وفاء حسين أبو حمد، مكان الولادة حيفا 1943.
كان أبي يسكن بالناصرة، انتقل إلى حيفا لأنه كان يعمل بشركة أرامان للدخان وكان مديراً فيها. ثبتنا بحيفا فهي كانت حلوة كثيراً، شوارعها جميلة، كان لي خالة إسمها فاطمة خيزران متعلمة بدار التربية والتعليم، ذهبت الى ترشيحا، والى حيفا، وكانت تأخذنا الى المدرسة أنا وأختي.
كان هناك بحراً وشاطئ، وأبي حدثنا عن مستشفى هدارا كرمل، عندما يمرض أحد منّا يأخذه الى هناك وكانوا يحكموا يهود فيها وليس إسرائيليين.
وكان بيت جدتي في الطابق الأرضي ونحن فوقهم، والمنزل فيه بئر ماء. حيفا مدينة جميلة وبناها جميل وبحرها وجوها أجمل. من عائلات حيفا، بيت الحاج خليل، وبيت ميسر واللحام.
كان في قهوة، اذا الرجال أنهت عملها كانوا يذهبوا اليها ويتسامروا ويشربون اللقهوة. صاحب القهوة كان من عائلة الخليل الحاج خليل (قاعدون ببيتهم).
كنت أروح على مدرسة (حيفا) أنا وأختي وتعلمنا. (مدرسة حيفا الرسمية)، كنا نجلس البنات والصبيان بجانب بعض. والمديرة من بيت اللحام، وخالتي كانت تعلمنا عربي وإنجليزي وحساب. أذكرها جيداً للمدرسة، كان هناك رجل مصري يعمل عند أبي وكان يأخذني الى المدرسة. ثم صرنا نذهب لوحدنا.
أنا لمّا خرجت من فلسطين أكمّلت تعليمي في لبنان بشاتيلا حتى البريفيه. كنا بحيفا ندرس 4 ساعات فقط حتى وقت الظهر ومن ثم نرجع الى البيت.
كان في مساجد بحيفا، كان أبي وجدي يذهبون الى المساجد، ويوم الفرص يذهبون الى القدس ليصلّوا فيها. لكن نحن كان عندنا مسجد الجزار بوسط عكا، جدتي والدة أمي كانت ساكنة بعكا وعندما تزوجت والدتي ذهبت الى حيفا وأنجبتنا فيها.
عندما ذهبنا مرّة الى عكا، قالت لنا هذا مسجد الجزّار، بناه شخص بناءاً مرموقاً (البناء عجيب)، هذا الذي بناه قال لواحد آخر هل تستطيع أن تبني مثله، فقال له: أبني أحسن منه، فقتله صاحب المسجد حسبما يُشاع.
وكان بعكا سرايا عبد الله باشا، بيت أهلي يطل عليه. وكان في المدينة أيضاً عيادة صحية للطبابة والتطعيم، مفتوحة للجميع.
لم يكن في حيفا مستعمرات، ولم يكن فيها يهود، أخي صغير كانت حرارته ترتفع، فطلع الحكيم يهودي فقال لأبي لا بأس لأن ابنك يعاني فقط من بداية بروز أسنانه.
كانت الكهرباء موجدة في تلك الأيام، كان فيها كهرباء عامة، والسلطات البريطانية من وضعت الشبكة، ولم تكن الكهرباء تنقطع إلا في حالات نادرة، وعند القطع كان يستعمل قناديل كاز.
أذكر أن والدتي تعطيني تعريفة (مصروف)، فتملأ جيوبنا مضافة وفستق. كنا نستعمل الليرة الفلسطينية، لم نتعامل بالمقايضة كما كان يفعل أبناء القرى.
كان في ملحمة، صاحبها الحاج مختار، كانت جدتي تعطيني ورقة عليها طلبات اللحمة، وفي مرّة من المرات خزقت الورقة فضربني اللحام.
وكان في فرن قريب منا وفي عكا. كان عندنا منزلان الاول في حيفا والثاني في عكا. كان أصحاب أبي يلمّوا حالهم ويذهبون الى القهوة.
وكان هناك حلاق يدور على البيوت يحلق للرجال والشباب. وكان في ملاعب يلعبون بها كرة قدم وبالحبل والحجارة الصغيرة (الزقطة). أنا لعبت بالحجارة.
كان في وجهاء للمدينة، من بينهم المختار وجدي وكان مفتش معارف واسمه عبد السلام خيزران، يفتش على المدارس.
من الوجهاء واحد من بيت اللحام صاحب أبي، وصاحب جدي شيخ كبير (أحمد خيزران) يؤذن بالجامع، وواحد من بيت اللحام (كان يذكر إسمه أمامي).
أنا زرت القدس وذهبنا اليها بالسيارة لنصلي الجمعة، كنا نحب الذهاب مع أبي إلى هناك دائماً.
كان الرجال يدخلون للصلاة ونحن نبقى بالخارج نلعب وننتظرهم، ثم نعود. كانت السيارة لوالدي. كان يأخذنا إلى بيت لحم، إلى عكا والى الشاطئ. الشاطئ كان رمله ناعماً ونظيفاً، كنا نحب المكوث هناك كثيراً.
أغراض البيت كان الرجال يُحضرونها، المرأة منقبة ومتسترة، ولا تخرج كثيراً من البيت.
أما في الأعياد، كنا نُحضّر للعيد قبل 3 – 4 أيام، نعمل المعمول والحلو من جميع أشكاله ونرسلهم الى الفرن. ونوزع جزءاً منه عن روح الأموات. وكنا نزيّن ونُحضّر الملابس الجديدة. كنا نعمل عريسة (نمورة) وغيرها من الحلويات. كنا نأكد كلنا عالطلبية، كل العائلة تجتمع حتى عماتي تأتي الى بيتنا.
في شهر رمضان، إذا كنّا بحيفا ننزل عند جدتي والدة أبي، ويجتمع عماتي وأعمامي. وإذا كنّا بعكا كان جدي والد أمي يجمع الأهل كلهم ويعزموا كثير من الناس في رمضان.
كانوا يطبخوا اليخاني والعصير والسوس والجلاب ويحضروا الماء، وأذكر المسحراتي يحمل تنكة ويوقظ الناس بالضرب عليها ويقول: «يا نايم وحّد الدايم»، ويدقّ ويسمي أسماء الجيران كلهم، وهو إسكافي بالاصل لكنه كان يعمل مسحّر ليلاً، لم يكن يطلب نقود ولكن أبي كان يعايده ويعطيه طعام.
كنّا نصلّي صلاة التراويح، الرجال يذهبون الى المساجد والنساء تصلي في البيت.
أما عيد الضحى، نحضر الملابس والحلو. ثم يأتي جدي ويضع نقود بجيوبنا، ويزوروا التربة ويصلوا ويستقبلوا المهنئين، ويذبحوا بقر (عجل) جدي كان تاجر قمح (أبو أمي) وكان وضعه المادي جيد، يذبح عجل صغير ويوزعه عالناس.
كانوا في ذكرى المولد يِحضروا إمرأة (أم كلثوم) ويقرؤا المولد ويوزعوا الحلو، ويوزعوها الأولاد.
كان هناك الحاجة زكية تأتي وتعلّم أمي وخالاتي القرآن، جاءت معنا إلى لبنان، كانت تقرأ الموالد. كانت أمي تقول في تاسوعة وعاشورا لموسى يصوم الناس فيه. أمي وخالاتي يصومون هذه الأيام الفضيلة.
في إحدى الأيام والدي اصطحبنا عند ولي وزرناه لكني لا أذكر إسمه، كان يسكن في مكان قديم وملفوف بغطاء أخضر.
أنا غير متزوجة، ولكن عند الزواج كانت البنت تُطلب من والدها، من دون رؤية البنت. كان أهل العروس يتعرفون على أهل العريس وثم يتفقون على الزواج، فتخرج البنت للحظة ليروها، إذا تمّ الإتفاق يقرؤا الفاتحة، ولكن لا تجلس مع عريسها أبداً. وليلة العرس، كانت تتحنّن العروس ويحمّوها، ويجلوها بالشمع. كان الشيخ يأتي لكتب الكتاب، الرجال كانوا يروا المأذون، وليس النساء. خالتي زفّوها على فرس وزينوا فرس، ثم أدخلوها إلى بيت زوجها. كانوا يستخدموا الشمع كثيراً.
كانوا يقولون للعروس:
«إن كان في مسمار ببيت أبوكي إقبعيه وخذيه معك»
كان في مقبرة كبيرة للمدينة كلها. عند وفاة شخص من المعارف، كانت الناس كلها تأتي للعزاء. ويغسل الميت أي شخص قريب له. والنساء لا تخرج أبداً.
كنا نودّع الحجاج في كل سنة عند ذهابهم الى الحج، حيث كانوا يذهبون على الجمال ولم يكن هناك مواصلات. جدتي أم والدتي ذهبت على الجمل، والحاج قبل ذهابه يستسمح الناس. عندما يأتي الحجاج من الحج كانوا يذبحون الذباح حمداً لله على سلامة الحجاج.
أحداث النكبة
عندما دخل جنود الإحتلال، جاء العامل (الشغيل) الذي كان يعمل عند والدي ليأخذنا من المدرسة لنهرب، فرفضنا الذهاب في البداية، ولكن بالآخر ذهبنا الى البيت، فوجدنا أهلي يوضبوا الأغراض للهرب. وكانت الأخبار وصلت أنه بدير ياسين يذبحون النساء، قال والدي لأمي أننا سنذهب لـ 15 يوم فقط، أعاهدكِ، فخبأ النقود والأغراض وأقفل عليها بالخزنة، أخذ معه فقط جالون كاز، لأن الكاز مقطوع في لبنان.
رأيت الناس تركض من الخوف، ولكن لم أرى القتل والضرب فقط كنا نسمع عنه. كان في ثوار كثير، الثوار كانوا يطلقوا النار على اليهود وهم ملثمين.
حيفا كان فيها ثوار كثير، الحاج حسين الحسيني، كانوا يتفاوضوا معه لتقسيم فلسطين ولكنه رفض، قال يا فلسطين كلها يا بلا. جاء أبي وقال لنهرب 15 يوم ونرجع. فصارت أمي تبكي. ووضعنا بسيارة صغيرة، ونزلنا على صوفر بشقة، كان برد كثير، فنزلنا عالنبطية وبقينا أربع سنوات.
الثوار كان سلاحهم بسيط، كان في إمكانيات للثورة والدغاع عن الوطن.
كانوا يدوروا بالليل دوريات، كان يأتي دفعات ومعونات من خارج البلد.
قالوا بدير ياسين اليهود ذبحوا إمرأة حامل، فخفنا وهربنا. كانت الأخبار تنتقل بين الناس والثوار، فنعرف ماذا يحدث بالقرى. وكان في راديوات لسماع الاخبار.
خرجنا من فلسطين بـ 23 نيسان 1948، لم نكن أول الناس ممن خرجوا، فوجدنا صوفر مليئة بالناس، وكانت باردة ولم يكن معنا ملابس كافية، فذهبنا إلى النبطية فسمعنا أنها حلوة كثير، أخذنا بيت وبقينا فيها.
عندما خرجنا من حيفا كنا خائفين ونبكي، ولم نخرج شيئاً أبداً من فلسطين فأخرج والدي كما ذكرت جالون كاز.
أخت زوجة عمي، كانت مولّدة قبل ثلاثة ايام من ذلك، خرجت تركض من الخوف وزوجها كان جهّز سيارة للهرب، فسألها زوجها أحضرت الولد؟ فقالت نعم. في هذا الوقت قام زوجها بنقله من محل الى آخر، فهي عند الهرب والخوف وضعت يدها مكان الولد الأول وحملت المخدة وهربت. وصلت المرأة إلى صور هكذا وعندما وصلت، إنتبهت أن الولد ساكت ولم يبكي، ولما نظرت إليه فإذ موجود بالملفة المخدة وليس إبنها، فكان وضعها مأساوياً جداً. فقال لها زوجها إرجعي وأحضريه، فقالت له لن أرجع وأحسب نفسي لم ألد.
كان زوج خالتي الشيخ موسى الطبري، يعمل مؤذن بالجامع، لحق أبي إلى منتصف الشارع منادياً إياه بأن يبقى. بعد ثلاث أيام من زواج خالتي حدثت مشاكل بينهما، كان زوج خالتي اشترى كل أثاث أهلي وأغراضهم على أمل أننا سنرجع إلى فلسطين قريباً.. ولكننا لم نرجع.
مازلنا نحتفظ بمفاتيح البيت بفلسطين، على أساس أن العودة بعد 15 يوماً. خرج معنا، ثلاث أعمام وأهلي بالإضافة إلى أبي وأمي، وباقي العائلة بقيت كلها هناك في فلسطين.
غادرنا من حيفا إلى الجبال، حتى وصلنا لصوفر عن طريق الناقورة، كنا صغار ونبكي وأذكر كيف كانت أمي متعبة، مررنا بأوتيل صغير ومكثنا فيه ليلة وحدة، جاء شخص وأعطانا غطاء.
أكملنا مسيرنا من صوفر الى أن وصلنا النبطية. والدي لم يحاول العودة الى فلسطين بعد الخروج. وعندما كنا في صوفر، قدم لنا اللبنانيون أغطية ومناقيش وفرش إسفنج.
وثم في النبطية، وأخذنا بيت (أصحابه من عائلة جابر) كانوا خير الناس، فقدموا لنا كل شيء (بيت مفروش). وصرنا بعد ذلك نذهب الى المدرسة بالنبطية. بعد النبطية، خرج أبي يبحث عن عمل، فأخذه رفيقه الى الشياح، فوجد بيت لنا، كان لعائلة كنج، فذهبنا هناك وسكنا فيه، وأنجبت أمي هناك بنت وصبي. ثم نزل والدي إلى رأس بيروت، فوجد دكانة معروضة للبيع بـ 5 ليرات، حينئذ باعت أمي خاتمها الذهبي ليشتري والدي الدكانة، وفعلاً إشتراها، ثم إستقرينا برأس النبع ببيروت وبقينا نحو 30 عاماً هناك. بعد ذلك عاد أهلي أثناء الإجتياح من فلسطين إلى صور، (أولاد خالتي وغيرهم). وسجلنا بوكالة الغوث (أنروا)...
لو أعطوني ملايين الدولارات لن أستغني عن فلسطين، لو نحن نعيش ي قصر بلبنان نستبدله بخيمة ولكن في بلدنا.