سعيد صالح عبد الهادي الأسدي (الفلسطيني)
اسمه في شَعَب سعيد الصالح. اسمه عند المختار سعيد الأسدي. اسمه في الهوية سعيد صالح عبد الهادي. اسمه في مواقع النضال الفلسطيني من عام 1936 إلى 1982 وحتى وفاته في عام 1997 أبو صالح.
من كبير أسفي أنني لم أعرف هذا الرجل شخصياً، مع أن كل من كلّمته عن كتاب شَعَب يقول لي من الخسارة أن لا تكون قد قابلت أبو صالح.
بعد كل الذي قرأته عنه والمعلومات التي جمعتها، لم أجد له لقباً يشبهه، ويكون مثله في خانة السهل الممتنع إلا ((الفلسطيني))، فكلنا فلسطينيون ولكن أكثر من يستحق اللقب مع ((الـ)) التعريف هو أبو صالح. هو الوحيد الذي سخّر حياته ورهنها للقضية. هو الفلسطيني الحقيقي الذي لم يكلّ ولم يملّ منذ ثورة 1936 حتى اجتياح 1982 عن حمل السلاح.
كان كنزاً أدبياً رغم أنه ليس أديباً، وكان راوية رائعاً ولم يكتب حرفاً وكان.. وكان..
الشهيد غسان كنفاني كان يزوره دائماً، ولأنه ((الفلسطيني)).. كثيراً ما كان كنفاني يستخرج منه القصص والحكايات، ولئن كان كنفاني قد خصّه بقصة ((العروس)) المثبتة في ملاحق الكتاب، فإن عدداً من القصص كما علمت من بعض العارفين بالأمر، قد سمع أطرافها من فم أبو صالح.
غير أن من أهم ما كُتب عن أبو صالح كان رواية ((باب الشمس)) التي كتبها إلياس خوري وأصدرها في العام 1998، في الذكرى الخمسين للنكبة. وكانت هذه الرواية من أكثر الكتب مبيعاً في ذلك العام.
ورواية ((باب الشمس)) إن كانت تناولت النكبة عبر قصة بلدة شَعَب وحاميتها، فإن من ألهم إلياس خوري بحبكتها كان ذلك ((الفلسطيني)) أبو صالح، حيث تبدأ القصة من حيث انتهى أبو صالح، في مستشفى الهمشري في غيبوبة الموت الأخيرة على سرير يجلس قربه الممرض الذي يحكي القصة.. ووجّه إلياس خوري أول شكر للمساهمين في إنجاز العمل، في خاتمة الرواية لسعيد صالح عبد الهادي. كما أن تعريف الكاتب بالقصة وخيطها الروائي السردي كان عن أبو صالح الذي سمته الرواية ((يونس))، فتحدث عنه وعن علاقته بزوجته ((منيرة)) التي سمتها الرواية ((نهيلة))، كتب ذلك في الغلاف الخارجي الأخير من الكتاب:
نهيلة الأولى، كانت زوجته الصغيرة التي لم يعرفها، لأنه كان في الجبال مع المجاهدين.
نهيلة الثانية، كانت المرأة الجميلة التي ولدت في مغارة باب الشمس، وهي تدعس على حبات العنب، وتتزوج زوجها.
نهيلة الثالثة كانت أم إبراهيم الذي مات.
نهيلة الرابعة، كانت أم نور، التي التصق بها يونس في المغارة، وصار يدعوها أم النور، كلما أتته والضوء يشع من عينيها.
نهيلة الخامسة، كانت بطلة المأتم، التي خرجت من السجن لتعلن موت زوجها، وتتشحّر أمام الناس.
نهيلة السادسة، هي أم كل هؤلاء الأولاد، الذين يملأون ساحة دير الأسد.
في تلك الليلة ولدت نهيلة السابعة.
نهيلة السابعة تعبت من التعب. امرأة وحيدة وفقيرة.
نذكر هنا أن المخرج المصري يسري نصر الله قد بدأ أواخر العام 2002، بإخراج فيلم سينمائي مأخوذ من رواية ((باب الشمس))، وشارك في مهرجان كان 2003 للسينما، ثم عاد وأتم الجزء الثاني من الفيلم وتم عرضه في أكثر من مهرجان دولي ونال عدة جوائز.
أما ما كانت تقوله هي عن هذه الأحداث وعن اختبائه في المغارة التي سماها إلياس خوري ((باب الشمس))، فيدلنا عليه ما كتبه إبراهيم نصار في حفل تأبين أبو صالح في أربعينه في قرية ((دير الأسد)):
كان يحمل السلاح عندما تعزّ الطلقة ويخترق الحدود.. يوزع السلاح ويزرع طفلاً، وهكذا أنجب معظم أبنائه. هو في المنفى وأم صالح في الوطن، وبينهما الحدود المزروعة بالنار والموت. لن يتردد. كان يراوغ زخات الرصاص وينجح، أرهق حرس الحدود وأتعبهم في كل رحلة يودعه الرصاص من خلف ومن أمام، ويستقبله من خلف ومن أمام.. قدرته مدهشة على التآلف مع الموت والخطر.. المهم أن يصل السلاح وأن يزرع طفلاً.. وتضحك أم صالح من أسئلة الجنود الغبية.!
من أين لك هذا الطفل؟!
من أبو صالح!!
وهل كان هنا؟!
نعم بالتأكيد، وسيعود قريباً. لأننا اتفقنا على إنجاب أطفال ستة، ولم يكتمل العدد بعد (تقول متباهية).
ولكن كيف؟!
يا لكم من حمقى!
ألا تعرفون كيف ينجب الأزواج أطفالهم! بالحب الجميل! ما بين زخة الرصاص الأولى والتي تليها.
ولأنه ((الفلسطيني)).. فإنه كان صاحب أول رسم محفوظ للفنان ناجي العلي.
فمن هو أبو صالح؟
ولد سعيد صالح عبد الهادي الأسدي، في قرية شَعَب عام 1918، وشارك في ثورة عام 1936 ضد الاستعمار البريطاني والصهيوني.
وكان في الصفوف الأولى في حامية شَعَب أثناء نكبة 1948، وخرج من فلسطين تاركاً زوجته التي رفضت أن تترك والديه المُسنَّين وحدهما في فلسطين، وأقامت معهما هناك. استقرت عائلته بداية الأمر في دير الأسد، ودون علم سلطات الاحتلال كان شبه مقيم هناك، وكان تواجده في فلسطين أكثر من تواجده في لبنان. ذلك أنه لم يكن قد قرر القبول بالتشتت، إلى أن بات صعباً عليه التردد إلى هناك، واستقر نهائياً في لبنان منذ عام 1956.
أقام في مخيم عين الحلوة، وهناك عمل وكيلاً لبساتين حمضيات، وكان ممن عمل معه الشهيد ناجي العلي كما ذكر محمود كلّم في كتابه ((ناجي العلي: كامل التراب الفلسطيني)). وكانا رفيقين أيضاً في حركة القوميين العرب التي كان أبو صالح من جيل التأسيس فيها. غير أن ناجي العلي لم يكن ينضبط بمواعيدها الدقيقة، مما أدى إلى فصله ثلاث مرات.
سجن عدة مرات في السجون اللبنانية بسبب مواقفه الوطنية، وكان مع ناجي العلي في زنزانة واحدة في سجن أبلح في شهر آذار من عام 1961، وما زال الرسم الذي رسمه له ناجي العلي في ذلك السجن يعتبر أول رسم محفوظ له. يومها رسمه على علبة سجاير (راجع ملحق الصور)، حين علقه سجانه على شباك السجن، والرسم عبارة عن بورتريه لوجه أبو صالح، معلقاً على صليب ومحاطاً بالهلال.
وكان من الرعيل التأسيسي الأول للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وأحد قادتها، شارك في معارك أيلول الأسود في الأردن، وأصيب في رجله وأرسل للعلاج في الاتحاد السوفياتي لمدة ثلاثة أشهر.
شارك في الدفاع عن الجنوب اللبناني في اجتياح عام 1978، فيما سمي لاحقاً ((عملية الليطاني)).
في الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982، شارك في المقاومة، وكان في الرابعة والخمسين من عمره. واعتقل في معتقل أنصار بعد معاناة من نظره بسبب تنشّق غازات أطلقت عليه أثناء المعارك. وبقي نزيل معتقل أنصار عامين كاملين، خرج بعدها إلى صفوف المقاومة كما كان في البدء.
عاش قرابة الخمسين عاماً بعيداً عن عائلته وأولاده، وزوجته التي رفضت ترك أهله ورفضت الطلاق، وبقيت على عهده وبقي هو كذلك لم يتزوج ثانية.
في كانون الثاني من العام 1997م، أصيب بعارض صحي، نقل على أثره إلى مستشفى الهمشري في صيدا، وبقي فيه حتى وافته المنية في 28-1-1997م.
أما أيامه الأخيرة، التي بها بدأت رواية ((باب الشمس))، فقد عبرت عنها رسالة مؤسسة الشهيد غسان كنفاني أرسلتها عائلته، وقد تُلِيتْ في حفل تأبينه بمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاته:
عائلة أبو صالح
تحيات حارة لكم جميعاً في ذكرى الصديق العظيم
كان أبو صالح صديقاً رائعاً وشخصاً عظيماً.
أنا وأطفالي ((تريز وليلى)) اعتدنا احترامه وتقديره.
كان محارباً شجاعاً وشريفاً من أجل حقوق وحرية شعبه بالعودة إلى فلسطين، وبالرغم من سنه وعمره كانت فيه روح الشباب الجميلة.
أرسل لكم صورتين لأبي صالح في الذكرى الرابعة والعشرين لمؤسسة غسان كنفاني في الثامن من تموز 1996.
لقد زرته في المستشفى في الثاني من كانون الثاني 1997، وكان مملوءاً بالحيوية والحياة، وتحدث عن الناس، عن الكفاح، عن فلسطين. عن العائلة وعن قاسم أبو ماهر وأصدقاء آخرين والسنوات التي مرت، وهو يمزح ويضحك، وعندما تركته في ذلك اليوم شعرت بالارتياح وتطلعت إلى الأمام لأراه ثانية في زيارتي القادمة إلى صيدا.
في 24-1-1997 ذهبت إلى المستشفى في صيدا، وسمح لي أن أرى أبو صالح من خلال شباك غرفة العناية المركزة، لكن لم يحالفني الحظ أن أحدثه مرة ثانية.
كل أهالي عين الحلوة والمخيمات الأخرى أحبت أبو صالح وشيعوه إلى القبر ليودعوه الوداع الأخير.
سيبقى دائماً في عقول وأفكار الناس.
أطفال الروضة في عين الحلوة سيزورون قبره ويضعون الورود عليه.
مع تحياتنا
تريز وليلى
لقد بقي سعيد صالح عبد الهادي (أبو صالح) يجسد صورة الفلسطيني الحقيقية، الذي ولد في فلسطين، وشهد ثورة 1936 ونكبة 1948، وشارك في معارك الدفاع عن قريته بشراسة، وبقي يتردد إلى فلسطين كلما شدّه الشوق إليها، وشارك في المعارك كلها، وحمل الهم القومي إلى جانب همه الفلسطيني، واعتقل لدى العدو، وبقي حتى آخر يوم من حياته لا يصدق أنه سيموت.
فكيف سيتحمل بعد كل هذا النضال أن يموت بعيداً عن فلسطين. مات أبو صالح لكنّ رايتَه لم تسقط، ستبقى خفاقة حتى تُزرع على ربى فلسطين من جديد.
شعب وحاميتها
ياسر أحمد علي