اصدرت السلطنة العثمانية مراسيم " قوانين الاصلاح الزراعي العثمانية" وذلك في العامين 1856 و 1858 ، والتي حولت الارض من ارض عامة تملكها الدولة الى ارض خاصة يملكها الفلاح( سعد، 1985 :34 ) وقد خطت بيت جبرين على نفس الطريق التي سارت عليها القرى الفلسطينية الأخرى حيث وزعت أراضي القرية على حمائل القرية الأربعة وهي: الشوابكة، والغبارية، والدعاجنة، والعزة. وتفيد رواية أهل القرية بأن هذا التوزيع كان متساويا بين جميع الحمائل باستثناء حامولة العزة التي كان نصيبها السبع فقط بينما حصلت كل حامولة من الحمائل الثلاث الأخرى على سُبعيْن على اعتبار أنها كانت أقل الحمائل عددا في ذلك الوقت، وقد شمل هذا التوزيع الأراضي كافة باستثناء بعض عيون الماء والساحات العامة والطرق التي بقيت مشاعا لاستخدام جميع الحمائل.وعن تقسيم أراضي القرية يروي الحاج عواد أحمد العزة (80 سنة) قائلاً:
من زمان اتقسّمت الأرض بين حمايل البلد إلّي هي ّالعزة والشوابكة والدعاجنة والغبارية، وكل حمولة أخذت حصتها وكانت حصص الحمايل هذيك متساوية أما إحنا يا دار العزة طلع النا قد نص حمولة منهم لانا بقينا قلال وبعدين اشتروا دار العزة أراضي كثيرة من الفلاحين وصرنا نملك أكثر من الحمايل الثانية.
وعن هذه القسمة للأرض وتوزيعها بين العائلات، فقد بينت المقابلات بأن غالبية كبار السن ]الجيل الأول[ الذين عاشوا في بيت جبرين وخاصة الذكور منهم هم الذين يعرفون تفاصيلها، أما الإناث من الجيل نفسه فقد كانت معرفتهن لا توازي معرفة الذكور في هذه القضية، وهناك عدد من الذين تمت مقابلتهم من الجيل الثاني وبالتحديد من الذكور لديه معرفة جيدة عن الموضوع دون ارتباط ذلك بمستوى تعليمي معين، فمثلا يروي عبد الله عبد الرحمن غطاشة (63 سنة)عن هذا الموضوع قائلا:
تقسّمت الأرض لسبع أسباع، سبعين أخذوها الشوابكة وسبعين أخذوها الدعاجنة وسبعين أخذوها الغبارية وسبع أخذوه عزة أولاد مسلم، هذولاك أجوا بعد منهم وزي ما قلتلك يعني صاروا يستغلوا مثلا هاظا فقير هاظا بدو مصاري هاظا بدو بذار بدو كذا كانوا يشتروا منهم الأراضي وسووا أراضي.
وأما الجيل الثالث من كلا الجنسين وبمختلف مستوياتهم التعليمية فإن معرفتهم في هذا الموضوع لا تكاد تذكر، فهم يعرفون فقط بأن أهل القرية كانت لديهم أراضٍ يفلحونها مع وجود إشارات من البعض عن وجود تفاوت في ملكية هذه الأراضي بين الناس، وعن ذلك تقول السيدة منار عثمان العزة (24 سنة): " إحنا كنّا العيلة الزغيرة من بين الأربع حمايل إلي كانت في البلد، بس إحنا كنا الإقطاعيين، يعني أراضينا كانت أكثر من الحمايل الثانية، كنا ميخذين كل اشي ".
وحسب ما يروي الآباء تحديدا فإن سبب التفاوت في ملكية الأرض بين العائلات وامتلاك حامولة العزة لمساحات واسعة تفوق بكثير نصيبها الذي حصلت عليه أثناء القسمة يعود في الأساس إلى إن عائلة العزة كانوا على مستوى من التعليم والغنى يفوق العائلات الأخرى في القرية وهذا مكنهم من شراء مساحات كبيرة من أراضي الفلاحين وخاصة عندما فرضت الحكومة التركية ضريبة الويركو أو العشر، أيضا تفيد رواية أهل القرية بأن فترة الحرب العالمية الأولى كانت سنوات عجاف على القرية وعلى فلسطين بشكل عام مما اضطر عدد كبير من الفلاحين الفقراء لبيع أراضيهم مقابل الحصول على الطعام، ويروي الحاج أحمد خليل النجار(73 سنة) قائلا:
في الأساس دار العزة اجو من مصر وسكنوا في بيت جبرين واجو من مصر هم جماعة اغنيا وبقت الحالة فقيرة ولما اجت تركيا قالت بدنا نطوِّب الأرض انت بطلع عليك مثلا مجيدة والله انا يا اخوي ما معي مجيدة يجووا هم يحطوا المجيدة ويوخذوا الأرض، في العملية هذه هم اخذوا ثلثين ارض البلد.
وعلى الرغم من إقدام عدد كبير من الفلاحين على بيع أراضيهم إلا أن ذاكرة عدد ممن تمت مقابلتهم من عائلة الحموز تختزل موقفا لأحد وجهائهم حيث استطاع هذا الوجيه أن يحافظ على أراضي حامولته من البيع، وعن هذا الموقف الذي التقطته الذاكرة لدى أبناء العائلة يتحدث حفيده حسن إبراهيم الحموز(40 سنة) قائلاً:
أكثر قصة عالقة بالذاكرة عن سيدي انه مروا الناس في فترة من الجوع اضطروا إنهم يبيعوا الأرض مقابل القمح وكان سيدي انا غني والّي كان يشتري الأرض عيلة العزة فكان عنده جدي قمح فهو وزع القمح على كل الأسر في العيلة مقابل إنهم يردوه قمح في الموسم مش مقابل انه يوخذ منهم الأراضي، بالتالي هو حافظ على ارض العيلة كلها، هذه القصة كان أبوي يرددها وقسم من عيلة الحموز انه هو في فترة معينة قدر انه ينقذ كل أراضي الحموز ولا سنتيمتر انباع.
وهناك رواية أخرى قد أرجعت هذا الموقف من قبل وجيه العائلة إلى محاولته منع بيع أراضي العائلة لليهود وليس خوفا من بيعها إلى عائلة معينة أو أشخاص معينين في القرية، وهو ما أشارت إليه رواية السيد وليد خالد الحموز(39 سنة)، التي يقول فيها:
إحنا في عندنا واحد اسمه عبد الله علي الحموز يعني من الختيارية الوجهاء من الحموز من قرايبنا، فهاظا الرجل لما البلد تعرضت في فترة ما لظروف صعبة فالناس صارت تبيع أراضيها لليهود فالزلمة هاظا حط كل ما يملك من قمح أو شعير لأهل البلد لأنه الموسم سنتها مجابش صار عليهم جفاف وبالتالي الناس تخلت عن بيع أراضيها لليهود أو للناس اللي بتبيع لليهود فقلهم يا قرايبي خذوا القمح اللي بدكو إياه والغنم اللي بدكو إياها وإذا الموسم أعطى معاكم بتسدوني.
وفي سياق الحديث عن الأراضي الزراعية فقد بينت المقابلات التي أجريت مع كبار السن وخاصة الذكور منهم بأن معظم أراضي القرية الزراعية كانت مُطَوَّبة، وهي مسألة قد غابت عن ذاكرة صغار السن من الفئة العمرية الثالثة، وفي هذا الصدد يروي الحاج محمود غنايم الحموز(82 سنة) قائلاً:
بالنسبة للأرض قد نكون من القلائل جدا في فلسطين إلي بحتفظوا بالوثائق فعندنا وثائق تركية من زمن الأتراك وبيت جبرين من القلة القليلة إلي أراضيها طوبت، وثائق تركية ووثائق بريطانية موجودة وإحصاء البلد موجود والتعداد موجود.
ومما يؤكد صحة ما يرويه كبار السن بهذا الخصوص هو حديث عدد كبير من الناس عن احتفاظهم حتى هذه الأيام بوثائق [الطابو] الخاصة بأراضيهم وحرصهم الشديد عليها ولعل ذلك له علاقة بالأمل في العودة إلى القرية الذي لا يفارقهم كذلك بمدى ارتباط الفلاح الفلسطيني بأرضه فهو يعتقد بأن التفريط بهذه الأوراق هو تفريط بالأرض.
لقد بينت مجموع المقابلات مع اللاجئين بمختلف أعمارهم ومستوياتهم التعليمية ذكورا كانوا أم إناثا بأن حيثيات وتفاصيل تقسيم أراضي القرية على حمائلها الأربعة كانت محطة مهمة في ذاكرة كبار السن أو جيل النكبة وخاصة من الذكور وتقل أهميتها كلما قل عمر اللاجئ حتى لا تكاد يكون لها أثر لدى صغار السن كذلك لدى الإناث وخاصة من الفئة العمرية الثانية والثالثة ولم يكن هناك اثر يذكر لمتغير مستوى التعليم أو مكان السكن في هذا المضمار. أما فيما يتعلق بالتفاوت بين العائلات في ملكية الأرض بعد قسمتها نتيجة البيع والشراء واستحواذ عائلة العزة على مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية، فقد أظهرت مجموع المقابلات فيما يتعلق بهذا الشأن إلى أن هناك متغيراً آخر له علاقة بهذا الموضوع ولم يشر إليه في الفصل الثاني من الدراسة]المنهجية[، وهذا المتغير هو الانتماء العائلي، حيث أظهرت فحوى المقابلات بأن غالبية اللاجئين الذين تمت مقابلتهم من عائلة العزة تنطوي ذاكرتهم على تميّز هذه العائلة بملكيتها لمساحات كبيرة من الأرض تفوق العائلات الأخرى وكانوا كثيرا ما يتفاخرون بذلك، وفي المقابل فقد اقتصرت المعرفة بشكل عام في هذا الشأن لدى كبار السن فقط من العائلات الأخرى. وهذا ما لمسناه في حديث السيدة منار العزة في الصفحات السابقة وما عبر عنه أيضا الحاج محمد عبد الهادي العزة (83 سنة) في روايته قائلاً:
هذه بيت جبرين كلها للعزة الفلاحين مالهمِّش اشي، قليل بتلاقي الهم ارض، في حرب أل114صارت مجاعة في البلاد، طَفشت الناس، وعيلة العزة كان عندهم حَبْ في المخازن وصاروا الفلاحين يبيعوا أرضهم أول ا اشي بخمسة وبعشرة وبعدين صار المئة دونم بشوال شعير وشوية شوية اخذوا الأراضي دار العزة بدل الحَبْ.
يلاحظ بأن رواية الحاج محمد تختلف مع روايات أخرى، فعلى الرغم من امتلاك آل العزة لمساحات كبيرة من الأرض إلا أن هناك عدداً كبيراً من اللاجئين الذين تمت مقابلتهم من العائلات الأخرى كانوا يتغنون ويفخرون هم كذلك بملكياتهم الكبيرة، وكما أشارت كذلك رواية حسن الحموز التي أوردناها سالفا بأن عائلة الحموز لم تبع أي جزء من أراضيها في الفترة التي تحدث عنها الحاج محمد عندما حصلت المجاعة خلال الحرب العالمية الأولى. ولكن في نهاية المطاف فنحن نعتمد هنا على الذاكرة ولسنا بصدد بحث تاريخي يرصد الأحداث التاريخية كما حدثت بالضبط، بل كما استوعبتها الذاكرة الجماعية للناس.
قرية بيت جبرين في الذاكرة الجماعية
تيسير محمود عيسى عمرو