية، بل كان يحمل وجع أمة ويداري انكسار مدينة، مرت السنوات لكن ذلك المشهد ظل محفورًا في ذاكرتي كأنّه وقع البارحة تعلمت منه أن الشجاعة ليست فقط في رفع السلاح، بل أحيانًا في أن تواجه الانكسار بكرامة، وأن تختار السلام حين يصبح القتال انتحارًا مجانياً.
لكن الرايات البيضاء لم تكن نهاية الحكاية بل بداية لزمنٍ أصعب بعد انسحاب الجيش المصري، دخلت قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى غزة بلا مقاومة تُذكر، وبدأت مرحلة من الاحتلال العسكري المباشر للقطاع، استمرت لعقود تحوّل أبناء المدينة من محميين بجيوش إلى أسرى في وطنهم، يتعلمون يوميًا دروس الصمود في ظل الغياب العربي والتخاذل الدولي.
أما أولئك الوجهاء، الذين خرجوا لحماية مدينتهم بصدورهم العارية، فلم يُذكروا في نشرات الأخبار، ولم تُرفع صورهم في المناسبات لكنهم بقوا في ذاكرة أهل غزة كمنارات في زمنٍ أطفأت فيه السياسة كل ضوء، ووالدي، الشيخ رمزي، بقي دائمًا ذلك الرجل الذي علّمني أن الوقوف في وجه العاصفة لا يحتاج إلى سلاح، بل إلى قلب مؤمن، وضمير حيّ، وراية لا تُنكّس حتى لو كانت بيضاء.
من اللد إلى يافا: مولدي على شاطئ الحكاية
لم تكن ولادتي في اللد، حيث تضرب جذور عائلتي عميقًا في أرضٍ علّمتنا الصمود، بل كانت في يافا، المدينة التي تتكئ على البحر وتفيض بالحياة والفكر والحلم، في تلك الأيام، استقر والدي في يافا بحكم عمله في محكمتها الشرعية، وارتباطه بجريدة «الدفاع»، التي كان من بين مؤسسيها ابن شقيقه، شوكت يوسف حماد، جمعت بينهما رابطة الدم، لكنها لم تكن وحدها ما شدّه إلى المدينة؛ فقد جمعتهما الكلمة، والمسؤولية، والاشتباك اليومي مع قضايا الناس والبلاد.
في هذه المدينة، التي كانت تُعرف بعنفوانها وطباعها الشامخة، وُلدت في الثالث من نيسان عام 1942، لكن اللد بقيت موطن الروح، وذاكرة القلب التي لا تزول.
البدايات حين اختارتني الحياة
كُنت الوحيد لوالديّ بعد أربع شقيقات: حياة، بثينة، زهيرة، وفدوى. حملتني أمّي بين ذراعيها وقد خسرت قبلي أربعة أطفال في سن الرضاعة، ثلاثة منهم أسمتهم «نبيل»، وواحدًا «نبيه»، وكلهم لم يُكتب لهم البقاء، حين حملت بي أشار عليها أحد الأقارب أن تُغير الاسم هذه المرة، فاختارت «خليل» دون أن تدري أن هذا الاسم سيكون رمزًا لبدء فصل جديد من الحياة، بدلًا من الموت المتكرر.
كانت والدتي رحمها الله تردد دائمًا أنني وُلدت وفي بطني علامة غريبة تشبه كلمتي «شمس قمر»، لم يفهم أحد من العائلة تفسير تلك العلامة، لكنها رأت فيها بشارة سماوية، وراحت تردد بثقة: «خليل حيعيش» «خليل مختلف»، ربما لم أفهم تلك القصة تمامًا وأنا طفل، لكنها بقيت حاضرة في ذاكرتي، كلما تذكّرت كم كان حضوري بالنسبة لعائلتي مختلفًا ولعل هذه البداية، بكل ما حملته من حذر وأمل، ساهمت في تشكيل جزء من شخصيتي، أو على الأقل، جعلتني أكثر وعيًا بثمن الحياة، وأقل ميلًا لأخذها كأمرٍ مُسلَّم به.
الحياة قبل النكبة
قبل عام 1948، كان المجتمع الفلسطيني يعيش في ظل الحكم البريطاني بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، حيث كان الانتداب البريطاني يسيطر على فلسطين منذ 1917. الحياة في فلسطين كانت متنوعة وتعكس التراث الثقافي والحضاري العريق، إذ كان هناك مزيج من المدن الكبرى مثل القدس وحيفا ويافا، إضافة إلى القرى الصغيرة في الريف الفلسطيني، قبل النكبة كانت حياة الفلسطينيين مليئة بالتحديات السياسية والاجتماعية، لكنهم عاشوا في بيئة كانت فيها العلاقات مع العرب، مثل المصريين، تسودها التضامن والاحترام المتبادل في مواجهة الأخطار المشتركة، الجنود المصريون الذين جاءوا لمساعدة الفلسطينيين في مقاومة التهديدات الصهيونية كانوا جزءًا من هذا التضامن العربي الذي كان هدفه الأساسي الدفاع عن الأرض الفلسطينية والحفاظ على هويتها.
الحياة الاجتماعية والاقتصادية قبل 1948:
حرب عام 1948 كانت نتاج أكثر من 60 عاماً من الاحتكاك بين العرب واليهود الذين سكنوا الأرض بين البحر المتوسط ونهر الأردن، كان معظم اليهود يسمون هذه الأرض أرض إسرائيل، يعتبرون أنها مسقط رأس الشعب اليهودي واليهودية، على مر التاريخ، حط العديد من الغزاة في المنطقة، بعد الرومان، أتى البيزنطيون، والخلافات العربية، والصليبيين، والمماليك المسلمون، والدولة العثمانية، بحلول عام 1881، كانت الأرض تحت حكم العاصمة العثمانية مباشرةً، ويبلغ عدد سكانها حوالي 450 ألف عربي، و90 بالمئة منهم مسلمون، والبقية مسيحيون ودروز، حوالي 80 بالمئة من العرب عاشوا في 700 إلى 800 قرية والبقية في 12 مدينة، كان يُوجد 25 ألف يهودي، عاش معظمهم في القدس وكانوا متدينين أرثوذكس وفقراء، كان يقول لي دائما أن اليهودي في بلادنا كان يمشي على طرف الطريق مكتفاً يديه ومطأطأ الرأس في مشية كلها ذلٌّ ومهانة.
علاقة الفلسطينيين بالجنود المصريين:
في فترة الانتداب البريطاني، كانت فلسطين تشهد تحركات سياسية وعسكرية من دول عربية عديدة في محاولة لدعم القضية الفلسطينية ضد الاستعمار البريطاني والمخططات الصهيونية، على الرغم من أن معظم الجنود المصريين كانوا يتواجدون بشكل غير دائم، خاصةً في مراحل متقدمة قبل النكبة، إلا أن العلاقات بين الجنود المصريين والفلسطينيين كانت جيدة عمومًا في إطار الدعم المتبادل ضد الاحتلال البريطاني والتهديد الصهيوني.
1. �المشاركة المصرية في القتال: بعد تصاعد أعمال العنف في الثلاثينيات والأربعينيات نتيجة للممارسات الاستعمارية البريطانية، قامت العديد من الدول العربية، بما في ذلك مصر، بإرسال دعم عسكري لفلسطين، عندما بدأت حرب 1948 بعد إعلان دولة إسرائيل، أرسل الجيش المصري وحدات عسكرية لدعم الفلسطينيين، خاصة في قطاع غزة ومناطق أخرى.
2. �العلاقات بين الجنود والمجتمع المحلي: كانت العلاقات بين الجنود المصريين والفلسطينيين عادةً ودية، كان الجنود المصريون يُنظر إليهم كإخوة في النضال ضد الاستعمار والتهديد الصهيوني، كثير من الفلسطينيين كانوا يرحبون بوجودهم ويشعرون بأنهم جزء من نضال مشترك مع الأشقاء العرب.
3. �العمل المشترك: في كثير من الأحيان، كان الجنود المصريون يعملون مع الفلسطينيين في عمليات دفاعية، مثل الحفر والتحصينات حول المدن والقرى، بينما كان الفلسطينيون يساعدون في توفير الإمدادات واللوجستيات.
التحديات والاختلافات:
رغم التعاون والتعاضد، كانت هناك بعض التحديات في العلاقة بين الجنود المصريين والفلسطينيين:
1. �الاختلافات الثقافية: على الرغم من التشابه الكبير بين المصريين والفلسطينيين في اللغة والدين والتقاليد، كانت هناك بعض الفروقات الثقافية، خاصة بين المدن الفلسطينية التي كانت أكثر حداثة مقارنة ببعض المناطق الريفية في مصر.
2. �الاختلافات السياسية: مع مرور الوقت، كان هناك بعض التوترات حول كيف يمكن للجنود العرب أن يتعاملوا مع القيادة الفلسطينية، خاصة مع وجود العديد من الفصائل الفلسطينية التي كانت تدير المقاومة، والتي قد تكون لها وجهات نظر مختلفة عن القيادة المصرية.
لعل هذه هي أهم الأمور التي علي ذكرها لمعرفة التكوين الفلسطيني في تلك الفترة ، وكيف كان يعيش الفلسطيني في مدنهم وقراهم، وكيف اختلفت حياة الفلسطينيين الاقتصادية والاجتماعية بعد النكبة .
الرحيل الأول حين خذلتنا الجيوش العربية
قبل النكبة بقليل، حصل والدي على معلومات من بعض ضباط الجيش المصري، أن الجيوش العربية ستدخل لتحرير فلسطين، فقرر أن يخرج من يافا، حيث بدأ يحضر نفسه لخوض مرحلة جديدة من الدعوة والوعظ بين الناس، لكن الرياح لم تجرِ كما أراد، ولم يلبث أن اصطدم بحقيقة مرة: الخديعة كانت أكبر من أن تُحتمل، في صيف عام 1948، بدأت الأنباء تتسرب بأن الصهاينة قادمون لاحتلال اللد ويافا والرملة، في لحظة واحدة، تحوّل الأمل إلى رعب، وصوت المؤذن إلى بكاء، كان الناس يفرون لا لأنهم جبناء، بل لأنهم أُغلق عليهم باب القتال، كانوا عزل وكانت البنادق تُوزع على من لا يجرؤ على استخدامها.
والدي، مثل كثيرين، لم يحمل معه إلا ما يستطيع حمله خرج من يافا يحملني صغيرًا بين ذراعيه، تتبعه زوجته وبناته الأربع، واتجهنا إلى قرية تُسمى هربيا، قريبة من المجدل، مشهورة بمزارع الجوافة، تلك الفاكهة التي ما زلت أذكر طعمها حتى اليوم، كأنها وحدها كانت تحفظ لنا ما تبقى من حياة، في هربيا، نصبنا خيمتنا وسط الأشجار، لا سقف لنا سوى السماء، ولا جدران إلا ما يحيطنا من خوف، كان كل شيء يبدو مؤقتًا الخيمة، النوم، وحتى الهواء، كنا نردد بيننا أن العودة قريبة، وأن هذا الشتات مجرد محطة.
هربيا التي أصبحت تُعرف الآن بمستوطنتي زيكيم وكرميا، لكن لم يكن بوسعنا البقاء هناك طويلًا، فقد تعرضت المنطقة لقصف جوي مكثف في منتصف أكتوبر ١٩٤٨م خلال عملية يوآف العسكرية الإسرائيلية، والتي استهدفت العديد من البلدات والقرى الفلسطينية وفي أوائل نوفمبر من العام ذاته، سقطت القرية في أيدي القوات الإسرائيلية، وذلك بعد احتلالهم مدينة المجدل، التي لم تكن تبعد سوى بضعة كيلومترات عن هربيا.
قصف هربيا والرحيل من جديد
منتصف أكتوبر 1948، بدأت القوات الصهيونية عملية عسكرية سُمّيت بـ «يوآف»، هدفها إسقاط ما تبقى من الجنوب الفلسطيني، بدأت الطائرات في قصف القرى والمدن، وكانت هربيا في قلب العاصفة، قُصفت المزارع، وسقطت الخيام، وتفرقت العائلات، وصرخ الأطفال بلا أسماء، لم يكن أمامنا خيار، إلا أن نرحل مرة أخرى، فنحن لا نملك سلاحًا ولا عتاداً كانت الأم تسحب طفلها، والأب يحمل حقيبة فيها صور ومصحف وبقايا مفتاح، والجميع يسير وكأنه يسير إلى التيه.
تركنا هربيا، واتجهنا إلى المجدل، المدينة التي لم تكن تبعد كثيرًا، لكنها بدت وكأنها عالم آخر وهناك بقينا لأسابيع، نرتب أنفاسنا ونبحث عن مأوى نلتحف به من القصف والخوف.
في المجدل كتيبة الصلاة وصداقة مع عبد الناصر
في رحاب المجدل، وبين أزقة الذكريات، كنت برفقة شقيقتي حياة «أم داوود»، زوجة سليمان شعبان، الذي ساقه القدر ليختار طريقه نحو شرق الأردن، حيث الأمل بدا بعيدًا، لكنه أقرب من رصاصة الغدر أو بطش النكبة، كان ذلك فراقي الأول، الذي بعثر العائلات الفلسطينية كما تبعثر الأوراق في مهب الريح، تحت وطأة التهجير والبحث المحموم عن مأوى آمن، لم يعترض والدي على هذه الخطوة، إذ غلب عليه رجاحة العقل وسعيه الحثيث لحماية أولادها، بينما كانت أمي، مدفوعة بحرقة قلب الأم، تبكي وتعارض، رافضة أن يبتعدوا عن حضنها الدافئ، في خضم هذا الاضطراب تناهى إلى علم والدي أن كتيبة مصرية قد اتخذت من المكان مقامًا، وكان بين صفوفها ضابط يُدعى شعبان، عُرف بتدينه العميق واحترامه الجمّ للعلماء وأهل الدين، وما إن علم هذا الضابط أن والدي إمام وعالم أزهري، حتى طلب منه أن يؤم الجنود، فصدح صوت والدي بالقرآن بين خنادقهم، يبعث الطمأنينة في قلوبهم، وسرعان ما تم تعيينه رسميًا إمامًا وواعظًا للكتيبة، ليحمل نور الدين إلى حيث اشتدت ظلمة الغربة.
المفارقة أن هذه الكتيبة كانت تضم الضابط الشاب جمال عبد الناصر، الذي لم يكن يومًا مجرد عسكري عادي، بل رجل يحمل أفكارًا ويخفي مشروعًا، لاحقًا حين أصبح عبد الناصر رئيسًا، ظل اسم والدي محفورًا في بعض الدفاتر القديمة لمن رافقوا الكتيبة في أصعب أيامها.
الوصول إلى غزة ولقاء خالي
استمر ترحالنا حتى وصلنا إلى غزة، وهناك التقيت لأول مرة بخالي عبد الرحيم الكيالي، أحد قادة المقاومة المسلحة وله دور بارز في قيادة الإضرابات عام ١٩٣٦م، الذي كان قد انتقل إلى غزة بعد أن أصبح مطلوبًا لدى القوات الإسرائيلية، حيث صدر بحقه حكم بالإعدام، وما لبث إلا أن توجه إلى الأردن، قبل أن يلحق به بقية أفراد أسرته لاحقًا بعد أن هيأ لهم الظروف والأوضاع هناك.
الاستقرار في رفح وتعيين والدي إمامًا لكتيبة غزة
منذ لحظة دخولنا غزة، بدأ والدي في بناء حياة جديدة لنا، كان عمري حينها لا يتجاوز الخمس سنوات، وكانت هذه المحطة نقطة فاصلة في حياتنا، بمجرد استقرارنا في رفح، دخل والدي إلى مقر قيادة الكتيبة المصرية في غزة، وأخبرهم بأنه كان إمامًا لكتيبة المجدل، فأمر قائد كتيبة غزة بتعيينه إمامًا وواعظًا رسميًا للكتيبة، وعند انسحاب الجيش المصري من قطاع غزة توجه والدي إلى القاهرة ليلتحق بعمله كأمام وواعظ في الجيش بدأ والدي بتقاضي راتب شهري قدره ٣٥ جنيهًا مصريًا، وهو مبلغ يُعتبر مرتفعًا نسبيًا في ذلك الوقت، مما جعل حياتنا أكثر استقرارًا وسهولة، أصبح والدي يتنقل بين الكتائب المصرية في العريش ورفح المصرية والقاهرة، بينما بدأنا نحن حياة جديدة في رفح الفلسطينية، بالقرب من دوار زعرب في غزة. هناك، قام والدي ببناء منزل العائلة الذي نشأتُ فيه وترعرعتُ بين جدرانه.
دوار زعرب في غرب مدينة رفح، وسط حي الزعاربة، الذي يحمل اسم واحدة من أعرق العائلات، رأيت الحياة تنبض من جديد بعد النكبة, كنا نسكن بجوار هذا الدوار البسيط في شكله، العظيم في رمزيته؛ فقد كان نقطة التقاء لأهل الحي وملاذًا لقصص النازحين الذين حملوا أحلامهم الممزقة من بلداتهم إلى رفح، بالقرب من الدوار، ينهض تل زعرب، ذاك التل القديم الذي بقي شاهدًا على حضارات تعاقبت عبر آلاف السنين. وكأن الأرض هنا تحفظ في ترابها صدى أقدام الغابرين، رغم قسوة اللجوء وضيق الحال، كانت الحياة في محيط دوار زعرب تمضي بقلبٍ نابض، تبني بيوتًا من الأمل فوق رماد المدن المدمرة، عشتُ تلك الأيام بين جدران بيتنا الصغير القريب من الدوار, كان الجيران كالعائلة الواحدة، يتقاسمون الخبز والماء والحكايات, كبرنا على أصوات الباعة، وزغاريد الأفراح، وهمسات الحزن حين يُفقد شهيد, ورغم أن الزمان قد تغير، إلا أن دوار زعرب بقي رمزًا للثبات والذاكرة، يحمل بين أزقته حكاية جيلٍ انتزع الحياة من بين أنياب التهجير.
هذه كانت بداية القصة، التي سأكملها مع والدي الشيخ رمزي الذي كان يتخذ جميع قراراته بحذر وحرص كبير لحماية أسرته. كنتُ الوحيد من بين أولاده، وقد كنت بالنسبة له الأمل والمستقبل الذي يعلق عليه الكثير من أحلامه وطموحاته، في سنواتي الأولى كنت أسمع منه ومن أصدقائه الكثير من القصص عن اللد ويافا، وجمالها الفائق وطبيعتها الخلابة، وكان لا يملّ من الحديث عن بيارات البرتقال التي كانت تعود لعائلتنا، كانت هذه البيارات تشكل مصدر رزق لنا، وقد كان عمي حماد هو المسؤول عنها قبل أن يتوفاه الله الذي توفي دون أن يتزوج، وكنت في طفولتي أسمع والدي يتحدث عن شجرة البرتقال الكبيرة التي كانت تزين بيوتنا في اللد، وكيف كانت العائلة تحافظ على هذه الممتلكات العائلية الثمينة، لكن ذكرياتي عن أعمامي كانت ضبابية نوعًا ما، فوالدي كان أصغرهم سناً، وأبناء عمومتي كانوا في نفس جيله أو أكبر قليلاً، وكان بعضهم قد توفاه الله قبل ولادتي، وبعضهم هاجر إلى أماكن مختلفة، مثل عمي رأفت الذي انقطعت أخباره بعد أن هاجر إلى تركيا وعمل ضابطًا في الجيش التركي، بينما عمي يوسف انتقل إلى مصر، وعمي مرتضى انتقل مع أسرته إلى الضفة الغربية، أما عمي محمد، فقد اضطر للنزوح إلى يافا بعد اجتياح المدينة، وكان يعتبر من وجهاء اللد في تلك الفترة, أما والدي، فقد نزح إلى غزة، لتبدأ قصة جديدة من حياتنا.
بين أحلام العودة وواقع اللجوء: رحلة صمود الفلسطيني في غزة
نشأت في غزة كطفل فلسطيني في بيئة مليئة بالتحديات، حيث كانت الطفولة تحمل بين طياتها الكثير من الألم والآمال المفقودة, عشنا في خيام وأماكن غير مؤهلة للحياة أو التعليم، ولكن رغم كل هذه الظروف، كنت أعيش طفولتي ببساطة، أمارس هوايات الأطفال مثل لعب كرة القدم التي كنا نصنعها من الأقمشة القديمة الملفوفة أو الألعاب الشعبية التي كانت جزءًا من يومنا. في بعض الأحيان، كنت أرتدي عمامة والدي أمام منزلنا، الذي كان بالنسبة لي قدوة الرجل الحكيم والوقور، الذي فرض احترامه بعلمه ورجولته على الجميع ، وفخري لا يقل بأمي، كربهان الكيالي، هي الأخرى مصدر إلهامي شقيقة عبدالرحيم الكيالي، القائد الوطني الذي قاوم الاحتلال طوال حياته، كيف وهي التي علمتنا حب فلسطين، وكيف يمكن لهذا الحب أن يقاوم كل التحديات ومع مرور الوقت، لم أنسى وجه أختي الكبرى حياة حين نزحت إلى الأردن بعد زواجها، وأنجبت هناك أبناءً لم أتعرف عليهم إلا بعد سنوات، كانت تلك المأساة هي بداية فصل جديد من فصول اللجوء والهجرة التي فرضها الاحتلال على جميع الفلسطينيين.
في طفولتي، كان حلم العودة إلى أرضنا بعيدًا عن أذهاننا، فكان الاحتلال قد زرع فينا مفهوم «التهجير المؤقت» وأننا ربما سنعود إلى بيوتنا يومًا ما، لكن هذا الحلم بدأ يتبخر تدريجيًا عندما بدأ والدي ببناء منزل في رفح, لم أكن أدرك في ذلك الحين أن هذا البناء يعني تنازلاً غير معلن عن حقنا في العودة، كانت حياتنا في قطاع غزة تتغير، وبدأنا نشعر بأننا نعيش في مكان ليس لنا، بلا أرض، بلا هوية، ولا مستقبل.
في رفح، بدأت مرحلة جديدة كنا لاجئين نعم، لكننا كنا عائلة تحمل إرثًا من علم وكبرياء، ووالد يرفض أن يُكسر، حتى لو كُسرت المدن.
حين وصل العود ووُلد لحنٌ في داخلي
كان والدي، الشيخ رمزي، رحمه الله، رجلًا جادًا في حضوره، صارمًا في كلمته، لكنه كان يحمل قلبًا لا تخطئه العاطفة، خاصة حين يتعلق الأمر بابنته زهيرة.
زهيرة لم تكن مجرد ابنة بالنسبة له، بل كانت زهرة بيته، وصاحبة الابتسامة التي تُطوّق صمته، والروح التي تذيب في داخله كل تعب الحياة ، كان يراها كما يرا الإنسان شمس صباحه لا تغيب إلا وتترك في القلب فراغًا دافئًا، وفي إحدى زياراته إلى مصر بحكم عمله المتنقل بين غزة والجيش المصري، طلبت منه زهيرة شيئًا بسيطًا: عود ، كانت تحب شكله، وصوته، وربما كانت تحب فكرة أن تدخل الموسيقى إلى بيتنا المتواضع، كنسمة خفيفة تغيّر من مزاج جدرانه.
عاد والدي من مصر، يحمل بين يديه العود المطلوب ، لكن المفارقة التي لم يتوقعها أحد، أن هذا العود لم يستقر في حضن زهيرة، بل سكن بين يديّ ، كنت حينها في السادسة عشرة من عمري، في عمر تبدأ فيه الأسئلة وتتشكل فيه الهوية ، شدّني شكل العود، صوته، تقوّس خشبه، وتركيب أوتاره، كأن فيه لغة غير منطوقة، تنتظر من يفكّ شيفرتها, بدأت أدندن عليه بلا علم، بلا تدريب، فقط بإحساسي، وما هي إلا أيام، حتى أصبحت أقضي الليالي وأنا أُجرب لحنًا، وأيامي أُكرر ما تعلّمته مساء ، لم يكن في بيتنا معلم موسيقى، ولا مرجع، لكنني كنت أؤمن أن اللحن إن لم يأتِ من القلب، فلن ينفعك فيه معلّم.
كبرت معي هذه العلاقة بيني وبين العود، حتى أصبح رفيقي الصامت، ومتنفسي السريّ، في وقت لم يكن من السهل فيه أن يُظهر الشاب اهتمامه بالموسيقى، خاصة في بيئة محافظة، ورجولية الطابع ، لكنني كنت أجد في العود مساحة شخصية خالصة، تشبه دفتر مذكرات لا أكتبه، بل أُدوّنه بلغة النغمة ، كنت أعزف لنفسي، لا لجمهور، ولا لطرب، بل لكي أهدأ، أفهم، وأتأمل ، وبقيت تلك الموهبة تكبر داخلي كما يكبر أي شيء جميل في الإنسان، بلا ضجيج، ولا إعلان، لكنها ظلت ركنًا من أركان شخصيتي، أعود إليها كلما احتجت أن أسمع صوتي الحقيقي بعيدًا عن صخب العالم.
الحكم المصري بين الرعاية والحذر
من عام ١٩٤٨ حتى عام ١٩٥٦ خلال تلك الفترة، كانت مصر تدير قطاع غزة بشكل مباشر لم تكن وصاية ناعمة، بل كان في الجو شيء من التوجس ، الحكم عسكري، والمراقبة حاضرة، والإعلام موجّه ومع ذلك، كنا نشعر بأن غزة تحاول أن تقف، المصريون وفروا لنا شيئًا من النظام، والمدارس، ورواتب للمعلمين، لكنهم أيضًا عاملونا كملف أمني قبل أن نكون شعبًا.
كنا نتلقى الكتب من وزارة المعارف المصرية، لكنها تصلنا متأخرة، وكنا نُدرّس بمنهاج لا يتحدث عن فلسطين أبدًا ، وهنا بدأت أول شرارة في داخلي، كنت أستغرب كيف نُدرس تاريخ محمد علي ونهمل تاريخ القدس؟ وكيف يكون العالم حولنا مشغولًا بعبد الناصر، بينما نحن نُدفن تحت التراب كل يوم؟
عبد الناصر القائد الذي انقسم في داخلي
كنت أسمع والدي يتحدث عن الضابط جمال عبد الناصر، رفيقه السابق في كتيبة المجدل كان يحترمه ويحكي عنه بشيء من الفخر، كان صامتًا، ذكيًا، عينه فيها شيء ما، رجل لن يبقى عاديًا، لكن هذا التقدير، سرعان ما بدأ يضعف حين ظهر ما سُمّي لاحقًا بـ «مشروع توطين اللاجئين في سيناء»، فقد عرضت مصر بالتعاون مع «الأونروا» أن تنقل اللاجئين من غزة إلى صحراء سيناء، وتبني لهم منازل هناك قيل لنا إنها «خطة إنسانية»، لكننا كنا نعرف الحقيقة: هي محاولة لدفن حق العودة، غضب والدي، كما غضب كل الناس خرجوا في مظاهرات، سقط الشهداء, وما صدمني أن الرجل الذي احترمه والدي، هو نفسه من وافق على مشروع كهذا, وهو ما اضطر الرئيس جمال عبد الناصر إلى التراجع عن المشروع تحت ضغط المقاومة الشعبية الفلسطينية، كان الانقسام الداخلي صعبًا عليّ كيف لرجل قاتل في فلسطين، أن يوقع على اتفاق يدفن قضيتها؟ لكني تعلمت أن الشخصيات السياسية مثل الجبال ليست بيضاء ولا سوداء فيها قمم وظلال، وقيمتها في مجموعها، لا في لحظة واحدة فقط.
لقد كانت تلك الفترة هي بداية معاناة الفلسطينيين بعد تقسيم فلسطين بين الدول الكبرى وفق اتفاقية «سايكس بيكو» المشؤومة، وكان قطاع غزة حينها خاضعًا للإدارة المصرية منذ عام ١٩٤٨ وحتى عام ١٩٥٦. في البداية، كان المصريون يديرون القطاع نيابة عن الفلسطينيين، رغم أن الفلسطينيين لم يطلبوا منهم ذلك بل كانت الغالبية العظمى من الفلسطينيين يرون أن النظام المصري كان متواطئًا مع قوى الاحتلال الغربية في التخلص منهم، وبهذا تسهيل قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين وعلى الرغم من هذا التعاون المزعوم، إلا أن الواقع كان أن المصريين أنفسهم كانوا يعتبرون أن الفلسطينيين يمثلون عبئًا على مصر، إذ كانوا يشكلون تهديدًا أمنيًا مستمرًا، ويجب مراقبتهم بشكل مستمر, وعلى الرغم من ذلك، فقد سادت أجواء من القلق والغضب بين الفلسطينيين بسبب هذه الخطة، التي كانت تهدف في جوهرها إلى تهجيرهم نهائيًا من أرضهم، لكن هذه الأزمة لم تكن الوحيدة التي مر بها الفلسطينيون في غزة، حيث اندلعت أزمة أكبر في عام ١٩٥٥ عندما شن العدو الصهيوني هجومًا على قطاع غزة، مما أدى إلى مقتل نحو ٤٠ جنديًا مصريًا.
هذا الهجوم أسفر عن رد فعل عنيف من الفلسطينيين، الذين طالبوا بالتسليح والانضمام إلى العمل الفدائي ضد الاحتلال الإسرائيلي. وكانت هذه المطالب جزءًا من حركة أوسع داخل قطاع غزة تطالب بالاستقلال والتحرر من الهيمنة المصرية والعربية على وضعهم، وكان ذلك جزءًا من تطور وعيهم الوطني. في النهاية، أجبرت هذه الأحداث الحكومة المصرية على الموافقة على دعم المقاومة الفلسطينية، إلا أن الوضع لم يكن ليصل إلى الحل في تلك المرحلة، فقد انقضت الأمور بعد العدوان الثلاثي الذي وقع في عام ١٩٥٦، والذي كان بمثابة ضربة قاصمة للجهود العربية في المنطقة، ولكنها أظهرت في الوقت نفسه الاستعداد الفلسطيني لمواصلة النضال رغم المحيط العربي الذي كان يرى في القضية الفلسطينية مجرد تهديد.
كل هذه الأحداث التي مررنا بها شكلت معًا معالم الطريق الذي سلكته حياتنا في غزة، وأثرت بشكل كبير في شخصيتي، حيث ترعرعت في ظل ظروف صعبة، وفي بيئة شديدة القسوة على جميع الأصعدة.
الوضع الاقتصادي في غزة
كان القطاع يعاني من بنية اقتصادية هشة بعد نكبة عام ١٩٤٨، حيث أصابها انهيار شبه كامل، خصوصًا في ظل تدفق أعداد ضخمة من اللاجئين الفلسطينيين الذين لجأوا إلى القطاع هربًا من المجازر والتهجير القسري. فقد تدفق نحو ٢٠٠ ألف لاجئ في عام واحد فقط، ما أدى إلى ضغط هائل على الموارد والموارد الطبيعية في القطاع. معظم هؤلاء اللاجئين اضطروا للعيش في العراء أو في مخيمات اللجوء التي تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة هذه الفئة من اللاجئين أصبحت تعيش في ظروف صعبة للغاية، وشهدت تلك الفترة تضخمًا غير مسبوق في عدد السكان مما عمّق معاناتهم، كما فقد القطاع جزءًا كبيرًا من موارده الاقتصادية نتيجة للتهجير والدمار الذي لحق بالمنطقة فالملاكون الكبار في القطاع، الذين كانوا يشكلون العمود الفقري للاقتصاد المحلي، فقدوا أكثر من ٨٠٪ من أراضيهم الزراعية، التي كانت تشكل مصدر رزقهم الأساسي هذا أدى إلى نقص حاد في الإنتاج المحلي، فضلاً عن تدمير المنشآت التجارية والصناعية.
ومن جهة أخرى، لم يكن للقطاع أسواق حقيقية في تلك الفترة، وكان غياب النشاط التجاري ينذر بمزيد من المعاناة، مما دفع الناس إلى حالة من البؤس الشديد، حيث فشل النظام المصري الذي كان يسيطر على القطاع في إعادة بناء الاقتصاد أو تحسين مستوى معيشة السكان بشكل جذري كانت حالة من اليأس تتسرب إلى نفوس الناس، خاصةً مع تجاهل المسؤولين لحاجاتهم الأساسية، ومع ذلك، في العقد الذي سبق عام ١٩٦٧، تحسن الوضع الاقتصادي بشكل طفيف فقد استفاد القطاع من هجرة العمالة الفلسطينية إلى دول الخليج العربي والسعودية، حيث شهدت تلك البلدان طفرة اقتصادية كبرى هؤلاء العمال أرسلوا تحويلات نقدية ضخمة إلى عائلاتهم في القطاع، وهو ما شكل مصدرًا مهمًا للمال وأدى إلى تحريك عجلة الاقتصاد قليلاً، تحولت هذه التحويلات إلى مشاريع صغيرة، حيث تم استثمارها في استصلاح الأراضي الزراعية، وتطوير التجارة الداخلية، وأعمال البناء، مما أدى إلى تحسين نسبي في مستوى معيشة الناس، وإن كان ذلك التحسن طفيفًا مقارنة بحجم الكارثة التي مرّ بها القطاع.
وفي ظل هذا التحسن المحدود، قامت الإدارة المصرية بتكثيف برنامج التنمية في القطاع، وبدأت بتنفيذ مشاريع متنوعة تهدف إلى تحسين البنية التحتية والاقتصادية، من أبرز هذه المشاريع كانت جهود التشجير واستصلاح الأراضي الحكومية غير المنتجة، وهو ما ساعد على توسيع الأنشطة الزراعية في المنطقة، في هذا السياق كان التركيز الأكبر على زراعة الحمضيات التي كانت تُعد من أبرز المحاصيل الزراعية في القطاع. كما تم العمل على تحسين شبكة الطرق، مما سهل الحركة التجارية والنقل داخل القطاع ، إضافة إلى ذلك، تم إنشاء ميناء صغير في القطاع ساهم في تسهيل حركة التجارة بشكل محدود، وكذلك توسع النشاط الصناعي والصناعات الصغيرة، التي كانت تركز بشكل أساسي على تصنيع المواد الغذائية والمنتجات الحرفية التي كانت تلبي احتياجات السوق المحلي.
ولكن رغم هذه الجهود، فإن الوضع العام في القطاع ظل هشًا للغاية، وأثر الصراع المستمر واحتلال الأراضي على أي محاولات لتثبيت دعائم اقتصادية قوية ورغم ذلك، ظل سكان غزة صامدين أمام التحديات الكبيرة، مُصممين على الحفاظ على كرامتهم وأرضهم.
أما على الصعيد الاجتماعي، فقد أُقيمت العديد من المدارس التي ساهمت في نشر التعليم وتخريج دفعات من الكفاءات البشرية التي كان لها دور كبير في التنمية الاقتصادية على المستوى الإقليمي، حيث سافر العديد من الخريجين للعمل في دول الخليج، ما ساعد في تدفق الأموال إلى القطاع.
بداية قراري ،،، أن أقاتل بالقلم
أما بالنسبة لي، فقد درست في مدارس غزة قبل النكبة، وكان الوضع في البداية صعبًا جدًا كانت المدارس عبارة عن خيام مؤقتة، ثم بدأت تتحول تدريجيًا إلى مدارس نظامية مع مرور الوقت خلال هذه الفترة، كنت أسمع والدي وهو يتحدث عن خيانات الجيوش العربية لفلسطين، و كان يروي لنا كيف أن الجيوش العربية لم تكن مستعدة للمواجهة، وكيف كانت بعض القيادات العربية قد تواطأت مع الاحتلال البريطاني والصهيوني، ولم أكن أدرك في ذلك الوقت أنني سأشهد هذه الخيانات بعيني بعد سنوات قليلة من نزوحنا، حيث ستتعرض قضيتنا لمزيد من الظلم على يد الأنظمة العربية نفسها، رأيت والدي يقاتل بكلمته، بإصراره، بصوته في المنبر، وبقلمه في الصحف ورأيت غزة، رغم الجوع، تُخرج جيلًا من المعلمين، والكتّاب، والشعراء، والمثقفين.
عندها اتخذت قراري، لن أكون مجرد لاجئ آخر في دفتر الأمم المتحدة سأكون طالبًا، ثم معلّمًا، ثم شيئًا يُحدث فرقًا، وفي 1957، حصلت على شهادة الثانوية كنت مستعدًا للعالم، لا لأنني تعلمت بما يكفي، بل لأنني عرفت معنى أن تصنع حلمك بنفسك، من قلب خيمة، ومن يد والدٍ رفض أن ينكسر.
التعليم في غزة
كانت الأوضاع التعليمية في غزة لا تقل سوءًا عن الأوضاع الاقتصادية، فقد وجدت السلطات المصرية نفسها أمام فئتين من السكان، الأولى هم الفلسطينيون الذين كانوا يسكنون في غزة قبل حرب ١٩٤٨، والذين ظلوا مقيمين فيها بعد الحرب، وفي عام النكبة بلغ عددهم نحو ٨٠ ألف نسمة، أما الفئة الثانية فكانت مكونة من الفلسطينيين الذين تهجروا وطُردوا من أراضيهم وقراهم بسبب الحرب، ولجأوا إلى قطاع غزة بحثًا عن الأمان والحماية، في ظل هذه الظروف المأساوية، لم تتوقف مسيرة التعليم، بل ظهر نوع من الوعي الاجتماعي والسياسي من خلال المبادرات المحلية التي بدأها بعض المدرسين السابقين، هؤلاء المدرسون قاموا بفتح فصول ومدارس في أماكن تجمع النازحين، وكان الهدف منها ليس فقط تحقيق دخل بسيط، بل كان أيضًا تعبيرًا عن الرفض القاطع لوقف مسيرة التعليم في تلك الظروف الصعبة، ورغم عشوائية المدارس التي نشأت في العراء والخيام، كان الإقبال عليها كبيرًا، فكنت أرى في تلك الصفوف البدائية التي لم التحق بها كوني كنت منتظماً في مدارس رسمية، وبالرغم عن ظروفها الصعبة، كانت ضوءًا يبدد ظلمات اليأس، وكان العلم هو الأمل الوحيد للبقاء على قيد الحياة.
لم يكن من السهل الحصول على التعليم في تلك الظروف، ففي البداية كانت المدارس عبارة عن خيام وأماكن غير منظمة، وكان المدرسون يتلقون أجورًا عينية مثل الطحين والسكر، قبل أن تتحول إلى أجور مادية، ولكن كانت مكافآت المدرسين في غالب الأحيان لا تتجاوز ثمانية جنيهات في الشهر، ورغم قلة الدعم والموارد، استمرت تلك الفصول في تقديم التعليم وكان هناك أمل في أن العلم يمكن أن يكون وسيلة للخلاص، ليس فقط من الجهل، بل أيضًا من القهر الذي عايشه الشعب الفلسطيني .
وما لبثت الأوضاع تتحسن قليلًا بعد أن ساهمت المنظمات الدولية مثل الصليب الأحمر وجمعية الأصدقاء الأمريكية «كويكرز» في دعم العملية التعليمية، قامت هذه المنظمات بفتح مدارس في الخيام وخصصت تمويلًا لتعليم اللاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة ورغم كل شيء، لم يتوقف الحلم، وكان التعليم بمثابة معركة يومية ضد الظروف القاسية، كنت أعتبر كل لحظة دراسة وكل صفحة تفتح أمامي بمثابة خطوة نحو بناء المستقبل، وكنت أرى في العلم الطريق الوحيد الذي يحقق لي طموحاتي في ظل هذا الواقع المرير ، وبينما كان التعليم يواجه تحدياته الكبيرة في تلك الفترة، فإن الوضع الاقتصادي كان يشهد أيضًا تغييرات ملموسة، فقد آلت جميع المدارس الحكومية التي كانت في عهد الانتداب البريطاني، وعددها ١٧، إلى دائرة المعارف المصرية، وأن الحكومة المصرية أخذت على عاتقها تمويل هذه المدارس، حيث وافق الحاكم العسكري على تشغيل المعلمين بثلاثة أرباع المرتبات التي كانوا يتقاضونها زمن الانتداب البريطاني، وقد زاد عدد المدارس الحكومية في قطاع غزة خلال فترة الحكم المصري وانتقلت إدارتها للاحتلال الإسرائيلي بعد هزيمة ١٩٦٧.
وبالرغم عن هذه الصعوبات الاقتصادية، كان التعليم بالنسبة لي بمثابة الأمل الوحيد, كان العلم هو الدافع الذي يساعدني على التغلب على الواقع الصعب، وكان أيضًا الأداة التي تمكنني من مواجهة التحديات المستقبلية.
طلاب غزة في الجامعات المصرية
كان التعليم العالي في قطاع غزة محدودًا للغاية في بداياته، وكان يقتصر في البداية على « دار المعلمين»، التي كانت بمثابة الباب الوحيد الذي يفتح أمام الطلاب لمتابعة التعليم بعد المرحلة الإعدادية. في عام ١٩٥٤، تم تأسيس أول دار للمعلمين في القطاع، وبعد ثلاث سنوات تم افتتاح دار ثانية للبنات، كان القبول في هذه الدار يقتصر على الطلاب الحاصلين على الشهادة الإعدادية، وكانت مدة الدراسة في البداية ثلاث سنوات، قبل أن يتم تعديلها في عام ١٩٦١ لتصبح خمس سنوات.
في ظل هذه الظروف التعليمية، كان الأمل في استكمال الدراسة الجامعية يتجه صوب القاهرة، حيث كانت الجامعات المصرية تستقبل الطلاب الفلسطينيين من قطاع غزة بشكل مجاني لم يكن هذا الطريق سهلاً، إذ كان يتطلب بذل الكثير من الجهد والتضحيات، وكان القطاع يفتقر إلى الإمكانيات التعليمية العالية، مما جعل الطلاب يتطلعون إلى القاهرة كمنارة علمية، رغم المسافات والصعوبات التي كانوا يواجهونها في السفر.
وبينما كانت غزة تعيش في خضم محنة من الفقر والتهجير، كان هؤلاء الطلاب الفلسطينيون في مصر يمثلون فئةً تحمل في داخلها الأمل والتطلع إلى مستقبل أفضل كانت الجامعات المصرية بمثابة فرصة حقيقية لهم للخروج من دائرة المعاناة، ليس فقط من خلال التعليم بل أيضًا من خلال الانفتاح على تجارب وخبرات جديدة، وكان هذا الانتقال إلى الجامعات المصرية يمثل لهم خطوة نحو تحقيق الطموحات الشخصية والمهنية، وكان يقوي من عزيمتهم على التغيير.
في هذا الفصل تحدثت عن أصل العائلة وتاريخها والبدايات طفلاً وحيداً و انتهت في رفح مع والدي ، وأكملت باقي القصة وحيداً كما بدأتها ، بصبر وثبات
السفر إلى جمهورية مصر العربية
بعد انتهائي من المرحلة الثانوية عرض عبدالناصر على الشباب الفلسطيني الالتحاق بالوظائف المصرية ليصرف نظر الشباب عن العمل الحزبي والانخراط في الجماعات الإسلامية كجماعة الإخوان المسلمين فما كان على الشباب الفلسطيني إلا تقديم طلب توظيف للحاكم الإداري في قطاع غزة وتتم الموافقة مباشرة وعليه تقدمت إلى أحد الوظائف الحكومية بعد إنهائي للمرحلة الثانوية.
من رفح إلى أسوان أول الطريق نحو القاهرة
كل إنسان في حياته لحظة واحدة، لا تكون فيها الأرض نفسها كما كانت، ولا هو كما كان
لحظتي تلك كانت عندما غادرت غزة متوجهًا إلى أسوان، في أقصى جنوب مصر في أسوان مع مجموعة من الشباب الفلسطيني حضرنا معا تعارفنا وتآلفنا وكان من بين المقربين الصديق المرحوم يحيى رباح سفير فلسطين في اليمن وأخيه الصديق الصدوق حسن رباح وآخرين كزملاء وأبناء وطن، لماذا اختارني القدر أن أبدأ من هناك، حيث الشمس تحرق أكثر مما تنير، وحيث النيل يبدو وكأنه يشرب تعب الناس، لكن ما أعرفه أني غادرت شاباً، ابن رجل أزهري أعاد بناء بيته بالحجر والصلاة، وعدت بعدها رجلًا يرى العالم بمنظور أوسع ويعرف أن الحكاية أبعد بكثير من حدود المخيم.
يحيى رباح: القارئ النهم وصوت الثورة
في أواخر ستينيات القرن الماضي، كنت انا و يحيى رباح شابان فلسطينيان نعيش في إسوان، ولا أنكر أنه كان مميزا وله قدرة عجيبة في الاستيعاب يتميز بشغفه العميق بالقراءة والمعرفة كان يستثمر كل ما يملك في شراء الكتب، حتى أنه في إحدى المرات، لم يتردد في إنفاق آخر ما تبقى معه من مال لشراء كتاب من بسطة في الشارع، هذا الشغف بالقراءة والمعرفة جعله محط أنظار القيادات في حركة فتح، حيث رأى فيه صلاح خلف، عند تأسيس إذاعة العاصفة، الشخص المناسب لقيادة الجانب الإعلامي نظرًا لمخزونه الثقافي الواسع وقدرته على الإقناع، انضم يحيى رباح إلى فريق إذاعة «صوت العاصفة»، التي كانت تُبث من عدة عواصم عربية مثل بغداد والجزائر وصنعاء، حيث عمل إلى جانب شخصيات بارزة مثل يوسف القزاز وحسن البطل ونبيل عمرو، كانت الإذاعة تُعتبر منبرًا إعلاميًا لحركة فتح، تنقل من خلاله رسائل الثورة الفلسطينية إلى العالم العربي والعالمي .
تميز يحيى رباح بصوته الجهوري وقدرته على التأثير في المستمعين، مما جعله أحد أبرز الأصوات في الإذاعة، كان يُعرف بقدرته على صياغة الرسائل الإعلامية بطريقة تُحفز الجماهير وتُعزز من روح المقاومة، كما كان له دور في تدريب الكوادر الإعلامية الجديدة، بالإضافة إلى عمله الإعلامي، كان يحيى رباح ناشطًا في العمل السياسي والتنظيمي داخل حركة فتح، شارك في العديد من الاجتماعات والمؤتمرات التي كانت تُعقد لتنسيق الجهود بين مختلف الفصائل الفلسطينية، كان يُعتبر من الشخصيات التي تجمع بين الفكر والعمل، حيث كان يُعبر عن قناعاته من خلال الأفعال وليس فقط الكلمات.
في فترة لاحقة، تولى يحيى رباح مناصب قيادية داخل حركة فتح، حيث شغل منصب نائب مفوض الحركة في قطاع غزة وكان له دور في تنظيم الفعاليات والمهرجانات التي كانت تُقام لإحياء ذكرى انطلاقة الحركة، مثل مهرجان الانطلاقة الذي أُقيم في ساحة الكتيبة، كان يُعرف بقدرته على التنسيق والتخطيط، مما ساهم في نجاح العديد من الفعاليات التي نظمتها الحركة، بالإضافة إلى تعيينه سفيراً لدى اليمن.
حسن رباح: السير على خطى الكبار
حسن رباح، الشقيق الأصغر ليحيى رباح، انتقل من غزة إلى القاهرة خلال فترة الستينيات تأثر كثيرًا بأخيه الأكبر، حيث كان يرى فيه قدوة ومثالًا يُحتذى به قرر حسن أن يسير على خطى يحيى، فالتحق بمعهد المعلمين، حيث تخصص في فرع النبات والحيوان، كان يُظهر اهتمامًا كبيرًا بالعلوم الطبيعية، وكان يُعرف بين زملائه بشغفه بالتعلم والبحث، كنت أساعد حسن في التحضير للامتحانات، خاصة في فروع النبات والحيوان, كنا نقضي ساعات طويلة في مراجعة المواد الدراسية، حيث كنت أشرح له المفاهيم الصعبة وأساعده في حل التمارين وكان يُظهر تفانيًا كبيرًا في الدراسة، وكان يسعى دائمًا لتحقيق أفضل النتائج، وبعد تخرجه من المعهد، بدأ حسن في العمل كمعلم في أسوان، حيث كان يُدرس المواد العلمية للطلاب
الوظيفة الأولى من مساعد توريد إلى معلم حياة
بداية عملي كانت في قسم التوريد، مسؤول توريد الكتب في إدارة التوريدات بمديرية التربية والتعليم لمحافظة أسوان، كنت أعتبر نفسي «مراقب حياة» حيث كنت باحتكاك مباشر مع المعلمين ومدراء المدارس، تلك الوظيفة التي عشقتها دون أي سبب، أراقب كيف يتعامل المصريون مع بعضهم، كيف ينظرون للاجئين، وكيف تختلف لهجتي عن لهجتهم، ومع ذلك كيف تمتزج الأرواح.
ثم جاء التحول: عرضوا عليّ أن أعمل سكرتير في المعهد العالي الصناعي الذي هو نواة لجامعة أسوان الهندسية ، وكان اول عميد للمعهد العالي الصناعي السيد / حمدي مصطفى اللواء المتقاعد في القوات المسلحة ، وخلال عملي التحقت بمعهد المعلمين القسم المسائي للحصول على دبلوم المعلمين أثناء عملي في المعهد العالي وحصلت عل الدبلوم وفزت بالمرتبة الخامسة على خريجي المعهد مما سمح لي بالتقدم لجامعة عين شمس بالقاهرة ، تقدمت لاختبار لمادتي النبات والحيوان وقبلت من بين عشرة فائزين بمقعد يوفر سنة دراسية كاملة للحصول على بكالوريوس من كلية المعلمين بجامعة عين شمس، وهي خطوة للأمام، لكن الأهم أنها قربتني من جو التعليم الحقيقي بدأت أرى كيف يتم تنظيم الحصص، وكيف يتعامل المعلمون مع الطلاب، وبدأت أفكر: هل يمكن أن أكون معلمًا؟ مشرفًا؟ مربيًا؟
أسوان حيث يخرج الرجال من القسوة
أسوان كانت قاسية بطبيعتها، حرّها لاذع، وماؤها شحيح، لكن فيها نبل الناس ، تعلمت فيها الصبر، واحتملت الغربة، وكنت أصرف على نفسي من راتب لا يكفي إلا لأساسيات الحياة، كنت أعيش في غرفة صغيرة مشتركة، أطبخ لنفسي، وأغسل ثيابي بيدي، وأذاكر تحت ضوء خافت، لكني لم أشكُ يومًا، في أسوان عرفت معدني الحقيقي هل أنا شخص مدلل؟ أم قادر على الصمود؟ والإجابة كانت واضحة في كل موقف:«أنت ابن الشيخ رمزي حماد، أنت لا تتكئ على أحد».
بدايات في حضن الفن: من أسوان إلى حلم الثقافة
حين أدخل جمال عبد الناصر التلفزيون إلى مصر عام 1961، بدعم ورعاية أمريكية، لم يكن الحدث تقنيًا فقط، بل بداية مرحلة جديدة في تشكيل الوعي الشعبي. ومثل كثيرين في جيلي، انبهرت بذلك التحول السريع، الذي رافقه ازدهار في السينما المصرية، فنقل الناس من انشغالهم بالواقع السياسي والاجتماعي إلى عوالم الفن والترفيه، لقد كان عبد الناصر بارعًا في استخدام أدوات التأثير الجماهيري، فحوّل أنظار الشعوب عن قضايا جوهرية، كالقضية الفلسطينية، إلى قضايا شكلية تخدم مشروعه الإعلامي والسياسي.
وإن كنت أقرّ اليوم بنقدي لذلك الانحراف عن البوصلة الحقيقية، إلا أنني في شبابي كنت جزءًا من تلك الموجة؛ موجة الانبهار بالصورة والمسرح والموسيقى، حيث لم أكن قد بدأت دراستي الجامعية بعد، لكن أسوان كانت محطتي الأولى في التعلق بالفن، وبالتحديد المركز الثقافي في المدينة، الذي أسسه عبد الناصر كواحد من منارات التنوير في صعيد مصر، كان ذلك المركز بالنسبة لي أشبه بحلم حيّ، تتجول فيه بين خشبة المسرح ونغمات الموسيقى، وتلمس فيه دفء الحروف المنطوقة على لسان ممثل هاوٍ أو متذوق عاشق كنت أقضي هناك ساعات طويلة، أتابع العروض، أتعلم من الورش، أتعرف إلى وجوه جديدة تشبهني، تحلم، وتؤمن أن الفن يمكن أن يكون وسيلة للارتقاء لا للهروب.
ربما كنت مخدوعًا ببريق المرحلة، لكنني كنت صادقًا مع نفسي، وأدركت لاحقًا أن ما عشناه لم يكن مجرد هروب، بل بحثًا عن ذاتنا في عالم يتغير بسرعة، ويفرض علينا خيارات لم نكن نملك ترف رفضها، في تلك السنوات، كنت أغمر نفسي في الأنشطة الفنية التي كانت تملأ أروقة المركز، فكنت أشارك في أدوار صغيرة على خشبة المسرح وأحيانًا أساعد في إعداد الموسيقى التصويرية، وأتمرن على آلة العود في عزلة تامة، لعلني أتمكن من اكتساب المهارة التي حلمت بها كانت كل لحظة في المركز بمثابة دروس غير مكتوبة عن الصبر والإبداع، وكل مسرحية كنت أشارك فيها أو لحظة عزف على العود، كانت تقربني أكثر إلى نفسي وإلى الفن الذي أحببته منذ الصغر، كان المركز يعج بالعديد من الشخصيات التي تركت بصمتها في مشهد الفن المصري، مثل الكاتب المسرحي يحيى رباح، والفنان عثمان عبد المنعم ، جمال إسماعيل ، والفنان ابوالوفا القاضي ، والفنان أحمد مصيلحي ، والفنان أحمد الخليلي ، والفنان حسين سالم، الذين كانوا مصدر إلهام في كل لحظة كانت تلك الفترة رغم بساطتها، تشكل حجر الزاوية لمسيرتي الفنية المستقبلية، حيث وجدت في المركز ليس فقط تعبيرًا عن الفن، بل أيضًا عن الإرادة والبحث المستمر عن الهوية.
ومع ذلك، كانت تلك اللحظات من الإبداع في مصر بمثابة مساحة تنفيس لي بعيدًا عن أوجاع فلسطين وهمومها التي كانت تخنقني. كنت أعيش في الغربة، بعيدًا عن أرضي، لكنني وجدت في الفن وسيلة للتعبير عن ألمي ومعاناتي ومعاناة الشعب الفلسطيني، كانت أسوان، في تلك اللحظات، أكثر من مجرد مكان للابتعاد عن الواقع، بل كانت مساحة حقيقية لأتنفس فيها، رغم المسافات البعيدة التي كانت تفصلني عن بلدي.
من الجنوب إلى قلب مصر منحة عين شمس
في نهاية دورة دبلوم المعلمين، حصلت على منحة للدراسة الجامعية في جامعة عين شمس في القاهرة ، كانت منحة نادرة تُمنح فقط للأوائل، وجاء اسمي ضمنهم كان ذلك بمثابة ختم رسمي على بداية الرحلة الجديدة ، غادرت أسوان بكثير من التقدير، وشعور داخلي أنني أترك وراء ظهري معسكر التدريب الحقيقي، وأتجه نحو مرحلة التكوين الكبرى: القاهرة، لكني غادرت أيضًا وأنا أحمل رسالة والدي في قلبي، وقد قال لي قبل السفر: «تعلم» لا لكي تعمل فقط، بل لكي تفهم، وتُفهم غيرك، فالقلم قد يُعيد ما سُرق منا.
عند استقراري في القاهرة لمتابعة دراستي الجامعية في جامعة عين شمس، بدأتُ حياة جديدة مليئة بالتحديات والآمال كنتُ أسكن مع صديق العمر ورفيق الدرب حسن رباح، في منزل استأجرناه معًا، وكان حسن أكثر من مجرد صديق، كان أخًا في الغربة وسندًا في كل التفاصيل الصغيرة والكبيرة.
وفي عام 1967، كانت المنطقة تغلي سياسيًا، والحديث عن الحرب مع إسرائيل يعلو شيئًا فشيئًا وفي خضم هذه الأجواء المشحونة، وصلت أختي أم وائل إلى القاهرة، برفقة زوجها أحمد أبو هيبة ابو وائل الفلسطيني الأصل، الذي كان يعمل ضمن جهاز الاستخبارات المصرية، وقد وصلته تعليمات واضحة من الجهاز بضرورة مغادرة غزة فورًا، إذ كانت المعلومات تشير إلى اجتياح إسرائيلي وشيك للقطاع كانت تلك الأيام مشحونة بالتوتر والترقب، وكل من لديه علاقة أمنية أو حساسة بات على رأس قوائم المستهدفين.
غادر أبو وائل غزة قبل ساعات من وقوع الكارثة، ونجا هو وزوجته، بينما بقي كثيرون خلفهم عالقين بين الاجتياح والضياع لم يكن أمامهما سوى التوجه للقاهرة، وكانت وجهتهما الأولى بيتي المتواضع، هنا أظهر حسن نبلًا قلّ نظيره؛ بادر فورًا إلى ترك المنزل لنا، وقال بكلمات موجزة لا أنساها: «البيت بيتكم، وأنا بضلي ضيف فيه.» غادر حسن لنبدأ نحن كعائلة فصلًا جديدًا من الغربة، لكنه غربة نُسِجت خيوطها من القرب والحنان، عادت بعض من العائلة لتجتمع تحت سقف واحد، ولو مؤقتًا كانت القاهرة حينها تختنق بأخبار النكسة، والحزن يخيّم على الشوارع والبيوت، نكسة حزيران/يونيو لم تكن هزيمة جيوش فقط، بل كانت كسرة كرامة لكل عربي ومع ذلك، كنا نتمسك ببعضنا، نُطعم الأمل من فتات الحياة، ونحتمي بالعائلة من عواصف الخارج.
في تلك المرحلة، لم أتعلم فقط في جامعة عين شمس، بل تعلمت من الشارع، من المقهى، من البيت، كيف تُبنى الرجولة في وقت المحنة، وكيف أن الوطن لا تحمله الجغرافيا وحدها، بل تحمله الذاكرة والولاء والكرامة.
مصر في الستينات: ملتقى العقول والأحلام
في تلك الفترة، كانت القاهرة تعج بالحركة الفكرية، حيث التقيت هناك بنخبة من الطلاب الفلسطينيين الذين جاءوا من مختلف المدن والخلفيات، تجمعهم الغربة ويوحدهم الطموح. كان الطالب الفلسطيني في المهجر صورة مشرّفة للعزيمة والمثابرة، لا يكتفي بأن يكون مجرد طالب، بل كان ناشطًا، مثقفًا، طموحًا، وكأن الوطن يسكنه في كل لحظة ومن بين الأصدقاء الذين بقيت ذكراهم حيّة في وجداني، الصديق المرحوم يحيى رباح، الكاتب الصحفي الذي لم تنقطع علاقتي به حتى بعد سنوات طويلة، حتى امتدت صداقتي إلى أخيه حسن رباح، المتقاعد من وكالة الغوث، والذي أصبح أحد أعز أصدقائي، كذلك عارف سليم خضر أبو وليد المذيع في إذاعة فلسطين، وغيرهم من الشخصيات التي صنعت لها أسماءً لامعة في شتى المجالات.
مصر الكبيرة والانفتاح على العالم
حين وصلت إلى القاهرة، وجدت مدينة لا تشبه غزة ولا أسوان وجدت مدينة تُفكر، تتكلم، تغلي ، شوارع مزدحمة، مقاهٍ مليئة بالمثقفين، أصوات عبد الوهاب وأم كلثوم في كل مكان بدأت دراستي في قسم الأحياء، ووجدت نفسي في عالمٍ جديد، عالم المخابر، والأنابيب، والمجهر، والرسومات الدقيقة, لكن القاهرة لم تكن مجرد جامعة.،كانت مسرحًا سياسيًا وفكريًا ، أصبحت جزءًا من تجمعات الطلاب الفلسطينيين، وتعرفت إلى أسماء كثيرة كانت مجرد صور في الأخبار جلست مرة إلى صدام حسين في مقر طلابي، وحضرت محاضرة ألقاها ياسر عرفات، وتحدثت مع شبان من العراق، سوريا، الأردن، والضفة، في القاهرة، بدأت أطرح الأسئلة التي كنت أخاف أن أسألها في غزة، من نحن؟ هل نعود؟ من يخون ومن يقود؟ وكنت أكتب كثيرًا، أكتب يومياتي، ملاحظاتي، مقالات قصيرة لم تُنشر، لكني كنت أعرف أنني أنضج مع كل سطر.
ذكريات الجامعة حيث العود، والصداقة، وبداية الطريق
قصص الجامعة لا تُعد ولا تُحصى، فقد كانت أكثر من مجرد مرحلة دراسية، بل كانت نقطة التحول الكبرى في حياتي، حيث نضجتُ فكريًا، واكتسبتُ خبرات لا تُقدر بثمن، وأرست الجامعة ملامح مسيرتي المهنية, في تلك الفترة، وجدتُ في آلة العود رفيقًا روحيًا، وقع في قلبي حبها منذ الوهلة الأولى، حتى أصبحت جزءًا لا يتجزأ من يومي لم يكن العزف مجرد هواية، بل كان لغة شعورية تنطق بها أناملي، أعبّر من خلالها عن أفكاري وأحلامي كنت أجمع الأصدقاء في سهراتنا، فنُحلق مع أنغام العود بعيدًا عن ضغوط الدراسة والغربة، نحفر في الذاكرة لحظات لا تُنسى ولعل هذا العشق لم يتوقف عندي، بل وجد طريقه إلى ابني البكر، رمزي، الذي ورث عني هذه الموهبة، وكأن حب العود امتد في دمائنا كإرث موسيقي خالد.
لكن رحلة العود توقفت ذات يوم ففي عام 1998م، شعرت بيقين داخلي يدفعني للتخلي عنه لوجه الله الكريم، أدركت حينها أن الطريق الذي أبحث عنه مختلف، وأنني أريد أن أقترب أكثر من الله، فعاهدته ألا ألمس العود مرة أخرى، ومنذ ذلك الحين، لم تعد أناملي تعزف الألحان، بل بدأت تكتب فصولًا جديدة في حياتي.
الرئيس الذي رفض لعب الورق!
لكن أكثر القصص التي لا تزال محفورة في ذاكرتي، عن قصة رجل كان في نفس الجامعة التي تخرجت منها ولم أحظ بفرصة مقابلته، رجل كانت ملامحه تحمل مزيجًا من الحدة والذكاء، وطموحه يسبق عمره بسنوات إنه صدام حسين! نعم، الرئيس العراقي الراحل، كان أحد طلاب جامعة عين شمس يدرس القانون، لكنه لم يكن كأي طالب آخر, أتذكر موقفًا قيل لي لا أملّ من تكراره، فقد كان بعض الطلاب يدعونه للعب ورق الشدة بعد المحاضرات، فكان يبتسم بهدوء، ثم يرد بصوته العميق ولهجته العراقية القوية: (أنا صدام حسين، رئيس العراق المستقبلي، تريدونني أن أجلس معكم للعب الورق؟ ثم تقولون يومًا إنكم غلبتم صدام حسين في لعبة؟ لا والله، لن ألعب) ، كان كلامه حينها يبدو للبعض نوعًا من المزاح أو الثقة المفرطة، لكنه كان يعني كل كلمة يقولها، وكأنه يرى مستقبله بعين اليقين.
مصر حيث التقيت بالعظماء
في أروقة الجامعة، لم يكن صدام حسين وحده من الشخصيات الاستثنائية، فقد كنت أرى ياسر عرفات الذي كان يتردد كثيرًا إلى القاهرة، حيث كانت مصر مركز النشاط السياسي الفلسطيني آنذاك. كما عاصرت شخصيات بارزة مثل محمد حسنين هيكل، الذي كانت مقالاته تُدرّس في الصحافة، وجمال عبد الناصر الذي كانت خطبه تُشعل الحماس في قلوب الشباب، كانت القاهرة في ذلك الزمن ليست مجرد مدينة، بل كانت أكاديمية ضخمة للحياة فيها تعلمت أن الطموح لا حدود له، وأن النجاح يحتاج إلى يقين وعمل، وليس مجرد أحلام.
في القاهرة، نضجت فكريًا
عرفت أن القضية لا تحل بالشعارات، بل بفهم العالم كنت أقرأ لمفكرين عرب وأجانب، أتابع خطب عبد الناصر، وأقارنها بما أراه على الأرض، كنت أسمع خطاباته النارية، وأتذكر مشروع التوطين في سيناء أراه زعيمًا، لكن زعيمًا يمكن أن يُخطئ، ولا يجوز أن نؤلهه, الجامعة فتحت عيني على مصر الحقيقية، وعلى الفرق بين الصوت العالي، والعمل الحقيقي ومن هنا، بدأ انتمائي للمقاومة يتكون بطريقة مختلفة مقاومة لا تنطلق من العاطفة فقط، بل من وعي وتنظيم والتزام طويل النفس.
طلائع الفداء الفلسطينية
في قلب النشاط الطلابي الفلسطيني، تأسست منظمة طلائع الفداء لتحرير فلسطين، كتنظيم سري ثوري يعمل وسط الطلبة الفلسطينيين في مصر والضفة وغزة، تحت قيادة القائد صبحي ياسين أبو خالد، كنا مؤمنين أن الكلمة وحدها لا تكفي، وأن القضية تحتاج إلى فعل، حتى لو كان محدودًا، بدأتُ ناشطًا عاديًا بتزكية من ربحي رباح، أشارك في الاجتماعات، أنسخ المنشورات، وأكتب بيانات بسيطة ثم تدرجت سريعًا، بفضل التزامي وتنظيمي، حتى وصلت إلى منصب أمين سر المنظمة كان ذلك تكليفًا لا تشريفًا.
وأذكر من رموز التنظيم المؤسسة منهم ـ فؤاد ياسين، عبد المجيد عامر، عبدالله الكسواني، خضر حاطوم، رأفت شاهين، فوزي ماضي(أبو هتلر) غسان الريس، وقد تشكلت لجنة مركزية للتنظيم من الاخوة ـ صبحي ياسين وفؤاد ياسين(القاهرة) محمد بدران (لبنان) أبو ابراهيم الكبير خليل عيسى وعادل زواته(الأردن) عبدالله الكسواني (الضفة الغربية) حسين الخطيب وغسان الريس (قطاع غزة) فوزي القطب (سوريا)نظمي عابدين أبوسمير (العراق) وقد اختير صبحي ياسين رئيسا للجنة المركزية للتنظيم ومحمد بدران مفوضا سياسيا وأوكل للأخ عارف خطاب قيادة الجناح العسكري للتنظيم الذي أطلق عليه (فرقة خالد بن الوليد) كما أن الأخوين يحي رباح وعارف خطاب قد انضما للتنظيم وقد أوكل للأخ عارف خطاب تدريب المقاتلين في أنشاص بمصر، ومن ثم أتخذ قرار بتوجيه المقاتلين إلى القواعد في الأغوار التي وصلت مبدئيا إلى العراق وبعد تسليم العتاد والسلاح والسيارات انتقلت إلى غور الأردن وتمركزت في ديرعلا وواد اليابس والمشارع ، وقد اجتمعوا مرارا مع الأخ أبو عمار في عمان وفي قاعدة بواد شعيب بالسلط لطلب السلاح والألبسة العسكرية والذخيرة للمقاتلين ، وكان رحمه الله يستجيب لطلبهم دون تردد .
أما في القاهرة فكنا نعمل بهدوء نحشد الطلبة، ونعقد حلقات التوعية، ونربط الفروع في الضفة وغزة بالقاهرة وكان دوري مركزيًا في توجيه الشباب نحو المشاركة في العمليات الفدائية، ليس بالقتال فقط، بل بالتخطيط، والتدريب، والدعم اللوجستي كنا نُعد الكوادر للمستقبل، كنا نحلم بتأسيس نواة لجيش فلسطيني حقيقي، وكان ذلك في وقتٍ تتزاحم فيه الحركات الفلسطينية، من «جبهة التحرير»، إلى «الكتائب»، إلى «الثوار»، وكنا نؤمن أن توحيدها ضرورة حتمية، فعملنا على التنسيق بينها، وفتح قنوات اتصال مباشرة، حتى قبل أن تُولد منظمة التحرير.
لاحقًا اندمجت «طلائع الفداء» مع فصائل أخرى داخل حركة فتح، لكني حين وجدت أن المسار بدأ ينحرف عن طريقه النضالي الأصيل، انشققت عن فتح في التسعينات
« مع أنني ما زلت مسجلاً في كشوفات فتح كعضو من أعضاء فتح »، محتفظًا بإيماني أن فلسطين لا تتحرر بالتكتيك وحده، بل بالمبدأ أولاً.
صبحي أمين: دعم طلائع الفداء
في اجتماع لحركات التحرر الفلسطينية، طلب مني صبحي أمين الموافقة على انضمام طلائع الفداء إلى منظمة التحرير الفلسطينية كان الهدف من ذلك تأمين التمويل اللازم لشراء السلاح والعتاد، حيث كانت حركة فتح تمتلك القدرة على دعم الحركات المنضوية تحت مظلتها هذا القرار كان استراتيجيًا لتعزيز قدرات طلائع الفداء وتوسيع نطاق عملها، وفعلاً حين اجتمعت جميع الفصائل الفلسطينية كنت من المبادرين للانضمام إلى حركة فتح وكنت ممثلاً عن طلائع الفداء في الاجتماعات .
كان صبحي أمين يُعرف بقدرته على التنسيق والتخطيط، وكان له دور في تنظيم الاجتماعات والمؤتمرات التي كانت تُعقد لتنسيق الجهود بين مختلف الفصائل الفلسطينية، كان يُؤمن بأهمية العمل الجماعي والتنسيق بين الكوادر المختلفة لتحقيق أهداف الحركة.
في ظلال الذاكرة :بين صداقة قديمة وحقائق مغيبة
بدون سابق إنذار سمعت الاخوة من التنظيم وكنت حينها ما زلت في القاهرة نبأ استشهاد صبحي ياسين غدرا في الأغوار وللوهلة الأولى صدمت ودهشت، وتصورت في البداية ان طائرات العدو الصهيوني أو قصف مدفعيته قد أودت بحياته، ولم يطرأ على بالي أن أخوة له عاش معهم أكثر مما عاش مع عائلته، وباع مصاغ زوجته لأنفاقها على مسيرة التنظيم وتعزيز بنائه، ففي خريف عام 1968، اهتزت الساحة الفلسطينية على وقع خبر صادم: اغتيال القائد صبحي ياسين في الأردن، لم يكن مجرد قائد، بل كان من مؤسسي حركة فتح وتنظيم طلائع الفداء، ومن أوائل الرجال الذين حملوا الحلم الفلسطيني في قلب المعركة، وفي أروقة التأسيس، وفي معسكرات التدريب والقرار.
اغتيل صبحي في ظروف غامضة، وظلّ السؤال معلقًا لعقود: من أطلق النار؟ ولماذا؟ ومع غياب الرواية الرسمية، بدأ اسمٌ يطفو على السطح: فوزي ماضي، المعروف بلقبه اللافت: «أبو هتلر»، كان فوزي أحد الرجال الأقوياء في بنية التنظيم، ذا شخصية جريئة، حادة، وكان مقربًا من صبحي نفسه في سنوات التأسيس ومع أن الكثيرين اعتقدوا أنه من نفذ العملية، لم يظهر أي اعتراف رسمي، ولم تُغلق القضية بقيت كأنها فصل ناقص في دفتر الثورة، مرت السنوات، وتبدلت المواقع والوجوه، حصل أبو هتلر على عفو رئاسي من الرئيس ياسر عرفات، وعاد إلى غزة برتبة عميد في جهاز الأمن الوطني وبعد فترة، زارني في الأردن، كصديق قديم من زمن التنظيم، من رفاق السلاح والتأسيس، جلسنا طويلاً، استرجعنا الماضي، تحدثنا عن أيام الكفاح والمعتقلات لكن كان هناك سؤال يثقل عليّ منذ زمن، ولم أستطع أن أغادر تلك الجلسة دون أن أطرحه:
«أنت فعلاً اللي طخيت صبحي؟» نظر إليّ بعينين لا تخلو من تعب السنين وقال: «أنا عارف إنهم كلهم مفكرين إني أنا بس والله ما كنت أنا، وما بعرف مين اللي طخه.»
كانت كلماته صادقة على طريقتها لا نفيٌ جازم ولا اعتراف، مجرد همس من قلب رجلٍ عاش في العتمة طويلاً، وظلّ يحمل تهمة لم يُثبتها أحد، ولم ينفها الزمن، خرج من عندي تاركًا خلفه صمتًا طويلًا وبقيتُ أنا مع سؤال قديم، بدأ برصاصة وانتهى بلا جواب.
أيام القاهرة
بعد استقرار أختي أم وائل في القاهرة، وتحديدًا في عام 1969، ازداد دفء العائلة بوصول زوج أختي الثاني، روحي الشرفا، المعروف بيننا باسم أبو عصام، رحمه الله. كان رجلًا دمثًا، تاجرًا فلسطينيًا من غزة، امتلك عدة محلات ناجحة هناك، وكان اسمه معروفًا في الأوساط التجارية لكن كما غرقت رمال غزة بالخيانة وتخلّي العرب، وخنقتها يد الاحتلال الإسرائيلي، خاف أبو عصام على رزقه من الضياع، فاختار أن يغادر ليس جبنًا، بل حفاظًا على كرامته وتاريخه، وانتقل إلى مصر ليبدأ من جديد.
وصل إلى القاهرة حاملاً معه همّين: الوطن الذي تركه مضطرًا، وحلم إعادة بناء مستقبله وافتتح أول متجر لبيع الألبسة، واضعًا خلاصة خبرته في مشروعه الجديد، وبعد عدة أشهر، صارحني أبو عصام بقلقٍ يثقل صدره: «حاسس إنه في سرقة عم تصير بالمحل، والكاشير المصري مش مريحني»، لم يكن هذا الشك نابعًا من فراغ، بل من تفاصيل صغيرة بدأت تتراكم فموظف الكاشير المصري « رغم ابتسامته اليومية » كان يتهرب من الشفافية، ويتلاعب بالفواتير والمصاريف وهنا، ظهرت أولى علامات «المكر المصري»، ذلك الذكاء المغلف بالود، والذي سرعان ما يتحول إلى خيانة مهنية حين يكون رب العمل فلسطينيًا أو أجنبيًا، طلب مني أبو عصام أن أساعده في كشف الحقيقة بدأت أراجع الحسابات بعد الدوام الجامعي، وأراقب سير العمل خلال فترات فراغي من أنشطتي مع طلائع الفداء. وبعد جهد متواصل، تمكنا من كشف الخيط، الموظف كان يسرق المال بطرق ملتوية، يخفيها بين فواتير غير حقيقية ونفقات وهمية والنتيجة؟ مبالغ ليست قليلة كانت تتبخر من الخزنة دون أن يشعر أحد.
حينها، لم أستطع أن أقف متفرجًا، وقررت أن أقدم له يد المساعدة عملت معه في المتجر، ساعدته في ضبط النظام، ومتابعة الحسابات، وتأمين الثقة التي افتقدها مع من حوله، وفي خضم هذه المرحلة، جاء موعد سفري إلى الأردن، وكان قدرًا غريبًا أن يحدث ذلك قبل يوم واحد فقط من وصول أختي أم عصام إلى القاهرة، لتبدأ حياتها الجديدة بجانب زوجها في المكان الذي عمل جاهدًا لتأسيسه.
المصريون في ذلك الزمن بين الود والمكر
لا أنكر أن الشعب المصري طيّب، كريم المعشر، خفيف الروح، خاصة في الأحاديث والضحكات لكن حين تغوص في تفاصيل التعامل، خاصة في التجارة والعمل، يظهر وجه آخر أكثر دهاءً وبراغماتية الفلسطيني « في نظر البعض منهم » كان مجرد فرصة للربح أو الخداع، غريبًا لا يعرف «ألاعيب السوق»، فيُؤخذ منه دون خجل، وتُبرر السرقة على أنها شطارة، الابتسامة المصرية كانت حاضرة، نعم، لكنها كثيرًا ما كانت تخفي وراءها حسابًا خفيًا هذا لا ينفي وجود الصادقين والمخلصين، لكن التجربة علمتني أن الطيبة الظاهرة لا تعني الأمان، وأنك كغريب في مصر، يجب أن تحرس ظهرك دائمًا، حتى من أقرب الناس إليك في السوق والعمل.
بين التحرر والرقابة: حين ضاق الوطن المؤقت بالمقاومين
في العام 1969، لم تكن مغادرتي لمصر مجرد خروج من بلدٍ أحببته واحتضنني في أيام الشباب، بل كانت نفيًا غير معلن لمنطق المقاومة الحقيقية، بعد نكسة 1967، تغيّر وجه القاهرة، تغيّرت لهجة عبد الناصر، وبدأت علامات التحول تظهر: خطب نارية تتحدث عن الكفاح، لكن الاتفاقيات تُعقد تحت الطاولة، مثل اتفاقية «روجرز»، التي رأينا فيها - نحن أبناء القضية - تجميدًا للعمل المقاوم وتطبيعًا مقنّعًا مع العدو.
في تلك الفترة، بدأت السلطة المصرية تضيّق على حركات التحرر الفلسطينية المستقلة، وتراقب نشاطها، ولا ترضى بأي عمل لا يمر عبر قنواتها الأمنية، كنا نشعر أن المقاومة أصبحت مرهونة بالتصاريح والموافقات لا بحرية النضال، أنا الذي حلمت أن أكون جزءًا من حركة تحرر حقيقية، وجدت نفسي محاصرًا بين خطاب مزدوج، بين دولة تقول شيئًا وتفعل نقيضه.
وهكذا، حين حزمت حقيبتي وغادرت القاهرة، كنت أترك خلفي تجربة عظيمة، لكن أيضًا مرحلة أدركت فيها أن التحرر لا يُمنح بل يُنتزع، وأن الأنظمة التي تعادي الحرية لا يمكن أن تكون حاضنة للمقاومة.
هنا انتهى فصل من حياتي في القاهرة التي عشت فيها زهرة شبابي من ١٩٥٩ - ١٩٦٩م، تعلمت منها الاعتماد على الذات ، والمشاركة الفعلية في النضال الفلسطيني رغم المسافات، ومنها لم استطع العودة إلى غزة بل شققت طريقي إلى الأردن
المحطة الجديدة الأردن بانتظاري
بعد تخرجي من جامعة عين شمس، كنتُ متحمسًا للعودة إلى غزة، لأبدأ مشوار العمل والمساهمة في بناء وطني، لكن الاحتلال حال دون ذلك، فأصبحت المملكة الأردنية الهاشمية وجهتي الجديدة، حيث عملت موظفًا في وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، كانت الأردن محطة جديدة مليئة بالتحديات والطموحات، لكنها لم تكن غريبة عني، بل كانت وطنًا احتضنني، وفتح لي آفاقًا جديدة، وبدأت هناك فصلًا جديدًا من حياتي، عنوانه العطاء والعمل من أجل قضية لا تغيب عن قلبي.
رحلة اللجوء مجددًا من مصر إلى الأردن
كحال معظم الفلسطينيين في أماكن اللجوء، لم تكن حياتي بعد التخرج مستقرة، بل كانت سلسلة من التحديات والتنقلات بعد إنهاء دراستي الجامعية والتحاقي بـحركة فتح في مصر، بدأت أواجه تضييقًا متزايدًا على وجود الأحزاب الفلسطينية هناك، مما جعل البقاء خيارًا صعبًا كانت تلك الفترة حساسة، فالسياسة تداخلت مع تفاصيل الحياة اليومية، وجعلت من أي تحرك محسوبًا بدقة, أمام هذه الظروف، لم يكن أمامي سوى الرحيل، وكنت أريد الانتقال إلى الساحة الأردنية التي كانت تشهد تغييرات كبيرة على المستوى السياسي ووجود قيادات من فتح هناك، وعليه حصلت على تصريح أمني من منظمة فتح للسفر إلى الأردن، ذلك البلد الذي أصبح محطة رئيسية للفلسطينيين الباحثين عن الاستقرار والعمل، عندما وصلت إلى عمان، لم يكن استقبالها لي غريبًا عن دفء الأهل والوطن، فقد فتحت لي أختي أم داوود باب منزلها بعد غياب طويل منذ نزوحنا من هربيا وافتراقنا، الذي كان ملاذًا لي في تلك اللحظة الحاسمة من حياتي في رحاب بيتها، وجدت الحب، الحنان، والأمان المؤقت بعد رحلة من الترحال وعدم اليقين.
لكنني كنت أدرك تمامًا أن عمان لم تكن نهاية الطريق، بل مجرد بداية جديدة، وأن القادم يحمل في طياته تحديات أخرى، لكنها أيضًا كانت فرصة للنضال والعمل من أجل الحلم الفلسطيني، الذي لم يفارقني لحظة واحدة.
خيبة البداية في عمّان
ما إن وصلت الأردن، حتى دفعتني رغبتي في الاستمرار بالنضال إلى طرق أبواب الكبار، وذهبت مباشرة إلى منزل صلاح خلف (أبو إياد)، الرجل الذي كنت قد التقيته أول مرة في القاهرة، حين كنت أمين سر طلائع الفداء, دخلت عليه، فوجدته ممددًا على السرير، وكأن شيئًا لا يعنيه جلست وطلبت منه أن يتم تفريغي للعمل رسميًا في صفوف منظمة فتح، كنت أظن أن ما قدمناه في «الطلائع» من جهد وتضحية سيقابل بتقدير يليق به، أو حتى بشيء من الإنصاف.
لكنه، دون أن ينهض أو يكلّف نفسه حتى بالجلوس، قال لي ببرود: «ما في مجال المنظمة ما بتقدر تدفع رواتب زيادة» ، وقفت حينها، وشعرت أن الكلمات خرجت من فمي أثقل من أي مرة: «أنا من وافق على إدراج طلائع الفداء ضمن منظمة فتح» وهذا هو جزائي؟ بعد كل ما قدمناه؟، ثم خرجت وتركته مستلقيًا على سريره، صامتًا، كأن شيئًا لم يكن.
خالي عبد الرحيم الكيالي رجل بحجم وطن
كان خالي عبد الرحيم الكيالي أحد الهامات الوطنية الفلسطينية البارزة في ذلك الوقت، رجلاً لا يعرف التراجع ولا يلين أمام المحتل، أينما وُجد الفلسطيني المقاوم، كان خالي هناك، يُسانده، يُناضل إلى جانبه، ويدفع بقوة نحو الحرية والاستقلال، كانت روحه الوطنية تتقد كالنار، لا تهدأ ولا تنطفئ، فبعد سنوات من مقاومة الاحتلال في فلسطين، اضطر للانتقال إلى الأردن مع أبنائه، لكن حبه العميق لوطنه لم يهاجر معه، بل ظل متقدًا في صدره، يبحث عن كل طريق لمواصلة النضال، فكان من قادة الفدائيين تراه في الساحات يصول ويجول بتاريخه وعزيمته التي لا تلين، حتى جاء أيلول الأسود .
انقلاب لم يكتمل حينما هزّت «هيبة» الملك حسين أصابع المنفّذ
في أحداث أيلول الأسود، تلقت المقاومة الفلسطينية ضربات موجعة، لكن ذلك لم يكن النهاية، بل بداية لتخطيط جديد قرر خالي ومجموعة من الوطنيين الإعداد لانقلاب عسكري على الملك حسين، وكانت الخطة محكمة إلى أقصى الحدود، كادت أن تنجح لولا فشل الرجل المكلف بإنهاء المهمة الحاسمة، في مقابلة تلفزيونية لاحقة، كشف هذا الرجل عن السبب الذي أوقفه في اللحظة الأخيرة، قائلاً: (عندما وقفت أمام الملك حسين، رأيت في عينيه هيبة لم أستطع أن أتجاوزها، ولم أستطع أن أضغط على الزناد.)
بهذه الكلمات، تبدد حلم الانقلاب، وضاعت الفرصة الأخيرة لتغيير المشهد السياسي أما الملك حسين، الذي كان معروفًا بذكائه في التعامل مع خصومه، فلم يبطش بمن حاول إسقاطه، بل قرّب هذا الشخص منه، ومنحه منصبًا رفيعًا في أحد الأجهزة الأمنية، بعد أن مرّ بمرحلة السجن والتعذيب.
أيلول حين كانت البنادق تُصوَّب إلى القلب العربي
لم أكن أحمل بندقية في ذلك الشهر الذي احترق فيه الأردن ولم أكن في صف الفدائيين، ولا في خندق الجيش كنت مجرد شاب فلسطيني في عمّان، يقف في منتصف الجرح، يشاهد الوطن وهو يُمزَّق بين إخوة الدم، ويشعر أن الحياد لم يعد كافيًا لإنقاذ الروح, كان أيلول 1970 مختلفًا عن كل الشهور قبل ذلك، كان الناس يتحدثون عن الثورة، عن العودة، عن تحرير الأرض لكن فجأة، تحوّلت شوارع عمّان إلى متاريس، وأصبحت المقاهي خالية، والأسطح مليئة بالقنّاصين كانت البيوت تضجّ بالهمس، وتغلق أبوابها مبكرًا، خوفًا من «دورية» لا تفرق بين مدني ومقاتل، أو رصاصة طائشة لا تسأل عن الهوية.
أذكر جيدًا كيف استيقظنا ذات صباح على صوت الانفجارات في حيّنا لم نكن نعلم من يُقاتل من، كل ما عرفناه أن عمان بدأت تنزف كل شيء تغير الشوارع، العيون، حتى الهواء صار أكثر كثافة، كأنّه مشبع برائحة الدم، لم أشارك، ولم يكن لي سلاح، لكن قلبي كان مع كل فلسطيني يرى في الأردن ملاذًا، ومع كل أردني يشعر أن وطنه يُختطف كنت أعيش في منطقة قريبة من الاشتباكات، أسمع الرصاص كل ليلة، وأعدّ الجثث في الأخبار كل صباح بعض أصدقائي التحقوا بالفدائيين، وآخرون انتسبوا للجيش وأنا كنت عالقًا بينهم، لا أستطيع أن أقول: «هذا على حق»، ولا أجرؤ على القول: «كلاهما مخطئ»، لكنني كنت أعلم أن القضية تُغتال على مرأى منا جميعًا، لم يكن بيننا خونة، بل فقط ضائعون الفدائي كان يرى نفسه حارسًا للثورة، والضابط الأردني كان يظن أنه يدافع عن دولته أما أنا، فكنت أرى الحقيقة عارية: نحن نُقتل بأيدينا، ونحرق ذاكرة الوطن برصاصٍ عربيٍّ خالص، لم أنسَ وجه الحاجة أمّ سميح، جارتي، وهي تبكي على ابنها الذي قُتل في تبادل نارٍ أمام الفرن لم يكن فدائيًا، ولا عسكريًا كان فقط يريد رغيفًا من الخبز.
انتهى أيلول، ولم ينتهِ الحزن انتهت الاشتباكات، لكن بقي في القلب شرخ لا يلتئم منظمة التحرير خرجت من الأردن، لكن الفكرة التي خرجت من روحي كانت أكبر: الثورة التي لا تضبط سلاحها، تنتهي وهي تطلق النار على أهلها.
فضل لا يُنسى يد خالي التي انتشلتني نحو المستقبل
أشهد الله أن خالي رحمه الله لم يقصر معي يومًا، بل كان بمثابة أبٍ ثانٍ لي، وقف إلى جانبي في أكثر محطات حياتي حساسية، وكان صاحب الفضل عليّ بعد الله في أمور عديدة، لعل أبرزها:
دخولي إلى وكالة الغوث وظيفة بمساعدة من لم يتوقعها أحد
لم يكن الجواز هو الفضل الوحيد لخالي، ففي مرحلة لاحقة، أردت الحصول على وظيفة في وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، فسألته عن كيفية تقديم الطلب.
ابتسم خالي وقال لي: دعنا نستفيد من شبكة العلاقات، سأرشدك إلى الطريق, لم أكن أعلم أن ابن عمتي محمد علاء الدين الذي كان يشغل منصب مدير عام لأحد فروع بنك القاهرة عمان، وللصدفة البحتة، كان مدير عام الأونروا قد طلب قرضًا من ابن عمتي عندما وصله الطلب، لم يكن هناك مجال للتردد، فتمت الموافقة على القرض، ومن هنا فُتح لي باب الوظيفة.
تقدّمتُ للمقابلة، وبفضل شهادتي من معهد المعلمين، وشهادة البكالوريوس في العلوم من جامعة عين شمس بالقاهرة، تمت الموافقة عليّ. كان ذلك نقطة تحول في حياتي المهنية، فتحت لي الأونروا أبواب العمل، والاستقرار، والقدرة على خدمة أبناء شعبي من خلال التعليم.
الفصل الدراسي هو الميدان
حين دخلت إلى الصف في العام ١٩٦٩، لم أكن أُعلّم فقط كنت أسترجع ملامح وجهي حين كنت تلميذًا في غزة، أحاول أن أفهم معنى الوطن قبل أن أفهم قانون نيوتن، أغلب الطلاب في تلك المدارس جاؤوا من أحياء فقيرة أو من قلب المخيم، يحملون في عيونهم مزيجًا من الذكاء والخوف والضجر وكانت مادة الأحياء تحديدًا تُخيفهم، وكأنها طلاسم لا تُفك، فابتكرت طرقًا جديدة كنت أُدخل الألغاز العلمية بدلًا من الأسئلة التقليدية، أجري تجارب عملية بسيطة داخل الصف، وأُحوّل الحصة إلى ما يشبه مسرحية فيها تفاعل وحيوية، حتى الصور والخرائط، كنت أرسمها بنفسي، لأجعلها أقرب لفهم الطالب، بدلًا من جفاف الكتاب.
نجح الأمر، صار الطلاب يحبون المادة، وصارت المدرسة تتحدث عن «الصف اللي عند الأستاذ خليل»، وصارت الإدارة تُكلّفني بإعطاء دروس تجريبية أمام معلمين آخرين لم أكن أبحث عن المديح، بل كنت أريد فقط أن أردّ الجميل لكل من علّمني وسط الظلام.
مدارس الوكالة: بوصلة الهوية والانتماء
كنت أؤمن أن مدارس الأونروا ليست مجرد مؤسسات تعليمية، بل هي جبهة تربوية تحفظ ما تبقى من ملامح فلسطين في وجوه أبنائها كنتُ حريصًا، كمعلم ومديرا لاحقاً، أن تكون كل زاوية في المدرسة، من الحصص الدراسية إلى الإذاعة الصباحية، محفزًا على الانتماء، وبوصلةً لا تضل عن الوطن.
لم يسمح يومًا للطلبةأن يُنادى بأنه من عمان أو الزرقاء بل من بلد أجداده؛ من الرملة، يافا، أو بيت نبالا، كنا نحفظ أسماء القرى المهجرة أكثر مما نحفظ العواصم، وكانت الإذاعة المدرسية مساحة يومية تُبث فيها أخبار فلسطين، أناشيد العودة، ورسائل التضامن، كان هذا الوعي الجماعي يُزرع بالتدريج، مع كل نشاط، كل طابور، وكل درس.
الأنشطة المدرسية: تربية للروح واحتضان للتميّز
رغم قلة الإمكانيات، جعلنا من النشاطات اللاصفية منصة لإثبات الذات، احتفالات نهاية العام، تكريم المتفوقين، وفِرق الكشافة، كلها كانت مناسبات لصقل الشخصية الفلسطينية، كنت أشجع المعلمين على تحويل بعض الحصص إلى دروس في التاريخ الشفوي والذاكرة الوطنية، ليرتبط الطالب ليس فقط بالكتاب، بل بالأرض التي حُرم منها.
وفي كل منافسة محلية أو إقليمية، كنا نحرص أن نُرسل طلابنا المبدعين، لنقول إن اللاجئ قادر على التفوق، وأن فلسطين لا تُمثل فقط في السياسة، بل في العلم والفن والإبداع.
التدرج الوظيفي من معلم إلى مدير
بمرور الوقت، تدرجت في السلم الوظيفي، وتوليت منصب مدير مساعد لأكبر مدارس الأونروا في محافظة الزرقاء، كان هذا المنصب بمثابة محكّ حقيقي لتطوير شخصيتي القيادية، حيث تعلمت كيف أوجه الفرق، وأحفزهم نحو النجاح.
ثم جاء نقلي إلى مدارس ماركا كمدير فيها، وهي مدرسة عرفت بتحدياتها الكبيرة من حيث انضباط الطلاب، فكان تحدي جديد ينتظرني كانت أول قراراتي أن أطلب من المعلمين تسجيل أسماء الطلاب المشاغبين، وعندما استدعي هؤلاء الطلاب واحدًا تلو الآخر، كانوا يعتقدون أنني سأقوم بفصلهم أو استدعاء أولياء أمورهم. لكنني فاجأتهم بإعطائهم فرصة قيادة الصفوف بأنفسهم كنت أعلم أن بعضهم كان يرى نفسه فوق الجميع، لذا منحتهم السلطة التي كانوا يبحثون عنها، في محاولة لفتح آفاق جديدة في تعليمهم وتوجيههم، وبالفعل نجحت الخطة، وأصبح هؤلاء الطلاب هم من يقودون فصولهم، وحققوا انضباطًا غير مسبوق في المدرسة، وخرج منهم الطبيب والمهندس وكل من خدم مجتمعه.
حين غيّرت القصة مصير طفل
لم يكن ذلك الطفل سوى عقدة تمشي على قدمين كلما دخل إلى المدرسة، بدت ملامحه غاضبة، وعيناه تلمعان بشيء من التحدي، أو لعلّه اليأس، لم يكن يمر يوم دون أن يتورط في شجار، أو يتعمد كسر مقعد، أو تمزيق ستارة، أو العبث بمقابض الأبواب والنوافذ، في البداية حسبناه من أولئك المشاغبين بالفطرة، الذين لا يرغبون إلا في لفت الانتباه، فانهالت عليه تقارير العقاب والاستدعاءات والتوبيخ، لكن شيئًا ما بدا في سلوكه مختلفًا لم يكن يضحك كما يفعل الباقون عند الشغب، بل يحمل في عينيه نظرة من يرغب في الانتقام من المكان، من المؤسسة، من شيء أكبر بكثير من حيطان المدرسة.
وبعد حوادث متكررة كادت أن تؤدي لفصله، قررتُ أن أتوقف عن النظر إليه كـ«مشكلة»، وأن أبدأ برؤيته كـ«قضية»، جلست معه في مكتبي، لم أبدأ بسؤالٍ مباشر، بل بشيء من الحكايات الخفيفة عن طفولتي، وعن المدرسة التي درست فيها، وعن معلم طيب ساعدني ذات يوم شيئًا فشيئًا، بدأ الجليد يذوب ومن حديث إلى حديث، بدأ الطفل يفكّ عقدته، ويفتح صدره لما بدا دفينًا من الألم، حدثني عن بيته الصغير في مخيم ماركا، عن أمه التي ترقد طريحة الفراش منذ شهور، وعن والده العاطل عن العمل الذي يقضي وقته في البحث عن عمل تارة، وفي الهروب من الواقع تارات، حدثني عن ليالٍ نام فيها بلا عشاء، وعن شتاءٍ لم يكن فيه إلا بطانية واحدة يتناوب عليها مع إخوته الثلاثة. قال لي: «أستاذ خليل» لما بكسر الطاولة أو الباب، بحس إني عم بكسر شي مش بقدر عليه « يمكن الفقر، يمكن القهر» في تلك اللحظة، أدركت أن الغضب لم يكن سوى صرخة غير مفهومة، وأن عدوانه لم يكن ضدنا، بل ضد واقع لم يمنحه فرصة عادلة كبقية الأطفال.
طلبت من الهيئة التدريسية أن نمنحه فرصة مختلفة: لا عقاب، بل اهتمام، وجهته للمشاركة في النشاطات المدرسية، شجعته على التعبير من خلال الكتابة والرسم، نظمت زيارة للبيت برفقة المرشد الاجتماعي، وبدأنا حملة بسيطة لدعم العائلة عبر لجنة المعلمين، ومع الوقت، تغيّر وجه الطفل صار يحرص على الحضور، يطلب المساعدة لا التحدي، ينبه زملاءه إلى عدم العبث بمرافق المدرسة، بل إنه أصبح من أكثر الطلبة التزامًا واحترامًا للنظام كان كلما رآني، ابتسم تلك الابتسامة التي لا تخرج من القلب إلا إذا مرّ على الألم، وانتهى عند الفهم.
لقد علمتني تلك التجربة أن وراء كل سلوك سيء، حكاية لم تُروَ بعد وأن التربية لا تبدأ من العقاب، بل من الإصغاء.
المدرسة الصفراء عمل هادئ في محيط ملتهب
ثم انتقلت إلى مدرسة الزرقاء «الصفراء»، مدرسة صغيرة نسبياً، ولكن مع طلاب ذوي إمكانيات جيدة ومعلمين أكفاء. كانت الأجواء فيها هادئة نسبياً، ومرت هذه السنوات بسلاسة،
كسرة خبز بكرامة
كنت مديرًا للمدرسة حين لفت انتباهي أحد المعلمين قائلاً بهدوء: «في طالب، كل يوم يلف ويدور بين الأدراج والصفوف بوقت ما يكون في حدا بالصف ،و خصوصاً حصص الرياضة والنشاط، وبس يرجعوا الطلاب على صفوفهم لازم تيجي شكوى من طالبين أو ثلاث بفقدان أكلهم و مصروفهم من الشنطة»، تابعت المشهد يومًا بعد يوم وجدته طفلاً هادئ، نظيف، لكنه يتجنب الاختلاط، ويمضي وقت الاستراحة قريبًا من الصفوف كمن ينتظر شيئًا لا يأتي.
استدعيت الطفل، ودعوته للجلوس أمامي لم أوجه له تهمة، بل بدأت الحديث معه عن المدرسة، عن الجو البارد، وعن الغداء وبعد قليل، قال بصوت خافت: «ما معي مصاري» أمي ما عندها تعطيني، وأبوي مش موجود من زمان، عرفت أن هذا الطفل ليس سارقًا بل هو جائع، وأن ما فعله ليس انحرافًا بل نداء صامت للحياة، جمعت لجنة المعلمين في اليوم ذاته، وطرحت القضية دون ذكر اسم الطالب احترامًا لخصوصيته. وبدون تردد، اقترح الزملاء أن نعيد تفعيل صندوق المعلمين، تلك المبادرة التي طالما كانت سندًا لطلابنا المحتاجين، كما اقترح أحد المعلمين أن نمرر صندوقًا صغيرًا داخل الصفوف، يتبرع فيه الطلاب كلٌ بما يقدر، حتى لو كان قرشًا وكانت النتيجة مذهلة: شعر الطلاب بأنهم يملكون القدرة على مساعدة غيرهم، وتعزز فيهم شعور الانتماء والتكافل، منذ ذلك اليوم، أدرج اسم الطالب ضمن المستفيدين من برنامج «الوجبة اليومية»، دون أن يعرف أحد، وكان يأخذ مصروفه من عامل المقصف كما لو أنه يدفعه بنفسه احتفظنا بكرامته، وهذا كان أهم من أي شيء آخر، مرت الأسابيع، وتبدّل حاله وتحسّن مستواه الدراسي، وبدأ يشارك بالنشاطات الصباحية، وأصبح من أكثر الطلبة التزامًا.
هذه التجربة لم تكن قصة عابرة، بل واحدة من عشرات القصص التي أكدت لي أن التربية في مدارس الوكالة لم تكن يومًا مجرد كتب وصفوف، بل كانت حياة تُبنى بالتشارك، وتُدار بقلوب صادقة ترى في كل طالب إنسانًا يستحق فرصة جديدة.
الترفيع الذي لم يأتِ ولقاء مع محمد عليان
بمرور الوقت، تم ترفيعي لمنصب مدير مساعد لأكبر مدارس الوكالة في الزرقاء، ثم أصبحت مديرًا فعليًا لكن الطموح لم يتوقف، كنت أطمح أن أُصبح مشرفًا تربويًا، وقدمت نفسي مرارًا، وكنت دائمًا أسمع عبارات الإعجاب بأدائي، لكن النتيجة كانت: لا ترفيع، كان الرجل الذي بيده القرار هو المسؤول التربوي حينها: محمد عليان، كنت أسمع أنه يُفضّل أشخاصًا بعينهم، ويؤجل ترقيات من يستحقون، فكتمت الأمر بصمت، وحاولت معه مراراً وتكراراً بكل الطرق ولكن دون جدوى.
لكن المفارقة أنني التقيته بعد تقاعدنا سويًا، فبادرني بقوله، بنبرة مكسورة: «خليل» أنت مبسوط؟ أنا تقاعدت، وأنت تقاعدت« لكن الفرق أني حرمتك من تحقق حلمك، رغم أنك الأحق»، نظرت إليه طويلًا، ولم أقل شيئًا. كنت أعرف أن الحياة قد تعاقبنا بصمتنا، لكنه كان يعرف أنه أخطأ في حقي.
إلى ألمانيا صوت اللاجئ في بلاد بعيدة
في أواخر الثمانينات، حملت حقيبتي وسافرت إلى مع وفد فلسطين إلى ألمانيا الديمقراطية في المؤتمر التربوي في دريسدن وكان معي السيد عدنان حمد رئيس اللجنة التنفيذية لقطاع معلمي وكالة الغوث، وكنت حينها أعمل في مدارس الأونروا لم تكن الرحلة مجرد سفر، بل كانت شهادة حضور باسم آلاف اللاجئين الذين حملوا فلسطين معهم في الذاكرة والهوية.
كنا وفدًا صغيرًا، لكننا نحمل قضية شعب كامل ذهبنا للمشاركة في مؤتمر دولي حول أوضاع اللاجئين الفلسطينيين، حيث اجتمعنا مع وفود من دول متعددة، وكان لكل واحدٍ منا حكاية تروي معاناة شعبه تحت الاحتلال والشتات. جلست على طاولة الحوار وأنا لا أمثل نفسي، بل أمثل مخيمًا بأكمله، وأصوات طلابي الذين كنت أراهم كل صباح في صفوف مدارس الأونروا، يحملون كتبهم بيد، وأحلام العودة في القلب، كنت أتكلم بلساني، لكني أشعر أن صوتي كان ممتدًا من فلسطين، من رفح ويافا واللد، من الشجيرات اليابسة خلف خيام اللاجئين. لم أكن دبلوماسيًا ولا سياسيًا محترفًا، كنت ابن القضية، وواحدًا من أبنائها الذين كبروا على حكايات النكبة، وعاشوا تفاصيلها في كل زاوية من حياتهم.
في ألمانيا، لمست حجم الاهتمام، لكني أيضًا شعرت بحجم البُعد، العالم بعيد عن وجعنا، وعلينا أن نُذكّره دائمًا تلك الرحلة لم تكن فقط لحضور مؤتمر، بل كانت تجربة وجود، وتأكيد أن الفلسطيني، مهما ابتعدت به المسافات، لا ينسى من هو، ولا لماذا خرج من بلده ولا إلى أين يريد أن يعود.
خلاصة الرحلة تجربة غنية بالدروس
رحلتي في مجال التعليم والسياسة كانت مليئة بالإنجازات والتحديات، تعلمت من النجاحات والإخفاقات على حد سواء، ورغم الصعوبات التي مررت بها، أعتقد أنني تركت بصمة حقيقية في حياة العديد من الطلاب والزملاء وقبل كل شيء، أدركت أهمية القيادة الحقيقية وكيف أن التغيير الإيجابي يبدأ من داخل الفرد نفسه، ومن ثم ينعكس على المجتمع بأسره.
دخول القفص الذهبي بداية الحكاية
في السابع من مايو عام 1971، يومٌ عادي في حياة الناس، لكنه بالنسبة لي كان ولادة جديدة كنت قد بلغت التاسعة والعشرين من عمري، وكنت قد جربت الغربة، والنضال، ومرارة اللجوء، لكنني لم أجرب الحياة بمعناها الكامل إلا بعد ذلك اليوم، يومها عقد قراني على «صباح حداد»، ابنة فلسطين، ابنة الرملة تحديدًا، المدينة التي لا تفارق خيالي، والتي هجّرها الاحتلال كما هجّر آلاف القلوب من بيوتها.
صباح لم تكن فتاة عادية، كانت تحمل فلسطين في كلامها، في طبخها، في حنيّتها على إخوتها، وحتى في صمتها كانت تربيتها صلبة، مستندة إلى قيم اللاجئ الفلسطيني الذي لا يملك سوى شرفه وكرامته ومفتاح بيته المهجور، وفي كل مرة كنت أجلس معها قبل الزواج، كنت أرى في عينيها حنينًا لا يشبه حنين النساء العاديات كانت تنتمي لفلسطين كما تنتمي الأرض للمطر، فكان اقتراني بها بمثابة إعلان داخلي بأني لم أختر شريكة حياة فقط، بل اخترت أن أكون أقرب لفلسطين من أي وقت مضى.
طقوس الزفاف والبساطة المشرفة
كان زفافنا بسيطًا، متواضعًا، لا فيه صالات فخمة ولا فساتين مستوردة لكن كانت فيه بركة، ووجوه تحبنا، وزغاريد نساء تعرف معنى الفرح النظيف، الفرح اللي من القلب اجتمع الأهل في بيت العائلة، الفرشات الأرضية والزهور البلاستيكية كانت ديكور المناسبة، لكن أرواحنا كانت محتفلة، وقلوبنا مليانة أمل تزينت صباح بثوب أبيض كالثلج لا زلت أذكر تفاصيله إلى الآن، وأذكر تمامًا كيف كانت جدتها تقول: «الله يتمم عليكوا، أهم إشي المحبة والرضا، مش الذهب ولا المال»، في تلك الليلة، غنّت النساء أغاني الدلعونا، والميجانا، وكنت أشعر وكأنني أُزفّ إلى حياة أخرى، فيها وطن، فيها عائلة، وفيها حضن دافئ في وجه هذا البرد الطويل الذي يسمونه لجوء.
الانتقال إلى الزرقاء وتكريم الحب
بدأنا حياتنا في عمان، حيث كان عملي، ولكن سرعان ما لمحت في صباح شوقًا عميقًا لأمها، لعائلتها، لأخوها الأصغر. لم تتكلم كثيرًا، لكنها كانت تحمل حنينها في نظراتها فقلت لها ذات صباح: «شو رأيك ننتقل للزرقاء؟». لم تتردد لحظة ووافقت، يومها شعرت أني فعلت الشيء الصحيح فالوفاء للحب لا يكون فقط بالوعود بل بالفعل، بالخطوات اللي بتأكد إنك مش ناوي تترك، ولا تغيب، ولا تنسى، انتقلنا للزرقاء، حيث عاشت صباح طفولتها، وهناك أسسنا بيتنا الأول لم يكن كبيرًا، لكنه كان مليئًا بالدفء، أول غاز، أول طنجرة، أول سجادة مشتركة، كلها تفاصيل صغيرة صنعت ذاكرة من ذهب وهون بدأت الحياة الحقيقية، حيث نطبخ سويًا، نربي سويًا، نخطط ونخاف ونحلم معًا.
الحياة الزوجية والمقاومة من البيت
رزقنا الله بأطفال كان كل واحد منهم بمثابة عهد جديد، كل طفل كأنه بوصلة تشير إلى المستقبل إلى فلسطين، صباح كانت ترفض أن نعيش حياة عادية، كانت تشجعنا نعلم أولادنا الكرامة، الصدق، والانتماء، وكانت تقول دايمًا: «إنت بتحمل الراية برا، وأنا بحملها جوّا البيت»، وكانت تعرف إنها مش مجرد زوجة، كانت شريكة في المقاومة، من مطبخها، من تربيتها، من صبرها علينا، كانت تصرّ أن نعلّم أولادنا كيف يحكوا عن فلسطين، كيف يصلّوا، كيف يحترموا الكبير، ويكسروا شوكة الذلّ في كل تفصيلة، كانت صباح تبني أمة، ومع الوقت، صار بيتنا محطّة للناس، أهل، جيران، أصدقاء، حتى بعض الأقارب من خارج الأردن كانوا يزورونا كنا نحسّ إنه بيتنا مش إلنا لحالنا، بيت مفتوح زي بيوت فلسطين القديمة، اللي فيها الدار دارين، ولقمة الخبز تنقسم لتكفي الجميع.
ذكريات لا تُنسى
لا أستطيع أن أصف كم كانت زوجتي مثالًا نادرًا في الصبر والعطاء كانت تعامل والدتي وكأنها أمّها تمامًا، بمحبة حقيقية واحترام لا تصنعه المجاملة، بل ينبع من القلب كانت التفاصيل الصغيرة تلك التي لا يلاحظها الآخرون هي ما شكّل ذاكرتي اليوم لم تكن مجرد مواقف، بل مشاعر عشتها بكل ما فيها من دفء وامتنان.
ومن أكثر القصص التي تضحكني كلما تذكرتها، وتحكيها لي زوجتي بين الحين والآخر، قصة حصلت يوم وصلتها إلى بيت أهلها في تلك اللحظة، دخلت والدتي غرفة الغسيل، حيث كانت الغسالة تعطلت بسبب خلل كهربائي. حماتي « رحمها الله » كانت قد فصلت القابس عن الكهرباء، خوفًا من حدوث شيء. وما إن خرجت من الغرفة للحظات، حتى عادت لتجد والدتي « بكل براءة » قد أعادت توصيل القابس بالكهرباء! فجأة بزززز! حماتي صُعقت فعليًا! ومن قوة الصعقة وقعت حماتي على الأرض، لكن الموقف كان مرعب ومضحك بعدين، والدتي وهي تحاول تلطف الأجواء والكارثة اللي صارت، نظرت لها وقالت بضحكة خفيفة: «كنت بمزح معك يا وجيهة! ما بتتحملي مزح!!»، رحمهما الله وغفر لهما، ما زالت ضحكاتهما تعيش في ذاكرتي، كأنها لم تغب.
ومن الذكريات الدافئة التي لا تغيب عن ذاكرتي أنا وزوجتي، تلك اللحظات الجميلة في أواخر عمر والدتي « رحمها الله » حين كانت تستحضر الماضي بضحكة خفيفة ونظرة حنين، وتردد أبياتًا من الشعر نظمتها بنفسها، عتابًا رقيقًا ومداعبة محبّبة لوالدي الراحل، وكأنها كانت تلاعبه رغم غيابه، وتمازحه كما كانت تفعل في أيام وصاله:
يا ريت أنا ريته
اللي كتب كتابي
يا ريت أنا ريته
كان مزعت الورق
والحبر كبيته
لم تكن تلك الأبيات هجاءً بقدر ما كانت انعكاسًا لعلاقة طويلة، ملؤها الحب والمواقف والمشاكسات البريئة التي لا يفهمها إلا من عاش عمراً من العشرة والرفقة. كانت تلك الكلمات تقول الكثير بصوتٍ خافت، فيه لوعة المحبة، ودفء الذكرى، وشوق الرفيق.
رحلة لم تُكتب وتذكرة سفر لم تُستخدم
في أواخر سبعينيات القرن الماضي، وبينما كنت أعمل في وكالة الغوث، جاءتني فرصة للعمل في الكويت، قدمت الطلب وتم قبولي بسرعة، وأرسلت لي تذكرة السفر وكأن الحياة تعدني بباب جديد للرزق والاستقرار، لكني كنت أعلم في داخلي أن الأردن، رغم أنه مكان لجوئي، لم يكن الوطن، وأن فلسطين التي هجرتني قسرًا لم تغادرني لحظة، كنت قد بدأت حياتي الزوجية، ووالدتي كانت تحتاجني إلى جانبها، وكنت أشعر أن الغربة عن الغربة مضاعفة أن الابتعاد أكثر، حتى ولو إلى بلد عربي شقيق، هو ابتعاد عن نبض القضية وعن حلم العودة، ربما كان حرّ الكويت القاسي، أو ربما كانت فلسطين التي تنبض داخلي، هي من منعتني من ركوب الطائرة، قررت أن أعتذر عن السفر، وأبقى حيث أستطيع أن أظل قريبًا من حلمي، مهما ابتعدت الجغرافيا.
ولم أندم يومًا فقد علمتني التجربة أن بعض الفرص ليست خسرانًا حين تترك، بل وفاءً للذات وللوطن.
رحل الكبار وبقيت الذكريات
رحيل لم أودّعه
لم يخطر ببالي يومًا أن خبر وفاة والدي الشيخ رمزي، العالم الأزهري الجليل، والنور الذي طالما أنار لي دروب الحيرة سيصلني من غريب، وفي لحظة عابرة، بلا تمهيد، بلا وداع، بلا حتى رجفة قلب تنذرني بما هو قادم، كنت جالسًا في مكتبي ذات صباح حين دخل رجل من غزة، جاء إلى الأردن في أمر عابر، لا علاقة له بي إلا تلك الصدفة التي جمعَتنا، بعد حديث قصير، سألني بهدوء فيه من الاحترام أكثر مما فيه من الفضول: «حضرتك ابن الشيخ رمزي؟» أجبته وأنا أرفع رأسي بفخرٍ لا يشي بشيء، لكن ما قاله بعد ذلك جعل الزمن يتوقف: «الله يرحمه، توفّى من شهرين»، تجمّدت الكلمات في حلقي، شعرت وكأن أحدًا اقتلعني من جلدي نظرت إليه بذهول، بعينين تبحثان عن تكذيب، عن أي تصحيح، عن أمل «ولو كاذب » بأن ما سمعته ليس سوى وهم، لكن لا وهم في وجعٍ كهذا لا كذب في هذا الصمت الذي تلا كلماته، وكأن الكون كله توقّف احترامًا لرجل رحل في صمت، دون أن يعلم ابنه، دون أن يودّع من أحبه، في ذلك الزمن، كانت غزة معزولة. لا هاتف، لا بريد، لا وسيلة تعبر بها الأخبار إلا إن حملها أحدهم صدفة على لسانه ، حملت وجعي ونزلت إلى غزة، لا لشيء، فقط لأقف عند قبره، لم أذهب كزائر، بل كمن فاته أن يكون ابنًا في لحظة الوداع.
وقفت أمام ترابه وقلبي يرتجف قرأت عليه الفاتحة، ثم صمتُّ طويلًا، حدّثته في سري عن كل ما لم أقله، عن حنيني، عن ضعفي، عن أيامي التي كان فيها صوته مرشدي، وصمته مرفأ أمان ، بكيت كما لم أبكِ يومًا بكيت غيابي، وبكيت بعدي، وبكيت فاجعة أن يموت والدك دون أن تحتضنه في رمقه الأخير، لم يكن مجرد والدي كان ظلي، وسندي، وبوصلتي حين تتوه المعاني.
وداع الأب الثاني
لم يكن خالي عبد الرحيم الكيالي مجرد قريب كان بيتًا حين ضاقت بي البيوت، وسندًا حين شعرت أنني وحدي في هذا العالم. منذ لحظة دخولي إلى الأردن، كان أول يد امتدت لي، وأول قلب احتواني دون شرط، علّمني أن الرجولة موقف، وأن الكرامة لا تُشترى، وأن من لا يملك عائلة، يستطيع أن يجدها في من يفتح له الباب بمحبة، كان حضوره في حياتي أشبه بالظل الوارف في قيظ الغربة، لا يطلب شيئًا، لكنه يمنح كل شيء. لم يكن يُكثر الكلام، لكن أفعاله كانت حاضرة في كل مرحلة مررت بها. كان يفرح لفرحي كأب، ويحزن لحزني كصديق، ويشد على يديّ كمن يرفض أن يراني أنحني، وحين رحل رحل بهدوء يشبه طيبته. لم يطرق باب الوداع، ولم يمهلنا لحظة استعداد. اختطفه القدر فجأة، وكأن الحياة شاءت أن تسرقني من دفء وجوده مرة واحدة وإلى الأبد، وقفت على قبره، والدمع في عيني لا يشبه دمع الحزن العادي، بل دمع من فقد نصف روحه، ومن انكسر فيه ظهرٌ ثانٍ، بعد والده.
كنت أتمتم بالدعاء ولا أسمع صوتي كنت أراه في كل موقف مرّ بي، في كل نصيحة قالها، في كل خطوة ساعدني فيها حتى أصبحت ما أنا عليه، رحل خالي عبد الرحيم، لكن أثره ما زال حيًّا فيّ، في اسمي، في اختياراتي، في طباعي، رحل جسده، لكن فضله خالد لا يموت.
أمي آخر الحنان
عرفتُ الفقد مبكرًا فقدتُ والدي « الشيخ رمزي » فجأة من بعيد، من دون وداع، ثم غاب خالي، الرجل الذي كان أبًا ثانيًا وصاحب الفضل الكبير عليّ في غربتي بالأردن، في كل مرة، كنت أظن أني وصلت لقاع الحزن وأن القلب ما عاد يحتمل خسارة جديدة، لكن ما عرفته لاحقًا هو أن فقد الأم شيء مختلف تمامًا شيء ما بيوجع بس، بيكسر.
بعد وفاة والدي، قررت أن اصطحب أمي من غزة لتعيش معي في شقتي الصغيرة، رغم أنها ما كانت تتسع إلا بالنية الطيبة، كانت أمي بكل تفاصيلها سَكَن. عاشت معنا سنواتها الأخيرة، وشهدت على ولادة أولادي السبعة، واحدًا تلو الآخر، وكانت لهم الحضن الأول، والسند في غيابي، كانت الست، وكانت العمود، وكانت تحكيلي: «أنا مش ضيفة هون، هاي دار ولادي وأنا أمّهم» ، صباحاتها كانت تُشبه الدعاء، ورائحتها كانت تربط البيت ببعضه. وكانت تقول دائمًا: «البيت اللي ما فيه أم، ما فيه روح» ، وفي صباح رحيلها عام 1986، كان البيت فعلاً بلا روح، صحيت وما سمعت صوتها، لا حركة في المطبخ، لا نداء، ولا حتى ضوء، دخلت غرفتها لقيتها نايمه على السرير، ساكنة، ناديْتها: «يمّا»، لكن الصوت ضاع، مثل كل شيء بعدها،اقتربت منها، كانت يدها باردة ولم يكن في عينيها سوى سكوت أبدي، كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة، وأنا أراقب الدنيا تُسحب منّي بصمت، من غير صراخ، ولا حتى وداع.
وفي وسط هذا المشهد المؤلم، اقترب «رضا» أصغر أولادي، وكان عمره ثلاث سنوات،نظر إلى الكاسة اللي كانت بجانب سريرها الكاسة اللي شربت منها آخر رشفة، ببراءته رفعها، وشرب ما تبقى فيها، تجمّدت اللحظة في عيني، وكأن روحها مرّت من خلاله، وكأنها تركت لنا شيئًا منها، تسقيه لطفلي من بعد الرحيل، من يومها، وأنا لما بشوف رضا، بشعر أن فيه منها شيء، لمعة عيونها، حنيّتها، وسكوتها اللي كان مليان دعوات.
رحلت أمي، بس بقي طيفها في المكان بقيت رائحتها على الوسادة، وظلّ دعاؤها يغطي أولادي، زي ما كانت دايمًا، ومن يومها عرفت إنه الحنان ما بموت بس بيتحول لظل، بيمشي معنا في كل طريق.
أثر الغياب
ثلاثة كانوا أعمدة عمري أبي، خالي، وأمي، كل واحد فيهم ترك فيّ أثر لا يُمحى، أبي كان الجذر، الأصل، والهيبة اللي كنت أرجعلها في كل لحظة ضعف، وخالي عبد الرحيم، كان اليد اللي امتدت لي في الغربة، وفتح لي أبواب العيش والكرامة، فكان أبًا ثانيًا بحق، وأمي كانت الروح، كانت الحنان، وكانت دعاءً ما انقطع حتى وهي تُدفن، كل رحيل منهم نزفني بطريقة، وكل فقد كان درس في الصبر والحمد والرضا، تعلمت أن الحب ما بينتهي بالموت وأن الناس اللي بيعيشوا جوّاتنا، ما بيموتوا أبدًا، بقيت وجوههم في ذاكرتي، وأصواتهم في سمعي، ونصائحهم في قلبي، وأفعالهم الطيبة في حياتي، كلما اشتدّت عليّ الأيام، أغمض عيني وأرجع لظلّهم فأهدأ.
رحلوا لكنهم علّموني كيف أعيش، وكيف أُحب، وكيف أُربي، وكيف أترك أثرًا يشبههم، لمن سيبكونني ذات يوم، رحمهم الله، وغفر لهم، وجعل قبورهم روضة من رياض الجنة، وجمعهم في دار الخلود، حيث لا عتاب بعد اليوم، بل سكينة وسلام.
بيع منزل العائلة
كما ذكرت سابقاً لم أكن في رفح حين توفي والدي -رحمه الله- وكنت قد استقررت منذ سنوات في الأردن، أبحث عن مستقبلي، وأبني حياة جديدة وحين وصلني خبر وفاة والدي، عدت إلى رفح مسرعًا، تحركني مشاعر الحزن والحنين معًا كانت الزيارة عاطفية، ثقيلة على القلب، فالمكان الذي نشأت فيه فقد أحد أعمدته، جلست مع والدتي وتحدثنا طويلاً عن حياتنا القادمة كنت أعلم أن والدتي بحاجة إلى رعاية ورفقة، وأن رفح بعد والدي لم تعد كما كانت.
قررت حينها أن آخذ والدتي معي إلى الأردن، إلى حيث استقر بي المقام كانت هذه الخطوة بداية فصل جديد في حياتي وحياتها أيضًا، كيف لا وأنا ابنها الوحيد أقيم في الأردن كانت المسافة بيننا أقسى من أن تحتمل، فقررت أن أستقدمها بزيارة مؤقتة علّها تخفف من وطأة الغربة على قلبينا ولكن حين انتهت مدة التصريح، واجهتنا صدمة قرار الترحيل، لم أستطع أن أرى والدتي تُعاد إلى واقع الوحدة والحرمان، فطرقت أبواب وزارة الداخلية، ومنها أحالوني إلى جهاز المخابرات.
دخلت إلى مكتب الضابط وأنا أحمل أمي بين الخوف والرجاء، وشرحت له بصدق أنني المعيل الوحيد لها بعد الله، وأن لا أحد في هذا العالم يرعاها غيري لمحت دموعًا تنهمر من عينيه في لحظة إنسانية لا تُنسى، ثم نظر إليّ وقال: «والله لأساعدك» وبكلمة نابعة من إنسان قبل أن يكون مسؤول، منح والدتي إقامة دائمة، ليعيد لنا الأمان ولمّ الشمل بعد شتات، أما منزل العائلة الذي كان شاهداً على ذكرياتنا، فقد استقرت فيه شقيقتي فدوى وأسرتها، فقررنا بيعه لزوجها، ليصبح ملكًا لهم بشكل رسمي لم يكن قرار البيع سهلاً، لكنه كان منطقيًا تركت رفح هذه المرة وأنا أعلم أن فصلاً من حياتي قد أُغلق، لكن الذكريات ظلت محفورة في قلبي مهما ابتعدت المسافات.
محاولات بناء حياة أفضل
مرت الأعوام في الأردن وكنت أعمل بجد لأوفر لعائلتي حياة كريمة، وكبرت الأسرة عامًا بعد عام ولكن مع مرور الوقت، بدأ الراتب الشهري يتآكل أمام متطلبات الحياة المتزايدة، كنت أشعر أنني بحاجة إلى مصدر دخل إضافي، فكبر الأسرة يعني مصاريف أكثر، والطموحات لا تنتهي ، حينها قررت أن أفتح مشروعًا صغيرًا بجانب عملي، يكون عونًا لي في مواجهة أعباء الحياة اخترت أن يكون المشروع محلًا لبيع ألعاب الأطفال كانت الفكرة بسيطة، لكنها حملت آمالًا كبيرة، كنت أخرج من عملي في المدرسة، وأتوجه مباشرة إلى المحل أملأ الرفوف بالألعاب، وأنتظر الزبائن بشغف.
أذكر يومًا من أيام الشتاء، كان المطر يهطل بغزارة، والبرد يلف الشوارع والقلوب، فتحت المحل كعادتي بعد الانتهاء من عملي في المدرسة، وجلست أراقب الباب لساعات طويلة لم يدخل أحد شعرت بالإحباط، وفكرت أن أغلق المحل وأعود إلى البيت، لكن قبل أن أنهي الإغلاق، سمعت صوتًا يناديني من بعيد: «انتظر، لا تغلق المحل!»، كان شابًا يركض باتجاهي، ودخل وهو يلهث من شدة المطر تجول بين الألعاب، واختار منها ما شاء، ثم دفع مبلغًا محترمًا، كان كافيًا لتغطية مصاريف أسبوع كامل ولله الحمد.
كانت تلك اللحظة درسًا عظيمًا بالنسبة لي: الرزق بيد الله، يأتي حين لا نتوقعه شعرت أن الله لا ينسى عباده الصابرين.
تحديات الواقع ومتغيرات الحياة
ورغم هذه اللحظات الجميلة، لم يكن الطريق مفروشًا بالورود فمدينة الزرقاء، رغم كثافتها السكانية، لم تكن سهلة للمشاريع الصغيرة المنافسة كانت قوية، والقوة الشرائية متواضعة لم يصمد المحل طويلًا، واضطررت إلى إغلاقه بعد فترة ليست بالطويلة، تزامنت تلك الفترة مع دخول أبنائي إلى الجامعات، حيث ازدادت المسؤوليات أكثر فأكثر ولم تكن الأيام سهلة، لكننا كنا نمضي قدمًا كنا نعيش على الأمل، ونعتبر كل يوم نمر به بسلام نعمة تستحق الشكر، الحياة في ذلك الوقت لم تكن أقل صعوبة من اليوم، ولا هذا الزمن أفضل كثيرًا، لكل جيل معاناته وهمومه لكن الفرق أن صبرنا كان أكبر، وربما كانت قلوبنا أكثر امتلاءً بالقناعة والرضا، الأيام كانت تسير بنا، نحمل على أكتافنا الأحلام والمخاوف معًا، لكننا لم نتوقف يومًا عن الإيمان بأن الغد سيكون أفضل، وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
هذا الفصل الذي حاولت اختصاره قدر الإمكان من يوم ما وطئت قدمي تراب الأردن، مروراً بالخيبات والأمل والعمل والزواج والفقدان، هذه الدولة التي عشت فيها أكثر من ٥٦ عاماً ، ناضلت فيها من أجل وطني وأولادي ونفسي،وتشكلت هويتي ، وبها خرجت بصفوة من الأصدقاء الذين أفخر بصداقاتهم
يحيى رباح صديق الاغتراب والاقتراب
في القاهرة، حيث كانت بدايات الوعي والنضال، تشكّلت بيني وبين يحيى رباح صداقة تجاوزت حدود المعرفة العابرة، لم يكن مجرد رفيق درب، بل كان بوابة لحياتي النضالية، برؤيته الثاقبة وثقته التي لا تُشترى، منحني تزكية للالتحاق بـطلائع الفداء، ومنها بدأت رحلتي التنظيمية، حتى تسلمت منصب أمين سر الحركة، وهي مسؤولية لم أكن لأحملها لولا إيمانه بي، لم تكن تلك اللحظة عابرة في حياتي، خصوصًا أن يحيى رباح لم يكن شخصًا عاديًا؛ بل أصبح لاحقًا سفير فلسطين في اليمن، وقياديًا بارزًا في حركة فتح، ورئيسًا لهيئة التوجيه السياسي، وصوتًا قويًا عبر الإعلام يعبّر عن نبض القضية.
امتدت تلك الصداقة لاحقًا لتصل إلى شقيقه، وكأنها زرعت جذورًا لا تنقطع، لتبقى شاهدة على علاقة بدأت في أرض الغربة، لكنها بقيت تسري في الذاكرة بروح الوطن، والوفاء، والانتماء.
صديق العمر وبيت البداية
بعد انتقالي من مصر إلى الأردن،شاءت الأقدار أن اجتمع مع حسن رباح مرة أخرى، الذي جاء إلى الأردن بحثًا عن الأمان والاستقرار تمامًا كما فعلت، فقررنا أن نستأجر شقة صغيرة في عمّان، وكان ذلك أول بيت أعيش فيه مستقلًا منذ خروجي من مصر عشنا معًا سنوات جميلة، تشاركنا فيها الحلوة والمرة، وكان حسن أكثر من صديق، كان أخًا وسندًا، مرت الأيام، وتزوج كلٌ منا بفترة قريبة من الآخر، لكن الصداقة بيننا بقيت متينة، بل صارت أعمق كان حسن يأتي من عمان إلى بيتي في الزرقاء وكأنه بيته الثاني؛ يستقبل ببشاشة من زوجتي التي كانت تعلم مكانته عندي، فكنا نجلس بالساعات نلعب الطاولة، ونتبادل أطراف الحديث.
لم تكن جلساتنا تمر دون نقاشات حادة حول الشأن الفلسطيني؛ اختلفنا كثيرًا، اتفقنا قليلًا، لكنه اختلاف لم يفسد الود قط ، كان حسن يرى أن حركة فتح كانت على الطريق الصحيح، بينما كنت أحاول أن أذكره بأن الصورة أكبر وأعقد مما تبدو عليه، وأن الأمل لا يُبنى بالشعارات فقط، كنا نتحدث عن قادة السلطة الفلسطينية، عن المدارس التابعة لوكالة الغوث، عن الفساد الذي تسلل إلى بعض المؤسسات، وعن الحلم الكبير الذي لا يغيب: فلسطين.
ومع كل هذا، بقي حسن رباح إلى اليوم صديق العمر؛ ذاك الذي شاركني بداية الاستقرار، وصنع معي ذاكرة مليئة بالمحبة والصدق.
ربحي أبو سارة صديق القلب والكلمة
لم تقتصر أيامي في الأردن على البحث عن العمل والاستقرار فقط، بل كانت مليئة بلقاءات صنعت صداقات لا تزال حية في الذاكرة، من بين هذه الصداقات كانت علاقتي بالشاعر والكاتب ربحي أبو سارة، الذي لم يكن مجرد صديق عابر، بل كان رفيق أيامٍ جميلة، وعقلًا قريبًا من عقلي وقلبًا قريبًا من قلبي.
قضينا معًا لحظات لا تُنسى، مليئة بالأحاديث والضحك والأحلام التي كانت تحلق فوق قيود اللجوء والمنفى ربحي كان يحمل في كلماته فلسطين كلها، وكان شعره صدى لما كنا نحمله في صدورنا من حنين وأمل، بقيت صداقتنا قوية رغم تبدل الأماكن والظروف؛ تعدّت حدود المدن والمنافي، إذ استطاع ربحي لاحقًا العودة إلى الضفة الغربية، حيث أكمل ما بدأه من نضال بالكلمة، حتى وافته المنية هناك، في قلب الأرض التي عشقها وغنّى لها، رغم المسافة، لم تخفت حرارة صداقتنا أبدًا؛ بقي ربحي أبو سارة بالنسبة لي رمزًا لصداقة ولدت في الغربة لكنها انتمت إلى الوطن، وذكرى طيبة كلما مرّ طيفه أمامي، أحسست أن بيننا ما لا تستطيع المسافات ولا السنين أن تمحوه.
عارف سليم صوت الصداقة ورفيق الطريق
في رحلة الاغتراب التي فرضتها علينا ظروف اللجوء، لم يكن سهلاً أن تجد صديقًا تتكئ عليه، يحفظ لك الود مهما طال الغياب أو تبدلت المواقف, وفي هذا الطريق المليء بالتحديات، التقيت بالإعلامي عارف سليم، الذي لم يكن مجرد زميل أو شخص عابر، بل أصبح أخًا في الغربة، ورفيقًا حمل معي هموم الوطن والقضية.
عرفت عارف بروحه الحرة وصوته العالي في الدفاع عن فلسطين واللاجئين، لم يكن الإعلام بالنسبة له مهنة فقط، بل رسالة حملها بصدق وشرف, كنا نلتقي في جلسات طويلة، لا ينقصها الصدق ولا يسودها إلا الاحترام المتبادل، كنا نتبادل الحديث عن أوضاع المخيمات، عن اللاجئين الذين طالت غربتهم، وعن الإعلام كأداة مقاومة يجب أن تبقى حرة ونزيهة.
كنت أجد في عارف صديقًا يسمعك بعقله قبل أذنه، ويناقشك دون أن يحاول أن يفرض عليك رأيًا، بل كان يحترم اختلاف وجهات النظر, كنا نحلم كثيرًا بإطلاق مشاريع إعلامية تخدم قضيتنا، فكنا نتحدث عن ضرورة إنشاء منابر مستقلة تُسمع صوت اللاجئ، وتُبرز الحق الفلسطيني في مواجهة الإعلام الموجَّه, لم تكن علاقتي به مجرد لقاءات عمل أو جلسات عابرة، بل صداقة صقلتها الأيام والمواقف,في بيتي بالزرقاء، لطالما استقبلته زوجتي بترحاب، وكان يجلس كما يجلس الأخ بين أهله، نتبادل أطراف الحديث، نلعب الطاولة أحيانًا ونعود لنقاشاتنا الحامية حول المستقبل المجهول لشعبنا, حتى بعد أن فرقتنا مشاغل الحياة، ظل عارف سليم حاضرًا في القلب. لم تقف الجغرافيا حاجزًا أمام استمرارية هذه الصداقة، بل زادها الغياب تأصلًا في الوجدان.
مع مرور الزمن، أدركت أن بعض العلاقات تبقى رغم كل شيء، لأنها تأسست على الصدق، والنية الطيبة، والإيمان المشترك بأن الكلمة الحرة هي السلاح الأجمل في وجه الظلم.
زمالة نضالية في مدارس الأونروا: نجيب القدومي
خلال فترة عملي في مدارس وكالة الغوث (الأونروا) في الزرقاء، تشرفت بزمالة وصداقة عميقة مع الأستاذ والمناضل نجيب ناجي نجيب القدومي، الذي وُلد في بلدة حطين عام 1943، وانتقل مع عائلته إلى الزرقاء بعد نكبة 1948 .
التحق القدومي بمدارس الأونروا كمعلم في الزرقاء عام 1966، بعد حصوله على شهادة في التاريخ من جامعة دمشق خلال عمله، كان له دور بارز في تأسيس مجموعة كشافة «صلاح الدين»، وساهم في إدارة مراكز إيواء النازحين بعد نكسة 1967 ، علاقتي مع القدومي تجاوزت حدود الزمالة المهنية، حيث جمعتنا اجتماعات دورية لمناقشة قضايا التعليم وانتخابات لجنة المعلمين، التي كان له فيها دور قيادي بارز ، كان الاحترام المتبادل والتفاهم العميق بيننا أساسًا لهذه العلاقة، مما ساهم في تعزيز العمل التربوي والنقابي داخل مدارس الأونروا.
استمرت صداقتنا حتى بعد انتقالنا إلى مجالات عمل مختلفة، وظلت ذكراه حاضرة في ذهني كرمز للالتزام الوطني والتربوي، رحل القدومي في سبتمبر 2024، وشيّع جثمانه في الزرقاء بحضور شخصيات فلسطينية وأردنية بارزة، مما يعكس مكانته الرفيعة في المجتمع .
إلى أن نلتقي في المساء بين الدمى والورود
من داخل محل الألعاب الذي كنت أملكه في الزرقاء، ومن خلف ألوان الورد في محل ابن علي عبد الله، نشأت تلك الصداقة التي لا يمكن أن تُنسى, كان علي وزير تعليم منطقة الزرقاء لمدارس وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ، يعبر باب المحل بين الحين والآخر ليأخذ استراحة صغيرة بعد يوم طويل في العمل, لم نكن نخطط لها، ولكن لقاءاتنا في المساء على طاولات بسيطة، مع فنجان قهوة ودخان من التبغ، أصبحت تقليدًا، علي كان يعرف كيف يجعل الجلسة خفيفة حتى عندما كان الحديث يدور حول قضايا ثقيلة مثل التعليم والواقع الفلسطيني, أيامنا كانت مليئة بالضحك والاختلاف، لكننا كنا نتفق على أكثر من نقطة، ولربما كانت تلك اللحظات من أغنى أيام حياتنا، نناقش فيها سبل التغيير والتطور.
كما تجمعنا أوقات المساء، كان يجمعنا حب مشترك للحديث عن الحياة، وتُكمل الصداقة مسارها كما لو أنها كانت قد كتبت لنا من السماء
من مجلس الشيخ خليل إلى جاهات هذا الزمن
من زمان، مش بس من وقتي، كانت هذه العائللة معروفة بين الناس بإنها وجه خير، ناسها ما بتدخل مشكلة إلا وتحاول تحلها، ولا بيمشوا في جاهة إلا وكانوا دايمًا في أول الصف، وهاي مش شهادة بقولها عن حالي، لكن تاريخ بحكيه، سطر ورا سطر، من أيام جدي الشيخ خليل في اللد، اللي بيته كان بمقام محكمة وملجأ، يقصده الناس من كل مكان، يطلبوا حكمه، ويرضوا بكلمته، يومها ما كان في مكاتب ولا أوراق ولا محامين، كان في رجل حكيم، يجلس على حصيرة أو كراسي بسيطة، يسمع بتمعن، ويقضي بالعدل، كلمته تمشي لأنها كانت نابعة من ضمير صاحي ونيّة صافية، وهاد المجلس هو اللي ربى عليه أبوي، الشيخ رمزي، اللي كان معروف بعد إنه صاحب وجه وكلمة، وكل الناس تعرفه وتثق فيه، كبرت وأنا أشوف أبوي كيف الناس تقصده، مش بس أقاربه، حتى الغريب يطرق بابه، والكل يعرف إنه ما بيخذل حدا، وكنت أسمع حكايات الجاهات والصلحات، وكيف كانت الناس تقول: «إذا الشيخ رمزي جاك، فهذا وجه الصُلح»، ومن دون ما أحس، لقيت حالي بمشي نفس الطريق، شوي شوي صرت أُطلب للجاهات، وأدخل بمجالس الصلح، والناس تحكي: «خلي أبو رمزي يجي معنا، بيفتح الله عليه»، وكنت دايمًا أعتبر هالشي مش وجاهة شخصية، بل مسؤولية وبقايا ميراث عظيم من رجال أفنوا عمرهم في خدمة الناس.
وبين كل هاي اللحظات اللي فيها جدية ومواقف تحتاج عقل راجح، صار معي موقف ما بنساه، وفيه نكهة من الطرافة، كنا رايحين بجاهة كبيرة، وأنا اللي لازم أحكي باسم الجاهة، العريس نسى يذكرني باسم والد العروس وأنا اعتمدت عليه، لما وقفت أتكلم، وصلت للجزء الحساس: وجينا نطلب بنتكم الكريمة، من والدها، الرجل الفاضل «المعروف اللي الكل يشهدله» وهون عقلي وقف الاسم طار، كل الوجوه تطلع عليّ، وأنا بتسم وأكمل بثقة كأن الأمور مرتبة: «الرجل اللي ما بدّه تعريف وسيرته سابقة اسمه!»
بعدها، الكل ضحك، والجاهة تمت، والحمد لله، بس من يومها تعلمت أكتب الأسماء بورقة، وأخليها بجيبي، حتى لو كنت حافظهم!
لكن جوهر القصة ليس هنا بل جوهرها أن الناس ما زالت تعرف قيمة الكلمة الطيبة، والموقف الذي فيه نية إصلاح، وتحب الرجل الذي يمشي على خُطى جدوده، ليس طمعًا بمديح، بل لأنه تربّى هكذا.
الانتخابات: بين المظاهر والواقع
في الأردن، حيث التعددية الحزبية والديمقراطية تُمثل جزءًا من هوية الشعب الأردني، كنت أعيش تجربة فريدة عندما قدمني أحد الأصدقاء المقربين لتولي إدارة حملة انتخابية لأحد المرشحين في أول تجربة له في هذا المجال، كنت في منتصف العمر حينها، أتلمس خطواتي في هذا المعترك السياسي الواسع، ولم أكن أعرف بعد أن هذا العالم ليس كما يبدو على السطح، بل هو عالم معقد مليء بالأسرار والخبايا التي تُحاك بعيدًا عن أعين العامة، كنت أظن أن الانتخابات هي تعبير حقيقي عن إرادة الشعب واختيار قادته، لكن ما اكتشفته كان شيئًا ،. عرفت سريعًا أن ما نشهده من «أعراس انتخابية» ليست سوى مظاهر فارغة، وأن وراء الستار تجري المساومات السياسية والتفاهمات المظلمة بين القوى الفاعلة، هنا في الغرف المغلقة، تُصنع القرارات الكبرى، وتُدبر الصفقات، ويُدار التنافس بأدوات أخرى بعيدًا عن إرادة الشعب، الغلبة في هذه المعركة ليست دائمًا للمرشح الأكثر قدرة على إقناع الجمهور أو الأكثر شعبية، بل هي لمن يملك القدرة على ملء البطون والجيوب، ليحقق في النهاية الولاء والتأييد من قبل جمهور قد لا يعرف حتى من هو مرشحه.
لم أكن حينها أعي تمامًا أن هذه التجربة التي خضتها ستكون بمثابة دروس قاسية لفهم كيف تُدار الأمور في السياسة فكل شيء فيها يُظهر للعيان مظاهر الاحتفالات والاحتشاد الشعبي، بينما في الواقع، المال هو الذي يلعب الدور الأكبر، المناسف المنتشرة، والملاعب التي تزينها الوجبات السريعة والحلويات، عبوات المشروبات الغازية التي تُوزع بالمجان، قطع الحلوى التي تُلقَى للأطفال، هي التفاصيل الصغيرة التي تجعل الناس يعتقدون أنهم يعيشون في حدث مهم، بينما الحقيقة هي تبذير للأموال، استغلال لضعف الناس، وتكرار نفس اللعبة المكررة التي يراهن عليها السياسيون لشراء أصوات المواطنين.
في النهاية، ما شهدته كان بمثابة إضاءة على التفاوت الكبير بين المظهر والجوهر في عالم السياسة، فكم من انتخابات كانت في الحقيقة مهزلة سياسية، يتم فيها شراء الولاءات، وتوزيع الهدايا على حساب مستقبل الشعب، الجماهير تصبح في هذه اللعبة مجرد أدوات، تُستخدم وتُستغل لتبرير الممارسات غير الأخلاقية التي لا تخدم مصالحهم ولا تحقق تطلعاتهم الحقيقية.
التحدي الكبير: ترك التدخين
من أعظم الإنجازات التي أفخر بها في حياتي هو محاربتني لعادة التدخين، التي لا تتناسب مع قيم ديننا الحنيف. كانت بداية القصة في جلسة مسائية مع الأصدقاء أمام مكتبة «حنان» في الزرقاء، حيث كنا نتسامر ونتبادل الحديث كالعادة وفجأة، ودون أي مقدمات، دخل علينا محمد المعراوي صاحب المكتبة وقال: «من منكم الرجل الذي يترك التدخين فورًا؟»، وكأنها دعوة للتحدي، فما كان منا إلا أن ألقينا جميعًا علب السجائر وتعاهدنا على عدم العودة إليها أبدًا، وكان التحدي الأكبر هو ألا يعود أي منا إلى التدخين، وإلا فهو ليس «رجلًا» بالمعنى الحقيقي, مرت أيامٌ قليلة، وكنت متمسكًا بهذا العهد، لكن في اليوم التالي، عندما عدت إلى المكتبة، فوجئت بصديق لي يحمل سيجارة في يده، يعترف بأنه لم يستطع الجلوس بدونها ليلة واحدة وكان هذا درسًا مهمًا لي في كيفية التزام الإرادة، بعدها جاء صاحب المكتب مجددًا مع أرجيلة، وقال مازحًا: «الاتفاق كان على السجائر وليس الأراجيل»، فشارك بها صديق آخر كان يملك محلاً للأشرطة في تلك الفترة، لكنني ثابرت على قراري، وظللت بعيدًا عن هذه العادة السيئة.
أعترف أنني في البداية حاولت إشغال تفكيري عن التدخين، فاستبدلت السيجارة بـ الفول السوداني، وأصبحت هذه عادة صحية جديدة أخذت مكان التدخين وأنا اليوم، عندما ألتقي بأصدقائي المدخنين، أذكر لهم دائمًا هذه القصة وأحثهم على الإقلاع عن التدخين، الذي لا يعود على الإنسان إلا بالضرر على الصحة والمال.
رسائل ونصائح
أتذكر جيدًا كيف كنت أذهب في منتصف الليل أبحث عن علبة سجائر في المحلات التجارية، وكان الأمر في غاية الصعوبة بالنسبة لي، حتى أنني أحيانًا كنت أجد نفسي مترددًا في شراء دواء لأطفالي، بينما كنت أستسلم لهذه العادة. التدخين يمكن أن يمتلك الشخص ويسيطر عليه، إلا أنني تغلبت على هذا الشعور وأصبحت أكثر قوة في إرادتي.
ونصيحتي لكل من يريد الإقلاع عن التدخين: ابتعد عن رفقاء السوء الذين قد يعيدونك إلى هذه العادة المدمرة، وإذا قدم لك أحدهم سيجارة، لا تقل أنك قد «أقلعت عنها» بل قل ببساطة «أنا لا أدخن»، لأن هذا هو الطريق الأصح. عفى الله عنا جميعًا، وهدانا إلى ما يرضي الرحمن، فالتدخين ليس فقط عادة سيئة تضر بالصحة، بل هي تحدٍ كبير للنفس وللإيمان، ولابد لنا من التخلص منها نهائيًا.
«طبق الفول» ذاكرة تغلي على نار هادئة
هناك في زاوية من زوايا ذاكرتي، يعيش طبق الفول كأنه باب سرّي، كلما فتحته عدتُ إلى نفسي، لم يكن طبق الفول في حياتي مجرّد وجبة أُعدّها لأملأ بها المعدة، بل كان لحظة مقدّسة، سرّ صغير بيني وبين نفسي، يشبه حكاية تُروى على نار هادئة، كنت أنتظره كل أسبوع وكأنه موعد عزيز لا يمكن تفويته. ربما لأنني لم أكن أطبخ كثيرًا، أو ربما لأن هذا الطبق بالتحديد يحمل شيئًا خاصًا شيئًا لا يُقال، بل يُشعر، كنت أبدأ بإخراج الفول من مكانه بعناية، وكأنني أتعامل مع كائنات صغيرة لها روح، أنقعها في الماء ليلًا، فأراقبها تنتفخ بهدوء، كما لو أنها تتنفس وتستعد للولادة الجديدة مع ضوء الصباح، كنت أستمتع بكل التفاصيل نعم، كل التفاصيل، من الصوت الخفيف لحبوب الفول وهي تصطدم بجدار الوعاء، إلى رائحة الثوم التي أفرمها قبل أن يبدأ الغليان، كنت أعيش لحظة الطبخ بكامل حواسي، وكأنني أكتب قصيدة بالملاعق، لا بالحبر.
عندما تبدأ الرائحة بالتصاعد من القدر، أغمض عينيّ قليلًا، هناك ذاكرة تُفتح وحدها، لا أعرف لماذا، لكن في تلك اللحظة بالضبط، أشعر وكأن شيئًا قديمًا بداخلي يستيقظ، ربما تذكّرت صباحات البيت الأول، أو أمي وهي تُقلب الفول في قدرٍ كبير بضحكتها، أو ربما هو مجرد شعور بالانتماء لشيء لا أستطيع تفسيره، وكل ما في الفول كان يخصّني القِوام الذي أحبّه، التوابل التي أضعها دون ميزان، الزيت الذي أختار أن أُغرق به الوجه، الفلفل الحار الذي يُشعل اللسان لكن يُنعش القلب. وحتى الخبز الذي أُحمّصه على الغاز، كنت أتعمد أن أترك طرفه يحترق قليلًا، ليُضيف نكهة «البيت القديم» كما كنت أُسميها، أما لحظة التقديم فكانت لحظة عشق، كنت أضع الطبق على الطاولة وكأني أقدّم لوحة فنية، وكل من كان يأكل معي، كان يعرف أن هذا الفول ليس عادياً، لأنه مطبوخ بشيء من الروح، من القلب، من الذكريات، كنت أراقب ردود الأفعال، نظرات الرضا، والابتسامات المليئة بالدَهشة، وأشعر بنوع غريب من الفخر ليس فخرًا بطبقٍ فقط، بل فخرًا بقدرتي على خلق لحظة دفء من أبسط المكوّنات.
ويا ما صار هذا الفول ضيفًا في سفرتنا، أو بداية ليوم جمعة هادئ، أو حتى عزاءً في لحظة حزن في كل مرة، كان يحمل طعمًا مختلفًا، لأن الشعور الذي كنت أطبخ فيه، كان يغيّر النكهة.
الخط العربي: عشق واحتراف
كان للخط العربي في حياتي قصة عشق عميقة، شغف بدأ منذ الصغر، حيث كان يعادل العزف على العود في متعته وتأثيره، فكما كنت أجد راحتي في إيقاعات العود، كنت أيضًا أجد نفسي في أشكال الحروف العربية، أتأمل خطوطها وهي تنساب على الورق وكأنها موسيقى صامتة، ولعل ما جعل هذا العشق أكثر ارتباطًا بجذوري هو الشيخ حماد، الجد الأكبر الذي كان خطاطًا للمصاحف، فأخذت منه جينات الخط العربي، التي أصبحت جزءًا من كياني وروحي.
خلال مسيرتي، لم يكن الخط مجرد هواية أو موهبة أتمتع بها فحسب، بل كان مبدأ كنت أؤمن به بشدة، ففي أوقات فراغي، بجانب وظيفتي، كنت أُعلم الخط العربي لرواد مسجد أبو قاعود في الزرقاء، كنت أبدأ معهم بأساسيات الخط، أشرح لهم كيفية رسم الخطوط العربية بالرقعة وغيرها من الأنواع، موجهًا لهم دروسًا قيمة تمنحهم مهارات تسهم في تحسين خطهم وتجعل حروفهم أكثر وضوحًا وجمالًا، كنت وما زلت أؤمن بشدة أن الخط المرتب ليس فقط عنصراً جمالياً، بل هو أيضًا أساس من أسس الحياة، فاللغة السليمة والخط الجيد هما أداتان أساسيتان لبناء الشخصية، فهما يعكسان الترتيب والانضباط في حياة الإنسان، ويمنحانه القدرة على التواصل الفعال مع الآخرين، كما أن تعلم الخط ليس مجرد فن، بل هو نوع من التحكم الداخلي، حيث يتحكم الكاتب في كل حركة لقلمه، ويضبط كل حرف ليشكل لوحة فنية منسقة، تشهد على دقة وتفكير الكاتب.
فترة التقاعد
بعد مسيرة استمرت نحو ثلاثين عامًا في مجال التعليم، قدّمت من خلالها جيلًا ناضجًا ومدركًا لقضيتنا الفلسطينية كانت رسالتي في الحياة أن أغرس في كل طالب حب الوطن والانتماء لفلسطين، وكأنهم أبنائي في لحظات غضبي، كان ذلك شعور الأب الذي يتمنى لأبنائه الخير، وفي لحظات ابتسامتي، كانت تلك ابتسامة الوالد الذي يرى فيهم الأمل والمستقبل هؤلاء الطلاب كانوا مصدر إلهامي، لأنهم كانوا يحملون في قلوبهم شعلة التحرير .
العمل التربوي بين وكالة الغوث والمدارس الخاصة
بدأت رحلتي التربوية مديرًا في مدارس وكالة الغوث في مخيم شلنر ومخيم حطين وفي الزرقاء، حيث حملت على عاتقي مسؤولية بناء جيل فلسطيني يُفتخر به كنت حريصًا على أن تظل مصلحة الطلبة فوق كل اعتبار، فعملت على تحفيز الهيئات التدريسية، وشحذ هممهم نحو البذل والعطاء، وخلق بيئة تعليمية تُشجع على التميز والانتماء.
ومن خلال هذا النهج، كوّنت سمعة طيبة داخل وكالة الغوث كمدير تربوي ناجح ومؤثر، الأمر الذي فتح لي أبوابًا جديدة في القطاع التعليمي الخاص تم اختياري من قبل مدارس أكسفورد كمدير لمدارس الذكور، لكن تعييني وُوجه باعتراض من وزارة التربية والتعليم بسبب عدم حملي للرقم الوطني، مما يمنع رسميًا من تقلد منصب «مدير» رغم ذلك، تم تعييني بوظيفة «مساعد المدير العام لمدارس أكسفورد»، تقديرًا لكفاءتي وخبرتي، وكانت تلك تجربة مختلفة تمامًا عن كل ما مررت به في السابق وجدتها عالمًا مليئًا بالتحديات والمفارقات، كنت معتادًا على طلاب نشأوا في المخيمات أو في مناطق تعيش ظروفًا اقتصادية صعبة، بينما في المدارس الخاصة، صادفت طلابًا يحملون مبالغ كبيرة من المال - هذا الموقف كان لي بمثابة صدمة، عندما كنت أراهم يظهرون أموالهم أمام زملائهم، كنت أتساءل من أين لهم هذا؟ فكنت أتصل مباشرة بأولياء أمورهم، أتأكد إذا كانت هذه الأموال من مصدر مشروع، كانت المفاجأة في كل مرة أن الآباء هم من يمنحون أبنائهم هذه المبالغ دون أن يكون هنالك سؤال هذا الموقف عكس لي تباينًا غريبًا بين ما اعتدت عليه في الماضي وما أعيشه في هذا الحاضر, كانت المدارس الخاصة بالنسبة لي عالمًا مغايرًا تمامًا، كنت أتعامل مع طلاب ينتمون إلى أسر ميسورة الحال، بينما في الماضي، كان طلابي في أغلبهم من الأحياء الفقيرة أو من المخيمات، وأي مبلغ إضافي كان يشير عادة إلى القلق والشبهات. هذه المفارقة كانت تفتح لي آفاقًا جديدة من التفكير في معنى النجاح في التعليم وأثره على الأجيال.
لاحقًا، توليت مهام الإشراف التربوي في عدة مؤسسات تعليمية مرموقة، من بينها مدارس الزرقاء الحديثة، ومدارس عمر بن الخطاب، ومدارس أحد الخاصة، كنت أحرص في كل منها على أن أترك أثرًا واضحًا، سواء من خلال تطوير الأداء التعليمي، أو إعادة إحياء الروح المهنية داخل كوادر التدريس, لكن، وبالرغم من الجهود المستمرة، كانت هناك مرارة في التجربة فقد بدا واضحًا أن التعليم في بعض المدارس الخاصة قد انزلق تدريجيًا نحو منطق السوق، حيث تحوّل إلى سلعة تُباع وتُشترى، ولم يعد يُعامل كرسالة مقدسة كثير من أولياء الأمور لم يعودوا يولون العملية التعليمية الاهتمام الذي كانت تحظى به سابقًا، أما دور المعلم، فقد غدا غائمًا ومربكًا، تحت وطأة التدخلات الإدارية التي تتعارض أحيانًا مع المبادئ التربوية. كان من المؤلم أن أرى شعور الانتماء للمهنة يتراجع، وسط بيئة لا تتيح للمعلم أن يكون المعلم.
هذا الوعي جعلني أوجه رسالة لكل معلم على رأس عمله: اتقوا الله في رزقكم وفي طلابكم لأن مهنة التعليم هي الشمعة التي تضيء الطريق للأجيال القادمة، وهي المهنة التي تحدد مصير الأمة ومستقبلها،
وبعد أن قررت الابتعاد عن ميدان التعليم، وكنت قد تسلمت مبلغ التقاعد، شعرت بأن الوقت قد حان لمرحلة جديدة، فقررت أن أستثمره في مشاريع خاصة، أبحث فيها عن مصدر رزق، وأضع أساسًا يمكن لأبنائي البناء عليه، أكملت بناء المنزل ومن ثم أنشأت مطبعة، ثم شركة لتوزيع القرطاسية، وبعدها متجرًا لبيع اللحوم المجمدة وفي كل مرة، كنت أُسلم المشروع لأحد أبنائي، رغبةً مني في أن يتعلموا، ويقودوا طريقهم بأنفسهم، لكن، وبالرغم من الحماس والعمل، لم تكن النتائج كما تمنّيت غابت الخبرة، وتعثرت الخطوات، وتكبدنا خسائر مادية متتالية، أدت في النهاية إلى إغلاق جميع المشاريع، ورغم ذلك، لا أنظر إلى التجربة على أنها فشل، بل أراها درسًا ثمينًا، وتجربة حياتية صنعت منهم رجالًا أقوياء، تعلّموا من أرض الواقع، ونضجوا مبكرًا، قد خسرنا رأس المال، لكننا ربحنا ما هو أثمن: الوعي، والخبرة، وروح المبادرة، ولذا، ما زلت أؤمن أن أعظم استثمار في حياتي كان في أبنائي.
من القصص التي ما زلت أحتفظ بها في ذاكرتي، رغم مرور السنين، حكاية كان يرويها كبار السن في حارتنا بفلسطين. كانوا يتحدثون بإعجاب ودهشة عن تاجر يهودي معروف في السوق، كانت الحكومة البريطانية في زمن الانتداب تعلن مناقصات لتوريد البيض للمعسكرات، والعجيب أن المناقصة كانت دائمًا ترسو على هذا التاجر، سنة بعد سنة، رغم أن الظاهر يقول إنه «خسران».
كنا نسمع كيف أن باقي التجار كانوا يتحيّرون، يجلسون يحسبون التكاليف والأسعار، ويقارنون العروض، وفي النهاية يتأكدون أن العرض الذي قدمه التاجر اليهودي لا يمكن يربّح أحد! ومع هيك، يواصل الرجل تقديم عرضه كل سنة، ويأخذ الصفقة من دون ملل أو انسحاب، وبعد سنوات طويلة، وبعد أن شاخ التاجر وقرّر العودة إلى بلده، اجتمع به بعض التجار وسألوه بصراحة: «ليش كنت مصمم توخذ المناقصة كل سنة وأنت خسران؟» ابتسم الرجل وقال بهدوء: «أنا ما كنت أخسر. كنت أربح، بس الربح الحقيقي مش بالسعر الظاهر» أنا كنت أطلب من الجنود في المطبخ إنهم ما يرموا كراتين البيض، وأرجّعها على المخزن، وأعيد استخدامها بدل ما أشتري كراتين جديدة كل مرة. وهيك كنت أوفّر كلفة التغليف، وهذا كان هامش الربح اللي ولا واحد فيكم شافه.
ضحكوا وقتها، لكن بقيت كلماته عالقة في ذهني حتى اليوم: «أي تجارة، فيها سر، وفيها لغز، ومش كل شي بيبان على الورق».
صباح ودفاتر الحلم الأول
لم تكن صباح مجرّد رفيقة درب، بل كانت الحلم وهو يكبر في الظل، كانت ترى ما لا أراه، وتؤمن بما لم أكن أملك له يقينًا بعد، دخلت الحياة الزوجية بوجه بشوش، وصبر لا يشبه إلا صبر الأمهات، وحلم واحد كان يسكن قلبها: أن نبني بيتًا. لم يكن بيتًا فقط من حجر، بل بيتًا من كرامة، من دفء، من استقلال.
منذ أيامنا الأولى في الزرقاء، بدأت صباح بالانضمام إلى الجمعيات النسائية؛ تلك التي كانت النساء يجتمعن فيها ويتشاركن القليل ليوفّرن الكثير، كانت تدخل جمعية، وتنضم لأخرى، وتدوّن مواعيد السداد والتحصيل في دفتر صغير، تحفظ فيه التفاصيل كما تحفظ الأمهات مواعيد الرضاعة والنوم، كل قرش كانت تدّخره، كانت تراه طوبة في بيتنا المستقبلي، لم نكن نملك إلا القليل، ولكن مع صباح، هذا القليل كان يفيض، كنت أراها تضع المال في ظرف صغير، تفتح الدرج، وتتمتم: «هاد للبيت» لا أدري كيف، ولكن المال في يدها كان يبارَك، يزيد ولا ينقص، كما لو أن الله يضع فيه بركة لا تُرى، لكنها تُثمر، وبعد أعوام من المثابرة والإصرار، نجحنا«بفضل الله ثم بعزيمتها» في شراء قطعة أرض في جبل حمزة، كانت لحظة امتلاك الأرض لحظة انتصار، لا لثروة جُمعت، بل لحلم نبت من عرقها ومن صبرها الطويل، لم تطلب يومًا شيئًا لنفسها، ولم تفكر بأن تصرف المال على رفاهية أو زينة، كانت تؤمن أن البيت هو تاج المرأة الحقيقي، وهو الحصن الذي يحمي الأبناء في قادم الأيام، صباح لم تكن فقط «الزوجة»، كانت «الدافع»، وكانت «الدعامة»، وكانت وقود أول خطوة في كل انطلاقة. كل مرة كنت أتردد أو أضعف، كانت هي من يشعل الشمعة الأولى، وتمدّ لي يدًا من حكمة، لا من تسرّع. كانت تؤمن بي أكثر مما كنت أنا أؤمن بنفسي، وعلّمتني أن الحياة لا تُبنى بالعاطفة وحدها، بل بالإصرار، والاقتصاد، والتدبير.
وكلما نظرت اليوم إلى ذلك البيت، لا أراه جدارًا وسقفًا بل أراه ترجمة لصبرها، ووثيقة حُبها لنا جميعًا، لبناتها وأولادها، ولعائلتنا اللي كبرت على حجرٍ من كفّيها.
من الزقاق إلى الزاوية الرحبة حكاية بيت جبل حمزة
كان بيتنا الأول في الزرقاء أقرب إلى خزانة عمرٍ من أن يكون بيتًا. شقة صغيرة بالكاد تتّسع لنا، غرفتها ضيّقة، وسقفها منخفض كأنّه يخاف أن يعلو على أحلامنا. ومع كل مولود جديد، كنا نعيد ترتيب الأثاث، ونُزاحم الجدران لنصنع مساحة لحياة تتّسع بالحب لا بالمتر. كنا نضحك، ونبكي، وننام، ونأكل، ونحلم، كلنا في مساحة واحدة. لكنّنا لم نشكُ يومًا لأن صباح كانت دائمًا تقول: «البيت مش وسع، البيت قلوب»
ثم جاء يوم، لم يكن عادياً، اشترينا قطعة الأرض لم نكن نملك كل المال، لكننا امتلكنا العزيمة، والتوكل، ودفتر صباح اللي كله حسابات جمعيات وأمل بدأ البناء، خطوة بخطوة، حجرًا فوق حجر، وتنهيدة وراء تنهيدة كنت أذهب كل يوم إلى موقع الأرض وأشاهد كيف يكبر الحلم، كيف يبدأ البيت يستوي أمامي كأنه ولد من رحم التعب.
بناء منزل الأحلام
بعد ربع قرن من العمل في مدارس الغوث، استطعت أن أحقق حلمًا طالما راودني، فبنيت منزلي في جبل الأمير حمزة في الزرقاء. كان هذا المنزل بمثابة أمل جديد بعد سنوات طويلة من العمل الشاق، والعسر، والظروف الصعبة. كانت رحلة بناء هذا المنزل تجربة مليئة بالتحديات، فقد رفعت أعمدة البناء حجرًا حجرًا، وصبرت وتحملت، ولكن شعوري بالراحة والطمأنينة عندما انتقلنا إليه كان لا يُوصف. كان وكأنه قصرًا بالنسبة لي، كونه أول منزل لي، وأول منزل يجتمع فيه أولادي تحت سقف واحد.
أذكر في أحد الأيام، في وقت من الأوقات الذي كنت أشعر فيه باليأس وضيق الحال، أنني كنت أحتاج مبلغًا من المال لإكمال البناء وكنت أفكر في اقتراضه، لكن سبحان الله، كانت مشيئة الله أن تتعطل سيارتي أمام أحد معارض السيارات فجاءني صاحب المعرض فجأة وعرض عليّ بيع السيارة كانت تلك لحظة مدهشة، حيث أن الله سخر لي سببًا آخر للخروج من هذه المحنة، كانت هذه اللحظة بمثابة تذكير لي بأن الله هو مسبب الأسباب، وقدرته فوق كل شيء.
مرت شهور، وارتفع الطابق الأول، فالثاني، فغرف الأطفال، ثم المطبخ الذي لطالما تمنت صباح أن يكون واسعًا تُعد فيه وجباتها لأولادها دون أن تضطر أن تزيح طنجرة لتضع أخرى ثم جاء يوم الانتقال، كان يوماً مشبعاً بالمشاعر، كأننا نغادر قوقعة ضيقة إلى فضاء مفتوح. أول ليلة في بيت جبل حمزة كانت صامتة لا لأننا لا نريد الحديث، بل لأننا لا نعرف كيف نُعبّر عن فرحتنا. الأولاد كانوا يركضون من غرفة إلى غرفة، يكتشفون النوافذ، والضوء، والمساحة. كأنهم خرجوا من علبة صغيرة إلى ساحة لا نهاية لها، في ذلك البيت، كبرت أحلامنا، وترعرع أولادنا، وصار لنا جيران وأصدقاء، وأصبح العيد له نكهة، والجمعة لها طقس خاص، والمساء له أنس لا يشبه ما قبله. كان بيت جبل حمزة، أول «براح» نملكه بأيدينا مكان جمع العائلة، وشهد على لحظات النجاح، والمرض، والفرح، والحزن. لم يكن بيتًا فقط، بل فصلًا كاملًا من فصول حياتنا، كتبناه نحن، بكدّنا، وعرقنا، وصبرنا.
وكانت صباح، كعادتها، أول من فتح الباب، وأول من سجد شكرًا، وأول من علّق الستارة الأولى، مع مرور الوقت، وانتقالنا إلى منزلنا في جبل حمزة، توالت الإنجازات فكبر الأطفال وكان منهم من أنهى دراسته الجامعية ومنهم من بقي على مقاعد الدراسة فكان نصيب أبنائي، رأفت ورمزي بحكم أنهم تخرجوا وعملوا بشركات فما كان منهم إلا أن قاموا ببناء الطابقين الثاني والثالث ليكونا مقرًا لهم ولإيجار الشقق كمصدر دخل إضافي، كانت فكرة الانتقال للسكن في هذا المنزل بمثابة خطوة حذرة في البداية، حيث كانت حياتي متشابكة بالأصدقاء والعادات في مكاننا القديم لكن بحمد الله، استطعت تكوين صداقات جديدة في المسجد القريب من منزلنا الجديد، وكان لهذه الفترة طابع هادئ، مليء بالطمأنينة.
«ثمرات عمري» حين أزهرت الأيام
هناك لحظات في حياة الإنسان، لا تُقاس بالوقت ولا تُحكى بالكلمات، بل تُعاش كأنها فصلٌ من روايةٍ كُتبت بدم القلب. لحظات أُدرك فيها أن كل تعب السنين، كل سهرٍ، وكل قلقٍ، وكل دعوةٍ في جوف الليل، لم يذهب سدى بل تحوّل، مع الأيام، إلى ثمر ناضج إلى أبنائي.
أجلس أحيانًا وحدي، وأستعيد في ذاكرتي صورة رمزي، ابني البكر، وهو يذهب إلى جامعة مؤتة ليدرس الكيمياء. كان شابًا متحمساً، يحمل بداخله نارًا من الطموح لم يكن يتذمّر من الصعاب، بل كان يواجهها كأنها تمارين إضافية في معمل الحياة واليوم، حين أسمع الناس يذكرون اسمه كمدير إقليمي لشركة عالمية، أشعر أن قلبي ينتصب واقفًا من الفخر، ليس فقط لأنه وصل، بل لأنه سار المسافة كلها بخطواته وحده، دون أن يطلب شيئًا سوى الدعاء.
ورأفت، ذاك الفتى الذكي الذي كان محباً للقراءة ، والمتميز في علاماته منذ صغره، درس علم الحاسوب في جامعة اليرموك، وتدرّب في أرقى الشركات الأردنية، لكنه لم يقف هناك، اختار أن يؤمن بنفسه أكثر، أن يؤسس عمله الخاص، أن يصنع اسمه بيده، وكم أنا فخور بذلك، ليس لأنه نجح فقط، بل لأنه اختار الطريق الأصعب، وسار فيه بثقة.
رشاد، الذي اختار علم المساحة، وسرعان ما حمل حقيبته واتجه نحو السعودية لم يكن الرحيل سهلًا، لكنه كان مستعدًا، سنوات قليلة كانت كافية ليضع اسمه بين الناجحين هناك، في الميدان تحت شمس الخليج الحارقة، أثبت نفسه بكل صبر وثبات.وكلما تواصل معي، أسمع في صوته رجولة ابنٍ أصبح رجلًا يُعتمد عليه.
أما رضا، أصغرهم، فله قصة مختلفة، حين قرر أن يبتعد عن التعليم وأعدته إليه بعد عامين على مقاعد الدراسة، كان موهوباً منذ طفولته، له عين ترى الجمال في كل شيء، درس التصميم الجرافيكي، وشق طريقه في البحرين بعيدًا عن أهله وأخوته، لكنه لم يكن يومًا بعيدًا عن قلبي، أسس عمله الخاص بصمت، لم يطلب شيئًا إلا فرصة، وصنع منها حُلمًا، حين أرى تصاميمه أو أسمع عن إنجازاته، أبتسم ليس فقط لأنه أبدع، بل لأنه لم يسمح لصِغَر سنه أن يمنعه من الحلم الكبير.
في كل واحد منهم أرى جزءًا مني، امتدادًا لحكايتي، وإجابة لكل سؤال سألته لنفسي في الليالي الصعبة: «هل سيكبرون ويكونون بخير؟». والجواب كان أكبر من بخير لقد أصبحوا أعمدة، رجالًا يُعتدّ بهم.
«بناتي» النور الذي أضاء قلبي
إنّ الحديث عن الأبناء يملأ القلب اعتزازًا، لكنّ الحديث عن البنات هو حديث الروح، هنّ النعمة الهادئة، الضحكة التي تُضيء البيت دون صوت، الحنان الذي لا يُطلب، بل يُمنح طوعًا بناتي الثلاث لكل واحدة منهن حكاية، ولكل حكاية مكان محفوظ في قلبي لا يزاحمه فيه أحد.
ربا ابنتي الكبرى، كانت دائمًا تُشبه أمّها في الطباع، وفي الحنان الذي يسبق الكلمات، اختارت دراسة الرسم الهندسي، وكأنها كانت تبني مستقبلها بريشةٍ دقيقة، ترسم الأحلام كما ترسم الخطوط، لم تكن فقط طالبةً مجتهدة، بل كانت مثالًا للهدوء والإصرار كنت أراها تنكبّ على أوراقها، تُنهي تفاصيل المخططات بتركيزٍ من يرى في كل خط قصة. وقد فعلت صنعت لنفسها مسارًا خاصًا، وأثبتت أن البنت، حين تؤمن بذاتها، تبني كما يبني المهندس أعظم الجسور.
أما رولا!! رولا الحنونة الجميلة، الحلم الذي مشى على الأرض بابتسامةٍ لا تُنسى، كانت تمتلك من الطموح ما يفوق عمرها، درست اللغة الإنجليزية بشغفٍ عظيم، ولم تكتفِ بالبكالوريوس، بل أكملت الماجستير وهي زوجة، كانت توازن بين البيت والدراسة، وكأنها تمشي على خيطٍ رفيع لا يهتز لكن الحياة، بقسوتها التي لا نستوعبها، باغتتنا جميعًا أُصيبت رولا باللوكيميا، بعد فترة من زواجها، قاومت بابتسامتها أولًا، وبإيمانها ثانيًا، وبحبّنا الذي أحاطها من كل الجهات. لم تكن تبكي، بل كانت تُخفّف عنا، وعندما رحلت تركت فينا فراغًا لا يُملأ، وذكرى لا تغيب، كلما نطقتُ اسمها شعرتُ أن الهواء صار أثقل، لكن قلبي رغم الحزن، مملوءٌ بالفخر بها عاشت قليلةً، لكنها عاشت كبيرةً، كنجمةٍ مرّت بسرعة لكنها أضاءت ليلنا طويلًا.
ثم رنا، آخر العنقود، ضحكة البيت التي ما زالت تحتفظ بروح الطفلة حتى بعد أن أصبحت امرأة اختارت الجيولوجيا، علّها تفهم أعماق الأرض كما فهمت أعماقنا كانت فتاةً عملية، تعرف ما تريد، وتذهب إليه دون تردّد درست وتخرّجت، ثم تزوّجت سريعًا، وكأنها كانت تنتظر فصلًا جديدًا من حياتها لتبدأه بثقة وفي قلبها دائمًا، كانت تحمل قطعة من كل فردٍ في العائلة الطموح، والعقل، والحب، والبهجة.
بناتي هنّ مرآتي حين أريد أن أرى الجانب الحنون فيّ، هنّ الدفء حين تبرد الحياة، والصوت الذي يُغنّي في داخلي حتى وإنْ صمتت الدنيا، في ربا أرى التصميم، في رولا أرى الطُهر، وفي رنا أرى الحياة وهي تُكمل طريقها دون أن تلتفت.
مرض رولا بالسرطان
كان لخبر تشخيص مرض ابنتي رولا وقعٌ كالصاعقة على قلوبنا جميعاً، فكانت من أصعب اللحظات التي مرّت في حياتي. رولا، التي كانت متزوجة ولديها ثلاث بنات وولد وحيد لم يكمل عامه الثالث، عاشت أياماً مليئة بالأمل والمشاعر الجميلة. ولكن كما تعلمنا في هذه الحياة، لا شيء ثابتاً، وقد باغتها المرض الخبيث، الذي جاء ليقلب حياتنا رأساً على عقب، بدأنا رحلة العلاج في المملكة العربية السعودية، حيث انتقلت رولا مع عائلتها إلى المدينة المنورة، في محاولة يائسة للبحث عن علاج. كانت الظروف في تلك الفترة قاسية، والأمل يكاد يتلاشى مع مرور الوقت، إلا أننا كنا نؤمن بأن الله وحده هو القادر على التغيير. ولكن، كما كانت تجري الأمور في مسارها المحتوم، قررنا العودة إلى الأردن لتكون بالقرب منا في تلك اللحظات العصيبة.
دخلت مركز الحسين للسرطان في الأردن، وبدأت العلاج الكيماوي الذي كان أكثر قسوة من المرض نفسه، كان الألم يرافقها في كل لحظة، وأنا أراها تخضع لكل مرحلة من العلاج، لكننا كنا جميعاً نعلم أن الأمل في الشفاء أصبح ضئيلاً رغم ذلك، بقيت رولا صامدة، ثابتة، لكنها كانت تجهز قلبها للقاء الله ومع مرور الأيام، بدأنا نستسلم للقدر، وكلنا إيمان بأن ما اختاره الله لها كان الأفضل وكلما نظرت في عينيها، كنت أرى فيهم الكثير من القوة والإيمان، وكأنها كانت تطمئننا بأن ما حدث كان جزءاً من خطة الله العظيمة.
رحلت رولا عن الدنيا، ولكن ذكراها لا تزال حية في قلوبنا رحمها الله وأسكنها فسيح جناته، وجعلها من أهل الفردوس الأعلى أدعو الله أن يرزق أبنائها برها وأن يحفظهم في حياتهم كما كانت هي دائماً تراعيهم وتحفظهم بحبها.
العودة إلى الجذور حين تصبح العائلة وطنًا
بعد رحيل رولا، بدا كل شيء من حولي وكأنه يفقد تماسكه كانت فاجعة فقدها قاسية، لكنها حملت معها يقظة جديدة في داخلي، دفعتني للتأمل في ما بقي لي من هذه الحياة هناك روابط شعرت بأنها تتلاشى مع الزمن، وخيوط عائلية كانت يومًا تشكل نسيجنا الأجمل، بدأت تنفلت واحدة تلو الأخرى دون أن نشعر, كنت أدرك تمامًا أن العائلة، حين تتفكك، لا ينهار فقط تواصل الناس، بل تبهت ذاكرة الأرض أيضًا ومع مرور السنوات، وبعد أن شغلتنا هموم الحياة، ابتعدنا عن أبناء عمومتي، وتفرقنا كما تفرقت بلادنا بفعل الاحتلال والمنفى لكن رولا، رغم غيابها، أيقظت داخلي الإحساس العميق بالحاجة إلى لَمّ الشمل لا شمل أولادي فقط، بل شمل العائلة الكبيرة، تلك التي تضم أبناء عمومتي وأحفاد أعمامي ذلك الجذر الممتد من فلسطين إلى كل بيتٍ حمل اسم حماد.
قررت أن أمد يدي، أن أبدأ من جديد تواصلت مع من انقطعت عنهم السنين، وبدأنا بتنظيم لقاءات دورية في بيتنا في مرج الحمام لم يكن مجرد بيت كان محطة دفء جديدة، صارت تحتضن الأحاديث، الذكريات، والضحكات التي نسينا كيف كانت تجمعنا, رأيت في عيون أولاد عمومتي وأحفادهم حنينًا يشبه حنيني، وشعرت أن هذه اللقاءات لم تكن فقط صُدفة طيبة، بل استحقاقًا تأخر كثيرًا, لكن الأجمل، أن هذا الالتقاء لم يتوقف عند حدود الزيارات فقط، بل تحوّل إلى مشروع تضامن حقيقي. فقررنا إنشاء «صندوق العائلة»، ليكون ذراعًا للعطاء والدعم بيننا؛ صندوق يساعد في حالات الوفاة، ويشارك في أفراح الزواج، ويقف مع الناجحين، ويكون عونًا في وقت الحاجة. لم يكن الأمر مجرد مساهمات مادية، بل إعلان ضمني أننا عائلة لا تترك أحدًا خلفها، وأن روابط الدم لا تكتمل إلا برابط الرحمة والمسؤولية المشتركة، كنا، في كل مرة نجتمع، نلملم ما فرّقته المنافي والمسافات. نبكي على من رحل، ونضحك على حكايات الطفولة، ونبني مستقبلًا يليق باسم العائلة التي عرفت معنى الصبر، والغربة، والحلم.
لقد كانت هذه الخطوة بمثابة ردّ اعتبار لذاكرتنا، وانتصار صغير على الغربة التي حاولت أن تسكن قلوبنا واليوم، أشكر الله على نعمة أن نعود لبعضنا، أن نكون سندًا في الفرح والمحنة، وأن لا نترك للمسافة فرصة لتسرقنا من أنفسنا ومن بعضنا البعض.
مرج الحمام ،،،البداية من جديد
بعد أربعة عشر عامًا من الاستقرار في منزلنا في جبل حمزة، جاء القرار الذي غيّر ملامح عائلتنا ومستقبلها، الأولاد قرروا شراء قطعة أرض في مرج الحمام لبناء عمارة تكون نقطة تجمع دائمة لنا جميعًا في البداية، لم أكن مؤيدًا للفكرة رأيتها خطوة مكلفة، بل مغامرة لا داعي لها، خاصة أن بيت جبل حمزة كان شاهدًا على مراحل كثيرة من حياتنا, لكن شيئًا فشيئًا، بدأت أستوعب دوافعهم، وخصوصًا بعد إلحاح والدتهم، التي لطالما كانت تؤمن بأن البيت لا يُقاس بجدرانه، بل بمن يجتمعون فيه كانت تُصر على أولادنا أن يتعاونوا لبناء مستقبل مشترك، بيت يجمعهم بدل أن تفرّقهم المسافات ومع مرور الوقت، رأيت كيف أن الزرقاء كمدينة بدأت تفقد بريقها، كيف تحوّلت من مركز حيوي إلى منطقة يغلب عليها الطابع الصناعي، وبدأ سكانها يرحلون تباعًا نحو العاصمة.
مع انتهاء بناء العمارة في مرج الحمام، اكتشفت أن ما كنت أراه مخاطرة، كان في الحقيقة واحدًا من أجمل إنجازاتنا كعائلة. في تلك اللحظة، حين اجتمعنا كلنا تحت سقف واحد، شعرت بفرحة لم أعهدها من قبل. كانت ضحكات الأحفاد تتعالى في باحة العمارة، يلعبون ويتشاركون طفولتهم، كما تمنيت يومًا أن أعيشها أنا ولم أستطع، ذلك البيت لم يكن فقط مبنًى من الحجر كان حلمًا تحقق، وكان امتدادًا لمسيرة بدأت من شقة صغيرة بالكاد تسعنا، إلى بيت كبير يضم قلوبنا جميعًا. كان انتصارًا هادئًا، يحمل في طيّاته كل المعاني الجميلة: الوحدة، الاستقرار، والحب المتجذر في كل زاوية.
سائلاً المولى عز وجل أن يكون أحفادي جيلًا مضيئًا في عائلة حماد، كما كان أسلافهم دائمًا، ليواصلوا طريقهم بكل عزيمة وإصرار.
جائحة كورونا
جائحة كورونا كانت بلا شك أحد أكثر الفترات تأثيراً في تاريخ البشرية المعاصر. بالنسبة لي، كانت تجربة شخصية في غاية الغرابة، حيث مررت بالمرض ذاته. وعلى الرغم من أن الأعراض التي عشتها كانت مشابهة لنزلة برد شديدة، إلا أن الأمر كان مختلفاً. كنت أعاني من آلام شديدة في العظام، صعوبة في التنفس، فقدان للشهية، بالإضافة إلى أعراض الزكام المعتادة. وبالرغم من هذه الأعراض التي كانت مؤلمة، استطعت بفضل الله أن أتغلب على المرض، لكن الجائحة نفسها كانت تجربة عالمية استثنائية، أعتقد أن الهالة التي أحيطت بالجائحة كانت أكبر من اللازم. أغلقَت المساجد والكنائس، وتم فرض حظر التجول في الشوارع، وكان كل شخص مصاب بالفيروس يُعامل وكأنه شخص منبوذ. توقفت حركة الطيران، وأُغلِقت المصانع والمتاجر. كانت الحياة تتوقف فجأة، وكان من الصعب أن نتصور أن كل شيء سيعود إلى ما كان عليه. ومع مرور الوقت، بدأت الحياة تعود تدريجياً إلى طبيعتها. تم فتح المساجد مع مراعاة التباعد الاجتماعي في الصلوات، وأصبح هناك وقت محدد للخروج من المنزل، ولكن في بعض الأحيان كان هناك عودة إلى منع التجول.
من خلال تجربتي، أعتقد أن هناك الكثير من الغموض حول هذه الجائحة. كانت هناك الكثير من التساؤلات ولم نحصل على إجابة حقيقية بشأن أصل المرض أو الطريقة التي انتشر بها. لم نكن نعرف السبب الحقيقي وراء كل هذا الهلع، وأحياناً كنت أظن أن هناك نظرية غير معلنة كانت تُحاك في الخفاء. ورغم أنني لا أستهين بالفيروس ولا أعتقد أنه كان مرضاً عابراً، إلا أنني أرى أن الجائحة نفسها كانت جزءاً من سيناريو أكبر, وقد رأينا حالات وفاة لعدد من الأشخاص بسبب هذا الفيروس، منهم أخت زوجتي وزوجها، حيث كان الفارق بين وفاتهما أقل من أسبوع، وكان تقرير الأطباء يذكر أن سبب الوفاة هو الإصابة بالكورونا. وهذا دفعني للتساؤل: هل كان هذا هو السبب الوحيد في حالات الوفاة، أم أن هناك ظروف أخرى لعبت دوراً في ذلك؟
لكن، على الرغم من القلق والتوتر الذي رافق الجائحة، فقد كانت هناك بعض الجوانب الإيجابية مع توقف الحياة كما نعرفها، بدأت بعض المجالات الجديدة تزدهر، أصبحنا نعتمد على برامج التواصل الاجتماعي في إجراء الاجتماعات، وأداء الدروس، حتى أن بعض الطلاب الذين يعيشون في الأردن مثلاً، استطاعوا إكمال دراستهم في دول أخرى عبر الإنترنت. اكتشفنا أيضاً أن العديد من الأفكار التجارية التقليدية يمكن تنفيذها بطرق مبتكرة، مثل التجارة الإلكترونية وخدمات توصيل الطعام، مما أتاح المجال للوصول إلى شريحة أكبر من العملاء، ومع مرور الوقت، ومع استمرار التحديات، بدأ الإنسان يتكيف مع واقعه الجديد. تمكنا من الاستمرار في الحياة من خلال طرق غير تقليدية، وهو أمر قد يغير من طريقة تفكيرنا في المستقبل. كانت الجائحة بمثابة اختبارٍ للصبر والمرونة، وإثباتاً لقدرة الإنسان على التكيف مع الظروف الطارئة.
أخيراً، أقول: حمى الله الجميع من الأمراض والأوبئة، وألهمنا جميعاً القوة والصبر لتجاوز التحديات التي تواجهنا في هذه الحياة.
طوفان الأقصى ،،، ذكريات الطفولة والهزائم التي لم تُكتب لها النهاية:
في طفولتي، كانت كل الأحاديث في البيت تدور حول الذكريات المؤلمة لما مر به الشعب الفلسطيني في الماضي. كنا نسمع دائمًا عن «النكبة» و«النكسة» تلك الأيام التي تحوّلت فيها الأرض إلى ساحة من الآلام والدماء، وتداعت فيها الأمة العربية في محطات كثيرة. كنت أتساءل دائمًا عن تلك الفترات التي تجسد الذكرى الحزينة للمقاومة التي لم تكتمل، وعن مدى ضعف العالم العربي أمام تحديات الاحتلال والقوى الغربية.
ثم جاء يوم السابع من أكتوبر 2023، يوم بدء عملية «طوفان الأقصى» وهو اليوم الذي غيّر مجرى الأحداث بشكل غير متوقع. في ذلك اليوم، بدأت فصائل المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها حركة حماس وكتائب عز الدين القسام، هجومًا شاملًا أذهل الجميع. كانت هذه العملية ردًا مباشرًا على الانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة في المسجد الأقصى وعلى الأراضي الفلسطينية، وفي الوقت ذاته كانت رسالة واضحة من الشعب الفلسطيني للعالم بأن مقاومته لا تعرف الحدود، وأنه رغم سنوات الاحتلال، لن تنكسر إرادة الإنسان الفلسطيني، «طوفان الأقصى» لم يكن مجرد عملية عسكرية، بل كان تحديًا وتأكيدًا على أن الفلسطينيين لن يظلوا مجرد ضحايا بدأ الهجوم في الساعات الأولى من صباح يوم 7 أكتوبر، حيث أطلقت فصائل المقاومة آلاف الصواريخ باتجاه المستوطنات الإسرائيلية الهجوم لم يقتصر على الصواريخ فقط، بل تزامن مع هجمات برية ضخمة، حيث اقتحم المقاومون مواقع عسكرية إسرائيلية على الأرض وهاجموا البلدات المتاخمة لغزة، مثل سديروت وأوفاكيم ونتيفوت، في مشهد لم تشهد إسرائيل مثله من قبل.
ما كانت تشهده إسرائيل حينها هو ما اعتاد الفلسطينيون أن يعيشوه يومًا بعد يوم: الهجوم، الحصار، والقتال ضد القوة الأكبر لكن في هذه المرة، كان الفلسطينيون يكتبون تاريخًا جديدًا، كانت تلك اللحظة بمثابة انتفاضة حقيقية جديدة، حيث تكاتف الجميع، وكل ذلك في ظل الصمت العربي المريب الذي لا زال يلاحق قضايا العرب الكبرى، في ذلك الوقت، شعرت وكأن التاريخ يعيد نفسه، ولكن هذه المرة مع مقاومة متجددة وأمل أكبر كما كنا في طفولتنا نسمع عن نكبات وأحزان الماضي، اليوم نعيش مشهدًا مختلفًا: مشهدٌ يعكس تطورًا مهمًا في المقاومة الفلسطينية هذه لم تكن نكسة جديدة، بل كانت هزيمة لأكبر قوة في المنطقة، وهزيمة لكل من سعى إلى إخماد صوت الحق الفلسطيني.
الارتباط بمسيرتي الشخصية والمهنية:
ما جعلني أتأمل في هذه اللحظة هو أنني عندما كنت طفلًا، كنت أرى الأمل ضئيلًا في مقاومة الاحتلال، وأتساءل دائمًا هل يمكن للأجيال القادمة أن تحقق ما عجزت عنه أجيالنا؟ اليوم، ومع عملية «طوفان الأقصى» صار واضحًا لي أن الإرادة لا تموت، وأن ما بدأه الآباء في الماضي لم يكن سوى أساس لنجاحات اليوم، تجربة «طوفان الأقصى» حملت لي دروسًا في القوة والصبر، تمامًا كما كان يشهد الفلسطينيون في كل مرحلة من تاريخهم. وفي حياتي الشخصية، مثلما نرى في مشاريعنا أو حتى في التحديات التي نواجهها يوميًا، يجب أن نتذكر أن هناك دومًا مقاومة، وصمود، وأمل رغم كل المصاعب. عملية «طوفان الأقصى» كانت مثالًا حيًا على كيف يمكن للقوة أن تتجلى في أصعب الظروف.
وما زالت البوصلة تشير إلى فلسطين
بعد سنوات طويلة من التنقل والكدّ، وبعد أن ذاقت روحي من كل ألوان الغربة والتعب، استقر بي المقام أخيرًا في مرج الحمام. لم يكن هذا المكان مجرّد عنوان سكنيّ جديد، بل كان محطة هدوء بعد رحلة صاخبة بالحياة والمواقف والقرارات. هنا، في زوايا هذا الحيّ الهادئ، بدأت أتنفّس من جديد، وكأنني أستعيد ما تبقّى من أنفاسي التي بدّدتها السياسة والهموم وفقد الأحباب، وجدت في قرب المسجد سكينة لم أعهدها من قبل صرت أسبق المؤذن إلى الأذان، لا لشيء إلا لأنني وجدت في المسجد وطنًا آخر، روحًا تسكنني حين غابت عني أوطان الأرض. تلك اللحظات القليلة بين الآذان والإقامة، كانت كافية لأعيد ترتيب ذاكرتي، لأصافح وجوه من رحلوا، ولأسترجع قراراتي القديمة كنت أعود فيها إلى البدايات، حيث انطلقت خطواتي الأولى من بين أزقة غزة، وقلبي مشحونٌ بحلمٍ اسمه فلسطين.
تعلّمت من مسيرة العمر أن الحياة ليست سهلة، لكنها أيضًا ليست عبثية كل موقف مررت به، وكل محنة واجهتها، كانت تحمل في طيّاتها رسالة كنت جزءًا من طلائع الفداء، ورفيقًا لخطّ حركة فتح، لا لأني أحب الاصطفاف، بل لأنني رأيت فيهما أملاً عمليًا لمستقبل القضية لم أكن في يومٍ من الأيام تابعًا لفكرٍ جامد أو شعاراتٍ فارغة، كنت أبحث عن الحل، عن الكرامة، عن فلسطين كما نعرفها نحن، لا كما يرسمها لنا الإعلام أو يعيد تشكيلها الساسة.
أنا لست «فتحاويًا» ، ولست «حمساويًا» ولا «يساريًا»، أنا مسلم فلسطيني خالص، أحمل فلسطين في اسمي، في دعائي، في تعبي، في فرحي، في أولادي، وفي أحفادي. أؤمن أن كل حل جادّ يعيد لنا ما سُلب منّا هو خطوة نحو الكرامة. لا أتعامل مع القضية كمجرد «ملف سياسي»، بل أراها أمانة، أمانة في عنق كل فلسطيني، وكل عربي، وكل مسلم، بل وكل إنسان حرّ، ومن موقع تجربتي، تعلمت أن النضال لا يكون فقط بالبندقية، بل قد يكون بالقلم، بالصبر، بالكلمة، بالموقف، بتربية الأبناء على حب الأرض، وبغرس فلسطين في كل حديث، في كل قصة قبل النوم، في كل سجدة نهمس فيها: «اللهم ردّ إلينا فلسطين»، وهنا، في مرج الحمام، في هذا البيت الذي جمعني بأحفادي من جديد، أدركت أن النضال له أشكال لا حصر لها. فأن تبني أسرة مؤمنة بوطنها، أن تنشئ جيلاً لا ينسى أصله، أن تحافظ على روايتك، هذه كلها جبهات لا تقل أهمية عن الخندق الأول كلّنا، من موقعه، يستطيع أن يحارب لأجل فلسطين بالكلمة، بالصبر، بالثبات، وبالحلم، علمتني السنوات أن النكبات لا تقتل، بل تعلّم، أن فقد الأحباب يصنع داخلنا قوةً لا تظهر إلا عندما نشدّ على يد من بعدنا، فقدت أبي، ثم خالي، ثم أمي، ثم ابنتي رولا وكل فقد كان كالسهم في قلبي، لكنني لم أُسحق، بل صرت أكثر إيمانًا بأن فلسطين لا تُسترجع فقط بالقوة، بل بالإيمان والصبر ووحدة الصف.
بعد رولا، شعرت أن العائلة هي كل ما أملك، فجمعت أبنائي وأحفادي في بيت واحد، بنيناه معًا في مرج الحمام، لنعيش تحت سقفٍ يجمع الدفء والذكرى والدعاء وهنا، لم أكتفِ بأفراد أسرتي الصغيرة، بل دعوت أبناء عمومتي، جمعت العائلة الممتدة، وأسسنا هذا التجمع الميمون، نعين به بعضنا في الطوارئ، من وفاة أو زواج أو مرض أو نجاح. الذي هو عهدٌ جديدٌ على أن نبقى متواصلين، مهما فرّقتنا البلاد والهموم.
واليوم، في هذه المرحلة من عمري، لا أملك إلا الدعاء، والكتابة، والشهادة على ما مضى، شهادتي أن فلسطين لا تُنسى، وأن كل من سار في دربها صادقًا، فإن الله لن يضيّع جهده، ما زلت أؤمن بأن النصر آتٍ، وأن قائدًا فاتحًا سيُبعث، يُعيد لنا رايات العزة، ويوحّد شتات هذه الأمة التي شتّتها الظلم والخوف والمصالح، رسالتي لأبنائي، ولجيلٍ لم يعِش النكبة لكنه يحمل تبعاتها، أن لا يتركوا فلسطين تضيع بين الصفقات والخطابات أن يكونوا أوفياء للأرض، للدم، للرواية, أن يُعيدوا للقدس مكانتها في القلب، لا في نشيدٍ فقط، فلسطين لا تحتاج إلى شاعر جديد، بل إلى مؤمن صادق، لا تحتاج إلى شهرة، بل إلى ضمير حيّ، وكل منّا يستطيع أن يكون جنديًا في طريقها، مهما كان موقعه، قد نكون في الغربة، أو خلف مكتب، أو في حقل، أو في مسجد، لكن طالما أن النية صادقة، فإن الله يكتب الأجر، ويبارك العمل.
الحمد لله الذي وهبني فرصة أن أروي هذه الحكاية، لا لتُقرأ فقط، بل لتُورّث، حكاية رجلٍ، أحبّ الله، وعشق فلسطين، وآمن بأن الكلمة قد تكون أقوى من الرصاصة، إذا خرجت من قلبٍ موقن.
شهلا خليل راغب الكيالي
لم أتمكن من إتمام سيرتي الذاتية دون أن أذكر المربية الفاضلة شهلا خليل راغب الكيالي، تلك المرأة التي كانت نورًا في مدارس الوكالة في محافظة الزرقاء، والتي كانت مثالاً للثبات والإصرار، وكانت تعتبر أولادي جزءً ممتداً منها إذ كانت تتعمد إشراك أطفالي بجميع البرامج الفلسطينية فأرسلت رمزي إلى الشام ، ورأفت مع برنامج أطفال العرب، ورشاد في رحلة إلى اليمن
وُلِدت شهلا في قرية اللد بفلسطين عام 1942م، وخرجت منها في عام النكبة 1948م، لتتوجه إلى الأردن مع عائلتها، وهي التي ستصير أحد الأسماء اللامعة في مجال التعليم والإبداع.
شهلا الكيالي درست في مدارس الزرقاء، وحصلت على درجة البكالوريوس من جامعة بيروت العربية في عام 1977م. طوال سنواتها في الأردن، قدمت الكثير للعمل التربوي والتعليمي، حيث عملت معلمة ومديرة في مدارس وكالة الغوث الدولية التابعة للأنوروا بين عامي 1958 و2000م. لم تقتصر شهلا على التعليم الأكاديمي فقط، بل ساهمت في مجال الكتابة والإعلام، حيث كتبت مقالات في صحيفة الرأي الأردنية منذ عام 1980م وحتى رحيلها. كما كانت عضوًا فعالًا في عدد من المؤسسات الوطنية مثل رابطة الكتاب الأردنيين، واتحاد المرأة الأردنية، وجمعية الشبكة العربية.
شهلا الكيالي لم تقتصر إبداعاتها على المجال الأكاديمي فقط، بل عملت أيضًا في مجال الأدب المسرحي، حيث قدمت أعمالًا درامية مميزة للأطفال مثل مسرحية «صبرا وشاتيلا»، و«عرس الشمس»، و«على جناح غيمة»، و«المفتاح»، هذه الأعمال التي تركت بصمة في قلوب الصغار والكبار على حد سواء، وكانت تعلمهم الصمود والثبات في مواجهة التحديات.
لكن ما يجعل سيرتها أكثر إشراقًا هو قوتها في مواجهة المرض. في عام 1986م، أصيبت بمرض السرطان الذي بدأ من الثدي وانتقل إلى الكبد بعد عشرين عامًا من الصراع. رغم الألم والمعاناة، كانت شهلا تُسمى «سنديانة فلسطين» بسبب صمودها وثباتها أمام هذه المحنة، حيث استمرت في عطائها وتفانيها في العمل، إلى أن رحلت في 2006م.
لقد نالت العديد من الجوائز تقديرًا لمساهمتها في مجال أدب الأطفال، منها جائزة الملكة نور لأدب الأطفال وجائزة الرابطة الوطنية للطفولة، بالإضافة إلى كأس التربية لعام 1995م.
الخاتمة
وأنا أكتب لكم سيرتي هذه في عام ٢٠٢٥م، بعد مرور ٨٣ عامًا في هذه الحياة، أستطيع أن أقول بأنني تعلمت الكثير قد أصبت في بعض الأوقات، وأخطأت في أوقات أخرى، لكنني أدركت في النهاية أن العبرة هي قربنا من الله، فهذا هو الحل لجميع مشاكلنا، فلتكن حياتنا مليئة بالتسابق إلى الخير، ولنسعى دومًا لأن نكون في الصفوف الأولى في المسجد، وأن نُشجع أبناءنا على الصلاة وقراءة القرآن وحفظه.
علمتهم أن فلسطين هي من أركان عقيدتنا، وأن تحريرها واجب على كل مسلم، لم أكتب هذه السيرة للتفاخر لا سمح الله، وإنما لاستخلاص العبر منها، وأعتبر هذا الكتاب محاولة مني لربط الماضي بالحاضر والمستقبل من خلال هذه السيرة، أردت أن أُظهر معالم نزوحنا وهجرتنا للعلن، فنحن قوم ميزنا الله بفلسطين، أرض الجهاد والرباط.
وكما نشاهد الآن طوفان الأقصى الذي أذاق العدو شتى أنواع العذاب من أرض غزة العزة، فإننا نعلم أن كل صراع وكل ألم لا بد أن يأتي بعده فجر النصر والحرية.