نحن شعب الجبارين، لا ننسى بلدنا بتاتاً
أنا سعاد محمد أبو الشباب، من قرية سعسع قضاء صفد، بلدنا على جنوب لبنان إلنا أراضي كثيرة بجانب الرميش، وكانت مشهورة برزاعة الدخان عند الحاجز (UN). عندنا بسعسع كروم زيتون وتين وعنب وأراضي تُزرع قمح وحنطة وعدس وفول... والدخان كان يجمّع ويصدّر على صفد للتجارة.
وكان عنا بستان تفاح وسنة التي خرجنا فيها كان البستان مليء بالتفاح.
نحن حزنا كثيراً على بلادنا التيي ذهبت.. نطلب من الله ومن ثم الدول أن يساعدونا، لنرجع إلى بلدنا.. لو نصبنا خيم بأراضينا يمكن لنا أن نعيش.. فبلدنا ليس فيها بيوتنا حالياً، فقد هُدّمت البيوت ولم تُعمَّر.
الدول العربية هي التي خدعتنا لمّا خرجنا، اليهود كانوا يأتون الى بلدنا ولغّموا حوالي 12 بيت، وهبّطوهم على أصحابهم. ونحن لم نكن ننوي الخروج، صاروا يقصفوا على بلدنا من قرية الجش، فهربت الناس كلها.
الناس خافت على عرضها وعلى الشباب، لأنهم توحشوا في دير ياسين والصفصاف حوالي 70 شاب من الصفصاف صفوهم على البركة ورشّوهم بالرصاص. أما من سعسع فقد توفي بعض الأشخاص كانوا مع الثوار، فقد كان معهم بنادق، كانت البندقية شكل والرصاصة شكل ثاني، فكانت تفجر بالذي يحملها، أي أن السلاح كان مغشوش.
كان في جامع ومدرسة ببلدنا، أذكر والدي كان يحدثنا عن الجامع والمدرسة. كان عند والدي أرزاق كثيرة، كان عنا كرتونة كبيرة مليئة بأوراق لفلسطين ولكن سنة الإجتياح 1982، كان أهلي بخيزران ونقلوا الى صيدا في ذلك الوقت. بنى والدي وعمتي مع بعض بالسكسكية (على طريق مدينة صور) وبقيت هذه الكرتونة على الخزانة لم نحملها وعندما دخل اليهود ومن خوفنا ومن خوف والدي وزوج عمتي جمّع كل ما عنده من صور وأوراق مهمة وحرقها كلها.
جماعتنا وأهالي بلدنا اليوم كلهم مشتتّين بالبداوي ونهر البارد وطرابلس والوادي. كانت الناس بسعسع تحب بعضها البعض، على حد قول والدي.. مرة جاء يهودي متنكر على أنه فلسطيني ودخل البلد ووجد إمرأة تبيع البيض فإشترى منها بيض وسألها هل يحرسون البلد بالليل.. فقالت له: لا، فبعضهم على خلاف دائم.. بنفس الأسبوع دخل اليهود ولغّموا البيوت.
خالي كان يسهر وأحس على الألغام وبدأ يدق على كل البيوت وقال لهم أخرجوا قبل أن تنفجر الألغام. وبدأ الشباب بفك بعض الألغام قبل إنفجارها.
نطلب من الله أن يحببنا ببعضنا البعض.. نحن هنا محرومين الحياة.
بيتنا كان فيه نبض الدار بيت كبير كتير (إسمه بيت العائلة) وكان فيه غرفة كبيرة وكان فيه مضلفة لجدي، ودار كبيرة. هذا ما أذكره، كنت صغيرة، المضافة كانت لإستقبال الغرباء وأهل البلد. كان جدي من وجهاء القرية يستقبل أهل القرية وشبابها.
كنا برمضان نتجمع بالبيت الكبير، ونتناول الفطور بشكل جماعي مع بعضنا. وأكلنا كان مثل الفريكة والكبة والكبسة والمقلوبة وورق العريش، أطيب أكل كان يُطبخ.
المرأة في سعسع كانت تطرز وتجهز أكلها، لأنها ثاني يوم كانت تذهب أعلى الحقلة للزرع والفلاحة والحواش وتخبز بالليل. والرجل كان يشتغل بأرضه بالنهار وبالليل كان يزوران الأهل والأصحاب.
حتى عندما وصل اليهود الى بلدنا والدي كان ذاهب الى بنت جبيل الى لبنان ليحضر كراسي لينشأ مقهى.
أما الأعراس الفلسطينية، كما يحكوها الكبار، مثلاً إبن العم يخطب بنت عمه ينزّلها عن ظهر الفرس، وكان العريس لا يتحدث ولا يقابل العروس إلا بالنادر، إلا إذا كانوا أقرباء.
ووقت العرس كانوا يعللوا 7 ليالي للعريس والعروس وكانوا يطبخون للعرس كل الطبخات الكبيرة، وكان هناك ليلة للحنّة. وكانت المناسبات كالأعياد كانوا يذبحون الذبائح عند بيت جدي.
كان في سعسع مقبرتين، واحدة للكبار وأخرى للأطفال، وكان في مقام الست نفيسة وفوقه توتة، كانوا يقبرون الأولاد حولها، وأهل القرية كانوا دائماً يزورون هذا المقام. ولكن مقبرة الكبار كانت غير مقبرة الأولاد.
والدي كان يخبرنا عن الآثار والمغر، كان اليهود يأتون بجنسيات أخرى ويعرفون عن أنفسهم على أنهم أجانب، ويأتون ويصوروا الآثار.
لم يكن بذلك الوقت لم يكن هناك كهرباء، كانوا يضيئون بنور الكاز، عليه زجاجة وبالكاز، وكنا نعلقه بالحائط، كل غرفة فيها زجاجة.
كان يأتي الى القرية أشخاص معهم صندوق الفرجة ويلتم عليه الكبار والصغار ليروا ما بداخله، كانوا يعرضون فيه ألعاب وأحداث.
والدي كان يخرج ليزور قرى أخرى، عندما كان يأخذ الدخان ليبيعه في صفد ويأخذ التين اليابس (المجفف)، وياخذوا نقلات كثيرة الى صفد للتجارة، تُؤخذ البضاعة على الدواب.
سعسع فيها ماء كثير بالأراضي، كانت الناس تعبئ الماء بالجرار من العين وتُحمل على الحمير. كان في بركة ولكنها للدواب وليس للشرب.
ليس هناك إمرأة تجلس بالبيت، التي تجلس بالبيت تكون حامل أو مولدة حديثاً. وكانت تحضّر الأكل وتبعته للذين بالأرض.
ومن كان ليس عنده أرض يساعد من عنده أرض، الناس كانت متعاونة الى أبعد الحدود. أمي كانت خياطة. عندما تأتي إمرأة تريد أن تخيط فستان، كانت أمي ترسلها الى الأرض لتعمل بدلاً منها، حتى تستطيع أمي خياطة الفستان.
كانت تُقام الولائم من حين لآخر، كانت الناس كريمة، مضافة جدي لا تفرغ من الناس، كانوا يعملون مقلوبة وكبة وأفضل الأكلات، ومسخّن.
وقت النكبة، كثير من الناس خرجت قبلنا، ومنهم من كان يستقبلهم بالكروم والخيم عندنا بسعسع، هؤلاء خرجوا قبلنا، نحن آخر ناس خرجنا، غادرنا كما ذكرتُ بسبب الأحداث مثل دير ياسين والصفصاف. ومن الخوف خرجنا، والدي كان في بنت جبيل وجاء فوجد الناس يفرون تحت الزيتون، وليس معهم أكل، فجنّ جنونه لأنه شاهد معهم أطفال، فقال لأخوته الأكل والقمح والفراش للناس تحت الزيتون، كانت الناس دارسين الزيتون، وكان يوجد زيتاً كثيراً، واليهود كبوا الزيت بالطرقات.
وعند الخروج أصيب الجمل من القصف وهو مُحمّل، فخفف عنه أبي وأخذ الأغراض وتركوه بالأرض وأكملوا الطريق.
وخرجنا الى بنت جبيل، أول ليلة كانت على البيادر في بنت جبيل. قبل الخروج من القرية كان في ثوار من القرية واستشهد شباب كثير منهم ابن عم أبي(حسن كريّم) حيث إستشهد هناك. الثوار كانوا مسلحين (بنادق) ويحرسون القرية، هناك دوامات وحراسات ليلية.
في ناس كان معهم نقود ومنهم جدي كان معه نقود ويُحضرون السلاح ومن معه وكانت النساء تبيع ذهبها والغلة حتى يشتروا سلاح للدفاع. كان أبي شارك بالحراسة، كل السباب يجب عليهم الحراسة، أبي أول من سعى لجيش التحرير الدخول عن طريق البحر (بالراشيدية). كان يأخذ الأكل ويعطيه للثوار.
طلعنا من القرية وكانوا يقولوا أنه أسبوع فقط وسنرجع، منهم من خبّأ ذهبهم هناك وخرجوا، مثلاً زوجة خالي حملت الوسادة بدل إبنها وخرجت، ولكن عندما وصلوا تحت الزيتون إنتبهت أنها وسادة، فعاد زوجها وأخذ الولد من المنزل.
أول قرية وصلنا اليها كانت بنت جبيل، أخي كان عمره 40 يوم، وكان يبكي من البرد، وإذا بإمرأة تأتي وتتعرف على أمي، ومن ثم نيّمت أمي عندها مع الولد.
كان وضع الناس مأساويا، حيث لا أكل ولا شرب يكفي، ينامون بالعراء ولا شيء معهم. ومن بعد بنت جبيل نزلنا الى صور وهناك وجد جدي ناس تذهب الى بعلبك، فحملوا كل الأقرباء مع جدي وذهبنا الى بعلبك.
بصور كان العيشة بهدلة والناس على بعضها، وصاروا يحضرون شهداء الصفصاف الى مستشفى أحمد خليل، كان أبي يقول أن بنات خالاته من الصفصاف، وأصبحن كلهم أرامل.
في بعلبك، كان في بنايات للجيش، وكان كل بناية يجلس 6 عائلات، كانوا يفصلوا بين العائلة والأخرى ببطانيات، كنا بثكنة غورو، وبنى أبي وشركاءه كل واحد غرفتين ووجلسنا فيها 14 سنة، ثم أخرجونا منها عندما أقاموا مخيم الراشيدية. وكانت العيشة صعبة، كانت الماء بالساحات، وكنا نذهب الى المدرسة مشياً على الثلج في ببعلبك كنا نعاني من كثيراً من مشوار الطريق.
والدي فتح محل تجاري وخضار ببعلبك مع أبو مصطفى السيد وعندما جاء للى الراشدية ضمن أرض وفتح فرن وإشترى بقر.
في الظروف القاسية، بالراشيدية، كان تفكيرنا دائما بالعودة الى فلسطين، أبي رجع الى فلسطين ولكن اليهود مسكوه وأخرجوه الى الأردن عنوة، من شوقه لفلسطين، إن شاء الله سنرجع، أملنا بالله كبيراً، سوف نرجع، وإسرائيل ليست قوية لولا مساندة أمريكا.
لو دفعوا لي تعويض على أن أنسى فلسطين، لن أقبل، لا يوجد بلد تغنينا عن بلدنا، بننصب خيم وبنعيش ببلدنا.
نحن شعب الجبارين، لا ننسى بلدنا بتاتاً