حسن مسعد ظاهر – دير القاسي
أفَضَل العيش تحت زيتونة أو سنديانة ولا العيش هنا بقصر
أنا من مواليد 1934، حسن مسعد ظاهر من بلدة دير القاسي قضاء عكا.
دير القاسي بلدة جبلية راقية، مركزها جميل، ولكن لسوء الحظ كانت بريطانيا مستعمرة.. والشعب مغلوب على أمره..
كان هناك نبع تبعد حوالي 2 كيلوكتر ولكن من فقر الناس لم يتمكن أحد من جلب المياه الى القرية، فكنا نعتمد على مياه الجمع، بالإضافة الى البيارة الجوفية.
كان هناك مستعمرة يهود قرب ترشيحا، ولكن عندنا لم يكن عنا مستعمرات بالجليل الأعلى على حدود لبنان لم يكن في مستعمرة.
كان هناك طريق عامة من عكا الى الكابري والى ترشيحا والى سحماتا وثم الى الدير، الدير على حدود لبنان، وكان هناك بلد إسمها فسوطة، فيها مسيحية..
الطرقات معبدة كان فيها سيارات.. وكانت بريطانيا تعطي تصريح لبعض الناس ليعملوا على الخط (أي سواقة السيارات) وليس كل من أراد أن يسوق سيارة ويعمل على الخط كان بإستطاعته ذلك، ولكن بتصريح من بريطانيا.
من عائلات الدير، آل مروف، آل ظاهر، الصادق، مكية، الملك، طه، الساعي، أورفلي.
كان لجدي علي ضاهر مضافة، وهو ديوان للرجال وكبار السن وليس للشباب لضيافة القهوة، وفيها حراس لإستقبال الضيوف.
الدير هي بالأساس من إسمها "دير"، كان فيها قبر محفور حفر ومغاير أثرية وهي على أيام الصليبيين.. أي دير للمسيحيين.
كان عندنا مدرسة حكومية، وعمّرنا مدرسة لصف البريفيه، ولكن الأولاد لم يدركهم الوقت لدخولها للتتعلم.. فقد جاءت "إسرائيل" وخرجنا من فلسطين سنة 48.. أنا طلعت من المدرسة وكنت قد درست سنة ونصف.
كان عندنا مسجدين، والشيخ إسمه يوسف ظاهر.. عندنا مسجدين، لأنه بلدنا عبارة عن حارة شرقية وحارة غربية. لم يكن هناك كنيسة حديثة.. ولكن عندنا مقام إسمه مقام الشيخ جوهر ومقام المباركة بنصف البلد وكان مثل المزار والنذور.
لم يكن في القرية عيادة، ولكن في بلدة قريبة وهي ترشيحا وهي بلدة عامرة وقريبة على المدينة.. فكنا ننزل الى ترشيحا في حال مرض خفيف، ولكن إذا كانت الحالة قوية فكانت الناس تذهب الى عكا وهناك من كان يذهب الى لبنان للطبابة، لأننا أقرب الى الحدود اللبنانية.
كان في واحد مطهّر يأتي من ترشيحا كل شهر أو أكثر الى الدير.. تنتظره الناس.. دير القاسي لم تلحق الكهرباء.. كان الناس يستعملوا البابور "السراج" على الكاز، والكاز كنا نحضره من ميناء حيفا ويأخذوه الى البلد ويبيعونه.
وكان عندنا دكاكين، الحارة الشرقية فيها دكانتين والحارة الغربية كذلك فيها دكانتين وعندنا حلاقين أيضاً، الحلاق عنده محل.. عند كل حي في حلاق..
الدكاكين تبيع السكر والأرز والقماش.. أذكر حلاق إسمه فارس حسن بالحارة الغربية، وبالحارة الشرقية إسمه عمر الشيخ يوسف..
وعندنا لحامين، واحد بالحارة الغربية إسمه إبن صالح شاويش، والحارة الشرقية صليبة مكية.
بالبيوت كلهم كان يتم الخبز والعجين، وكان الكل يساعد بعضهم. بالخبز والزراعة والحصيدة والعمار.
وفي عندنا قهوة.. والمقهى هو المكادن الوحيد الذي فيه راديو بالبلد كلها. ويأتي عليها صندوق العناء.
وكان عندنا نجارين. ولكن نجارين عرب ليس للموبيليا والأثاث ولكن لصناعة الأبواب والشبابيك فقط.
وكان يأتي من صفد عمّار لعمل الحجارة وهي حجارة قطع، يبقى شهر او شهرين لعمل الحجارة.
وفي وقت الأعراس كل الناس تشارك في الرقص والدبكة وعنا عادات جميلة. كان العريس ل أشابين يدعو ليذهب وينام عندهم، يحمموه ويأتي أهل العريس ويحضروا ملابسه على سدر كبير ويرقصوا فيه ويأتي الحلاق يحلق له وأهل العريس يغنوا له:
أحلق يا حلاق بالموس الذهبية، واستنى يا حلاق تايجوا الأهلية..
وهكذا.. وغسّل يا مغسّل للعرسان وبالله عليك.. لا توجعلي العريس بدعي عليك..
ويبقى العريس للمغرب، ثم يذهبون ليأخذوا العروس.. وكان هناك شجرات زيتون يتجمع عندها الأهل وأهل القرية ويأخذوا العريس لعندها ويتم زفّة العريس على فرس حتى يصلوا للزيتونة. ثم يأخذوا العريس لعند العروس ويرفع المنديل عن وجهها ويقبلها من جبينها ثم يذهب الشبابين ويتركوا العريس.. وينتهي العرس.
كان هناك لعب كرة قدم عادي وصغير، ويتم اللعب خلال المدرسة؟
أما الأملاك كثيرة ، بلدنا فيها ملكيات كثيرة، وحولها سحماتا، وترشيحا، وفسوطة، وحُرفيش، وسعسع لحدود الرميش.. وإسمها حوران الثانية من كثر ما فيها خيرات.
وعندنا تتم زراعة الحنطة والدخان، تين وزيتون، وصبير وعنب.. كانت الناس ميسورة ومبسوطة.. تعرف لو أن الشخص عايش بقصر وليس له وطن، ليس لعيشته طعم ونكهة.
الزيتون كان يُعصر بمعصرة البلد.. وآخر الأيام عمّمرنا مطحنة، كنا نطحن لسحماتا ولكن عمّروا بابور بعد ذلك، وقبل أن يكون جاهزا تمام الجهوزية للعمل خرجنا.
وأجر عصر الزيتون كان زيت زيتون.. وليس مقابل نقود.
كان عندنا مواشي غنم ومعزة.. أخوتي كل واحد بشغله.. ولكن أنا كنت أرعى الغنم، ولكن ليلة الخروج كان عنا 85 رأس غنم ولكن بشهر تشرين 1948 تم قصف حوزة الرؤوس، كلها ماتت، وأنا كنت معهم ولكن ربي حماني، فكان منزل الأزان كان تراب.. فكان وقعه خفيف.
أما البيت من طين وتراب وخشب. والناس صارت تعمّر باطزن.. ولكن بيتنا قديم.
لم نُخرج وثائق معنا، لأنه عندما طلعنا، أنا كنت خارج البلد، وعندما قصفت البلد لم أرجع الى الدير. ولم يبق أحد بالدير عندما دخلت إسرائيل.. فكانت الحكومة البريطانية تدخل الى أي بلد وتحارب أهلها وعندما تحتلها وتسيطر عليها وتخرج منها عندها تدخل إسرائيل عليها وتستلمها.
من وجهاء القرية مختارين، غانم حسّون بالحارة الغربية ومجيد السعدي بالحارة الشرقية.. وإذا شخص إختلف مع شخص آخر، لا يمر 24 ساعة إلا وهم قد تصالحوا مع بعضهم..
كان في واحد إسمه علي زيدان (جده لزيدان) كان مثل وديع الصافي وأحسن، في الأعراس ووقت الحجة والحدّاي كان يأتي علي زيدان ويتحدّوا بعض.. ليس عنا مخفر شرطة.. فليس هناك حاجة له..
أنا رغم إنني كنت صغيراً، ذهبت الى فسوطة وترشيحا ومعليا والكابري، وكفر ياسين ولم أصل الى عكا.. كنت أذهب بهدف الشغل بالسيارة.
وفي رمضان المبارك.. في ناس تسحر ليلاً, وعند الإنتهاء من رمضان نصنع الكعك ويذبحون الذبائح على العيد.. وكل الناس كانت تصوم. المسحرون جماعة دراويش.. وفي العيد يبرم على البيوت ويأخذ ما فيه النصيب.
والعيد.. كان جميل والأولاد تفرح كثيراً.. مثلاً: يأتي الشباب والأهل لعند كبير العائلة.. وثم نعايد جيراننا.. ويبرم الحي كله هكذا، أي كل الناس تعايد كل البيوت..
كان عندنا 3 مقابر.. بالحارة الغربية واحدة والحارة الشرقية مقبرتين (واحدة لبيت صادق، وأخرى لبيت مكية وظاهر).
وعند الوفاة، الناس تواسي بعضها بالحزن.. الجيران كلهم يحضّرون أكل لأهل العزاء.. لمدة ثلاث أيام.. وبالاعراس يصنعون الشيء نفسه..
وكذلك من البلاد المحيطة من هو مدعو يحضر معه ذبيحة أو شوال أرز وسكر وقهوة.
كانوا يروحوا على الحج، بعد عيد الفطر مباشرة يعيدوا ويذهبوا على طول، عن طريق الباخرة "البابور"، كان واحد إسمه درويش الصادق، ومحمد سعيد، ذهبوا بالباخرة الى الحج.. والإستقبال حافل بالغاني والزغاريد والأناشيد وكذلك وقت ذهابهم للحج.. وكان الشخص عندما يذهب ليسلّم على الحاج ويهنأه، كان ما يستطيع إعطاءه من مال بجيبه كان يضع بجيب الحاج.. ولكن اليوم الحج أصبح تجارة..
عندما صار وعد بلفور، على اساس أن "إسرائيل" تستلم فلسطين.. من بعد إحتلال بريطانيا لها فتم الموافقة على أن تدفع إسرائيل نقود مقابل فلسطين، بريطانيا إنتدبتها 30 سنة، وحان وقت الوفاء بالوعد.. فجاءت "إسرائيل" للفلسطنيين وطلبت تقسيم الوطن بينهم وكان سيفل دالدين آنذاك الحاج أمين الحسيني، فرفض المشاركة لاوطن، فحصلت ثورة بفلسطين.. وتسلّم القضية الملك عبدالله، فكان تحت الإنتداب البريطاني، وصار الثوار يهاجمون الكبانيات اليهودية، فتضايق اليهود، وبريطانيا ما زالت بالبحر، فطالبت بريطانيا من الملك عبد الله أن يجروا هدنة بين العرب والإسرائليين، فجلس العربي ببارودته الضعيفة في بيته، واليهود بدأوا بتحصين حالهم.. وهكذا أصبحوا أقوى وانتصروا وثم جاء اليهود على بلد بقضاء عكا إسمها دير ياسين وفظعت اليهود بدير ياسين وقتلت النساء والأطفال، فصارت الناس عندما تسمع هذه الأخبار تخاف وتخرج من القرى.. وكذلك في قضاء صفد والصفصاف.. وفرّت الناس من البلاد.. وخرجت منها..
بلدنا طلعت الى الرميش وعيتا الشعب، وبقي فلاح واحد ببلدنا، وعندما دخل اليهود القرية طلبوا من الفلاح أن يذهب الى لبنان ويطلب من سكان القرية أن يرجعوا الى بيوتهم ولن يحدث شيء عليهم.. ولكنهم رفضوا وخافوا من الرجعة ومن اليهود وبطسهم.. وطردوا الفلاح من القرية..
قبل الخروج حصلت بعض المناوشات بين أهالي القرى واليهود.. مثلاً بسعسع وضعوا ألغام في الجامع لحماية الجامع..
لم يكن هناك سلاح قوي.. كان كل إثنين يتشاركوا ببارودة واحدة. وكانت البواريد غالية.. لم يكن هناك سيولة مع الناس لشراء الأسلحة..
بعض الأهالي والرجال من سعسع ودير القاسي ذهبوا فرقة على حُرفيش (وأهلها دروز)، في واحد من صفد له ملكية بحُرفيش وقد تم قتله بحّرفيش، فجاء مجموعة من سعسع ودير القاسي للأخذ بالثأر.. فهرب أهل حُرفيش منها بسبب المناوشات بينهم.
وعندما طلعنا من دير القاسي، حُرفيش قريبة مننا، كان من يريد العودة الى بيته لأخذ أي غرض.. كان يلاقي الدروز أهل حّرفيش في بيوتهم ويطردوه من بيته.
قبل الخروج من القرية، كان يأتي الى القرية ناس لاجئين من قرى أخرى، مثل القرى التي على الساحل مثل الكويكات والنهر.. ووقت الخروج من فلسطين خرجنا سوية.. طلعنا عندما ضربت الطائرة البلدة فهي ضربت الدير ثم سعسع ثم سحماتا.. وطلعنا ونمنا بالحُرش، وبالنهار ذهبنا الى الحدود اللبنانية.. وغادرنا مشياً على الأقدام.
طلع معنا كل بيت ظاهر وعمي سعيد، وعوض عمر، وأخوتي.. على عيتا الشعب حيث كان بيننا تجارة متبادلة..
جئنا من عيتا على صف الهوا (بجانب بنت جبيل)، ومن هناك ذهبنا على مخيم البرج الشمالي بالباص وبقينا 3 أيام وثم ذهبنا الى بعلبك الساعة 10 ليلاً، وتم إستقبالنا ومساعدتنا واطعامنا وتأمين منامتنا.
كانت العيشة بالمخيم بهدلة، الغرفة فيها 3 عائلات، بقينا 15 سنة ببعلبك ثم خرجنا الى هنا في 1963. أخذت كل عائلة غرفة مترين ونصف المتر على ثلاث أمتار ثم بدأ يكوِّن حاله..
بالمخيم هنا كان في مدارس أونروا وعيادات وعمال صحة.. أنا هنا إشتغلت بالفاعل.. كنت أعمل بـ 16 ليرة بالشهر، يومية نصف ليرة ومرة المعلم أعطاني 20 عشرين ليرة ففرحت كثير.
من العائلات التي سكنت حولنا هنا بلبنان عائلات من شعث، وسعسع والجاعونة والمغار، سحماتا.. وكانت العلاقة بيننا جميلة جداً.
عندما جئنا الى هنا، أعطونا لكل بيت رقم.
أهالي الدير لهم جمعية هنا أو رابطة، تقدم بعض الخدمات والمواساة في بعض المناسبات مثل العزاء، ومن أعطى مساعدة مالية، الرابطة توزعها حسب الحاجة.
من ليس له وطن ليس له دين، لا أريد تعويض عن بلدي، فهل أبيع ديني مقابل النقود!!! أفَضَل العيش تحت زيتونة أو سنديانة ولا العيش هنا بقصر.
لا أبيع مسقط راسي، لا أنا ولا أولادي، لا ننسى أن لنا وطن.. واليهود يعتمدون على أن كبار السن يموتون والصغار سينسون، ولكن بالعكس أولادنا متمسكون بفلسطين أكثر من كان له مسقط رأس بفلسطين.