جميلة بنت مريم عزام بنت يوسف عبد الغني من مواليد قرية سحماتا - قضاء عكا
تصف الحاجة جميلة البلد بأنها: كانت حلوة كثيراً على تلة، مصيف رائع جداً، وفيها مناظر حلوة مثل أشجار الزيتون والتين والشجرية، ومن خلفها الجبال هنا في لبنان.
كان بجانب سحماتا قرى إسمها فسوطة، الدير، حُرفيش، البقيعة، كفر سميع، نحف، وترشيحا. وكان عندنا طريق من سحماتا يصل الى حدود لبنان. يستطيع أي واحد أن يذهب الى عكا أو منها إلى مدن أخرى. أنا وصلت لحد عكا، كانت السيارات تصل البلد سحماتا، والساحة التي وسط البلد تسع سيارات كثيرة، ومنطقة الكوربة توصل لمناطق الشمال من ناحية الدير، وللبنان وللأسفل من ناحية عكا تذهب الى ترشيحا ونهاريا وكويكات والبلاد التي هي قضاء عكا.
كان هناك طريق توصل الى البقيعة، وطريق أخرى الى ناحية سبلان، وهذه الطريق فرعية للمشي ولكن الطريق الرئيسية تطلع من الكوربة لغاية الدير ولبنان وللغرب ناحية ترشيحا.
كان في سيارات تتنقل الناس فيها ولكن من أراد المشي لغاية البقيعة والقرى المجاورة كانت الأجرة قرشين وخمس قروش.
عائلات بسحماتا، أذكر عائلة قدورة ودار موسى، وحسين، ومحمود، دار نايف، ومن العائلات المسيحية مثل عائلة المختار جريس قيصر، وعيد ومبدى طنوس. والمسيحيون كان عندهم مضافات لبيت قيصر وطنوس.
عمي محمد كان مع الثوار وقُتل، كان عنده ديوان لإجتماع الثوار والأصدقاء. الديوان كان له مكان لحاله ولها طابق ثاني ومدخلها من خارج البيت.
كان في آثار كثيرة في القرية، في الحارة الشمالية كانوا يفتحون المباني الأثرية، فنرى أشكال مرسومة على الجدران مثل الفخار والجرار. أيضاً في البركة بين الحارتين وجدوا آثار كثيرة، وعندنا تحت البيت وجدوا آثار، ولكن الناس لم تكن تهتم بهذه الآثارات. البركة لما حفروها وجدوا تحتها عمدان مثل عمدان قلعة بعلبك، والشباب كان يصعدون على العامود ويقفزون في مياه البركة ليسبحوا فيها. وكان هناك المغر، الآثار قيّمة فوق في المغر.
والبركة هذه، كانت الناس تجمع فيها مياه المطر للزراعة وسقاية الطرش فقط.
أذكر المدرسة جيداً، كان يأتي أساتذة من ترشيحا، كان في مدرسة بالحارة التحتا بجانب البركة، ومدرسة أخرى الفوقا صارت شرقي البلد وهي جميلة جداً، فيها الشجر والنخل وتحتها بركة.
أنا لم أذهب الى المدرسة، كانت البنات ممنوع عليها الدراسة، فقط بهيجة وأختها رابعة بنتي محمد علي، لأن محمد علي كان عنده بنات فقط ولم يكن عنده صبيان، فهي ابنته الوحيدة التي تعلمت، بهيجة قُتلت هنا في لبنان هي وأولادها بتل الزعتر. فبهيجة كانت تتعلم مع الأولاد بالمدرسة.
وبالنسبة للجامع، كان الشيخ محمود الجشي شيخ الجامع، والكنيسة كانت بحارتنا، وكنا نقف نشاهد المصلين على باب الكنيسة. وكان المسيحيون محترمين، لا يسكروا ومثلهم مثل المسلمين، وكنا سعداء معهم (بالحارة الشمالية). كان في ولي نزوره باستمرار، كانت الناس تذبح وتنذر وتذهب عند الولي الى سبلان لتزوره.
وفيما يخص الوضع الصحي، لم يكن هناك عيادة في سحماتا، فكانت الناس تذهب الى ترشيحا للطبابة، وفي ترشيحا كان فيها أطباء وعيادات.
وفي آخر الوقت قبل النكبة، بدأوا بتصليحات في البلد، بلطوا الطرقات ولكن لم نبقى طويلاً وخرجنا من سحماتا.
كذلك كان في مطّهر يدور بالبلد وهو عبد الرحمن الشيخ ويطلع الى الصنيع. وكان في مجّبرين كثر، أذكر واحد من بيت خشان (كامل خشان) ومن بيت حمود والداية كانت ستّي حمدة سلمون، كانت تولّد المرأة وتذهب.
كان عندنا نبع ماء، وفي كل بيت يوجد بئر وهو للعمل وليس للشرب والعين كانت النساء تحمل الجرّة على رأسها تذهب مبكراً الى العين، وحال الفتاة التي تذهب الى العين كأنها ذاهبة الى عرس، تلتقي مع وصديقاتها وأخواتها وبنات جارتها. فعلاً كانت الناس تعيش بسعادة.
وكان لدى الأهالي كثيراً من الطرش، وكل بيت فيه فدان، وفي منطقة إسمها وادي الحبيس بين سحماتا وسبلان فيها نهر، تأتي كل الرعيان والطرش إليها لترعى وتشرب.
في ذلك الوقت لم يكن يوجد كهرباء، كان في بوابير، بابور رقم 4 أو 2 لوكس، كنا نشتغل كل الشغل على ضوء البابور نحيّك ونخيّط.
كان في دكان لبيت أحمد القرم (سلمون) وعلي فجلة. كانوا بالساحة، كان يبيعوا قماش، كل حاجات النساء فيها من خرز وقماش. ومن كان يريد التسوق ويشتري أغراض كان يذهب إلى عكا وترشيحا.
وكان في أيضاً لحامان إثنان أو ثلاثة، ومحالهم كانت بالسوق بالساحة.
الناس كانت تحضر أكل على قد حاجتها، وكانوا يعملوا تعليقة لحفظ ما تبقى من طعام. وكل بيت كان فيه طيور، يذبحون حاجتهم منها ويأكلونها طازجة.
ولم يكن هناك أفران، كل بيت يخبز ويعجن على الصاج. كنا نعجن عجين 10 كيلو طحين وفي صاج وموقدة ونخبز عليها الخبز. ونعمل الكعك في العيد بالفرنيات.
نحنا خرجنا في العام 1948، كان جيش الأنقاذ موجداً، جعلنا نركض. لما أتى جيش الإنقاذ الى البلد، ذهب والدي إليهم (في الكوربة)، فلم يجد عندهم خبز، فقال لفاطمة ماذا عندنا من الخبز، قالت له عندنا قليلا من الخبز وبالكاد يكفينا، ولكنه رغم ذلك أخذ الخبز وذهب به وأعطاه للشباب. أما أختي عجنت طحين من جديد، فجاء الطيران، فلم نلحق نخبزه، وبقوا العجينات. جاءوا أخوالي وأخذونا معهم الى لبنان، فذهبت أنا وأخوتي معهم، فحملت أختي العجينات معها، وأخذت فراش، فحملنا العجين من سحماتا وخبزناهم بالرميش في لبنان، فوصلنا الى رميش عند بيت جدي في لبنان.
كان عنا خياطات لكن ليست رسمية، وكانت العروس تذهب عند عليا الكُبا بترشيحا متخصصة لخياطة ملابس العرائس.
كل حارة فيها خياطتين أو ثلاثة، ولكن ملابس رسمية كنا نذهب على ترشيحا. وأغلب النساء متعلمة التطريز الفلسطيني على القماش.
كان في راديو بالبلد، مثل الصندوقة، وكان في صندوق الفرجة للأولاد ليشاهدوا القصص. هذا الصندوق يأتي به ناس من خارج البلد. وكان الناس مشغولة بشغلها وفلاحة الأراضي، حتى تركوا العِلم.
لم يكن هناك صالونات حلاقة. ولكن كان نساء متخصصات بترز العروس مثل أم فريد، وخزنة مخائيل (مسيحية) سكنت بفسوطة. وكان في مبيضين طناجر، كانوا يأتوا من جويّا (لبنان).
كان عندنا شجر تين وزيتون، كنا نحن أولاد صغار ننصب مراجيح بينها، ونعمل بيوت للعب ونعمل حالنا نطبخ تحت الشجر ونتسلى، كنا مرتحاون كثيراً. كنا نزرع، المرأة تشارك الرجل في الارض، الرجل يذهب إلى الفلاحة وزوجته معه، وترجع المرأة الى البيت وتشتغل وتطبخ وتغسل.
كنا نزرع القمح (الحنطة) ونزرع فول وعدس وشعير، وشجر الزيتون والتين والصبير. كنا نرميهم وقت قطافنا للزيتون، ونجمع الزيتون بالبيت، هكذا حتى يملا البيت ولآخر الموسم ثم نذهب الى المعصرة ونأخذ دور، ثم نعصر، كان بجانبنا معصرة لدار حسن فضة وكانوا يأخذون زيت أجرة. وقت الحصاد كان الشباب والصبايا يغنون.
وكانت بالصيف نزرع دخان، نزرع ونحصد ونشكه دخان من الصباح حتى المغرب، وبعد ذلك الدولة البريطانبة كانت تأخذ الدخان بعد رزمه، ويورده الى الناصرة، فتأتي الحكومة تشرف عليه وتصدره.
وعند خروجنا من فلسطين، أخرجنا معنا طرش، وصلنا لحدود العباسية، من رميش للعباسية مشي على الأقدام عبر الوديان (نمنا برميش) ثاني يوم ذهبنا الى العباسية. وأخذنا معنا أوراق الأرض كلها. يقال أن هذه الأوراق موجودة عند بريطانيا، ولكن النسخة التي كانت معنا سرقت في الراشيدية.
غادرنا الرميش صباحاً ومشينا الى وادي جيلو، وقانا ومعركة، ثم وصلنا الى العباسية.
ونحن في سحماتا، أذكر عندما كان البريطانيون يحكمون البلاد، وفي إحدى المرات صار في اشتبكات وقتلوا بريطانيين فهربنا الى حُرفيش، لأن الجيش جاء يخرب البلد، ثم رجعنا الى البلد، وجدنا الزيت بالشوارع، لأن الناس كانت غنية بالزيت، خلطوا الزيت بالطحين والقمح والعدس وذبحوا الطرش.
كنا نذهب الى عكا زيارة، والى النبي شعيب، وسبلان (الولي سبلان). كنا نذهب بالباصات، أذكر بعكا كنا نزور جامع الجزار، معلق فيه طاسات فضة. وننزل الى شط البحر والرمل، ونتسوق وثم نرجع بالباص (باصات دلاعة) وهذه الباصات خرجت الى لبنان.
ونهاريا بجانب عكا، كنت أروح عند دكتور عيون هناك (إسمه أردكيان) ستي فاطمة الحجار كانت تذهب لتحكم عنده ومرة أعطاني قرشين فلسطينية.
شهر رمضان، كانت الناس تحضر له قبل شهر، تجهز الأكل والشرب وكانت الناس تعمل عزايم، كانت الناس تأكل عند بعضها. وكان في مسحراتي يوقظ الناس على السحور. والعمل بالفلاحة كان هو نفسه في رمضان.
عند المغرب على الإفطار كنا ننصت حتى نسمع الآذان، وفي العيد كان الرجال يصلوا صلاة العيد، والناس تعايد بعضها، ويزوروا المقابر ويوزعوا كعك ويطبخوا. أما في ذكرى مولد النبي، كل الناس تعمل واجبها.
في الزواج، كانت الناس تطلب العروس من غير ان يراها العريس، فيتم الموافقة ويعطون العروس، لا يلتقون خلال الخطبة، وعند العرس تُعزم بقية الناس، وكل أهل البلد ينقطوها وليس الاقارب فقط. والنقوط عادة من الذهب من أهل العريس والأقارب. كنا نعلل 7 ليالٍ، 7 ليالي مثل شعيرية يغنوا ويرقصوا، ويوم العرس يعزفوا.
كل شيء حليب ولبن يأتي لأهل العريس في البلد للطبخ، ويسير العريس والعروس بيعزموها خالها أو عمها والعريس نفس الشيء.
يتحمم العريس ويحلق، والعروس نفس الشيء، ويأخذون العريس الى البيدر وتبقى العروس لوحدها بالبلد. وفي البيادر تقوم الشباب بالدبكة، الشباب لوحدهم والصبايا لوحدهم، ثم يسحجوا أمام العريس على المهرة ويغنوا للعريس.
كانت النساء تقول:
جينا نهنيكم يا دار الهنا جينا نهنيكم لقينا الهنا
يا دار أبو فلان يا عالية البنا يا عالي يا مسكن الحكام
كان في حدى يأتي من خارج البلد كامل العلي من كفرسميع ومن قرى أخرى.
كان في حداي عينه كريمة (أعور) اسمه أبو عابد من حطين، وعند نزوله بالسحجة كان يقول للحداي الآخر:
أنا الحطيني من الطيني أعور من عيني اليميني
في حال وفاة أحد من القرية، كانت الناس متضامنة أكثر، كان إذا توفى رجل كبير في السن من البلد، كانت البلد كلها لا تدق كبة حتى يدق أهل الميت، أو الغسيل وكان أهل الميت تدق كبة وتغسل خصوصي حتى تجعل الناس يعملوا ويغسلوا نفس الشي.
كانت الناس تروح الى الحج، كانت رحلة الحج مكلفة وكان في مشقات بالسفر.
في ثورة الـ36، كنا صغار وكان يأتي الإنكليز الينا ونحنا نائمون، والشباب تهرب الى الخارج، الشباب يقطعوا الشوارع ويحفروا فيه ويخربوه حتى لا تأتي الدورية وتستطيع الدخول. فتأتي الدورية وتطوق البلد، والشباب تهرب من البلد وليس معهم سلاح يقاتلون فيه. ومن تـأتي الختيارية في النهار وتردم الحفر التي حفرت بالليل.
عمي محمد يوسف كان قائد في الثورة، أهله أغنياء وعندهم مواشي كثيرة، ذبحها كلها للثوار، وكان عمي شخصية وعنده مهرة وله قيمته، والإنجليز دائما كانوا يطاردونه، فيبقى خارج من البلد. ويوم جاء الثوار وقالوا سنذهب الى الدير والبعنة دورية، فطلع معهم الى المهرة. فجأة طلع الطيران بالهليكوبتر، وكشفته المهرة، كانت مربوطة تحت الشجر، فرأت الطيارة الفرس، فأعطت إشارة أنه يوجد ثوار، فقتلوه. فوصل الخبر الى البلد أن محمد يوسف قُتل، فأخذه الثوار على الجمل ولفوه وعاد أبي الى البيت ملطخاً بالدماء، فقال لأمي قُتِل محمد ولكن لا تخبري أحداً. فطلع النهار فوجدنا البلد مطوّقة بالإنكليز، يبحثون عنه. فدفنوه بمنطقة إسمها المرشقة، وبقي مدفون هناك 4 – 5 أيام، وعندما غادر الإنكليز سحماتا عادوا ونقلوه الى مغارة إسمها مغارة النسر. وكان الإنكليز كل فترة تطوق البلد وتبحث بالمقابر على قبر جديد ولكنهم لم يجدوه، والإنجليز يجمعون أهل البلد على البركة، لحتى نسوا أمره. وبعد ذلك بفترة ذهبوا الى المغارة وحفروا قبره وأخذوه ونقلوه الى مقبرة البلد حيث دفن هناك.
قبل العام 1948 بقليل، كان الشباب من أهل البلد يحرسوها على طول، كل ليلة في حراسة ونحن في آخر البلد، كل ليلة يجتمعوا عند أبي بالمضافة، ويعملوا شاي ويسهروا ويحرسوا. وفي ليلة وصلت أخبار عن سعسع أنها دمرت، وأن اليهود دخلوا عليها ولغموها وماتت الناس. ولكن بسحماتا لم يدخلوا. والشباب كانوا نذهبون الى الجبهة للقتال.
كان الرجل يبيع الفدان ويطلع الى لبنان ويشتري سلاح حتى يقاتل. شراء السلاح كان تهريباً حتى يقاتلوا فيه.نحن كان عندنا بارودة كندية وخرجنا بها الى لبنان.
كان في ناسمن ترشيحا والكويكات والكابري كانوا يهربون من قراهم الى قريتنا سحماتا أيام حتى انكسرت ترشيحا، فهي قريبة جداً على سحماتا، ما اضطرنا الى مغادرتها. كانت الناس تستضيف بعضها من القرى الأخرى، المناخ كان صيفي وهناك من كان ينام تحت الشجر وخارج البيوت. أذكر استشهاد ابن جيراننا، (من بيت إلياس قيصر) أخو المختار جريس، عندما دخل اليهود سحماتا، قتلوا 11 شخص.
أهل الكويكات إلتقينا فيهم بلبنان على الحدود وأخذونا الى العباسية وما زال أهلي هناك بالعباسية. المشهد الذي جعلنا نترك البلد، هو أول يوم العصر كنا بالبيت نخاف من الطيران، شفت الطيران علينا، فخفت وهربت، ورموا أول صاروخ واختبأت تحت التينة، فدمر الطيران البلد. وكانت معي زينب بنت الشيخ شحادة هربت معي واختبأت بالصبرة من الخوف. وهربنا الى أرض الغيابر ملكنا وكنا نعجن هناك، بقينا حتى انكسرت الجبهة وصار الجيش العربي ينسحب، ورجعنا تحت الزيتون فصرنا نهرب عبر الشارع الشمالي حتى وصلنا الى لبنان.
وصلنا الى الرميش وكانت مليئة بالناس مثل النحل والناس نايمة على الأرض، وأهل الرميش مسحيون، أخي وأبي بقيوا بفلسطين ولكن أنا وأخوتي وأمي هربنا مع خالي.
بقينا بضعة أيام وجاءت الوكالة وصارت تأخذ الناس وتوزعهم على البقاع وبيروت وصور، وتفرقت الناس. من ذهب عالمخيمات ومن ذهب على الصنيع.
يا ريت نرجع على فلسطين، إن شاء الله راجعين، بكل دقيقة تخطر ببالنا العودة، يمكن أرجع حافية على فلسطين، وأترك كل شيء ملكي هنا وأذهب. إذا بمشي من العباسية على الرميش أعرف كيف أصل.
نتأمل أن نرجع، وإذا لم يكن لنا نصيب العودة، إن شاء الله الجيل الثاني (أنتم) ترجعوا وتروا فلسطين جنة البلاد الجميلة، لا يوجد بلد مثل فلسطين.