فواز حافظ الشهابي من قرية لوبية، مواليد 1936، لوبية هي في قضاء طبريا، وهي القرية الثانية من بعد صفورية من حيث الحجم وعدد السكان.
لوبية قرية زراعية، تزرع القمح والذرة والسمسم والعدس والفول.
وحول القرية يوجد كروم الزيتون والعنب وفي آخر فترة قبل الخروج توسعّت زراعة الكروم. وتقع البلد على مرتفع عالي وبعيد عن سطح البحر (حوالي 350 متر)، فهي باردة قليلاً، مطلة على تلة ومشرفة على جبال الجولان وجنوبي لبنان.
البلد زراعية ولكن تعتمد على ماء الشتاء، وفيها آبار، ومغاوير قليلة. فيها مغارات أثرية، نظن كانت قبل الرومان وفيها حفريات بالصخور. المغارات هي كهوف قديمة ومنحوتة بشكل جيد وواسعة فنحن قضينا كل المعارك فيها، حيث قريتنا تعرضت للقصف الكثيف. فجاء طائرتان من مطار الجاعونة ونحن نلعب على البيادر، واحدة قصفت موقع "مسكنة" (موقع للثوار)، فيه ثوار من قرى كثيرة.
من عائلات لوبية بالحارة الشمالية، عائلة عطوات، أبو دهيس وأولاده، بالحارة الجنوبية الشهابيين.
كان مختارنا نايف يحيى الشهابي، كان يدير البلد بالنسبة للعائلات والحمايل ويُشرِف على المعاملات الحكومية، للهوية، والسجل، والمختار يُشرف على وضع الناس بالقرية ويحل المشاكل بينهم، وكان يجلس مع كبار وزعامة ومشايخ البلد، وويأخذون أراء بعضهم البعض.
أعضاء مجلس المخترة فواز الشهابي (كان مفوَّض لحل المشاكل الداخلية) فالدولة لا تتدخل بهذه المشاكل وتُحَول للمشايخ حل المشاكل القبلية.
وحسن أبو دهيس، له نفوذ في البلد. وفواز الشهابي كان شيخ المشايخ لحلّ المشاكل.
عمي الشيخ علي صالح الشهابي، كان شيخ وإمام بالجامع، وعندما خرجنا إلى سوريا كان يؤم بالثكنة (ثكنة سيدنا خالد)، وكان أستاذ بالأونروا. والمسجد كان عادياً وعبارة عن مبنى وليس له مأذنة.
كان عندنا مدرسة وهي الوحيدة تمهيدي أولى وثانية وعمي الشيخ علي هو من يُدرِس فيها.
والمدرسة الثانية مدرسة المعارف لحكومة فلسطين (أيضاً تمهيدي) كانت تعلمنا دين وحساب وعربي.
وفي مدرسة الحكومة لم يكن هناك دين بل مادة بالزراعة بدلاً منها. في المدرسة كنا ندرس أناشيد (مثل موطني موطني) وأُنشودة للشهيد. هذه الأناشيد ننشدها بالطابور.
وعند بدء المعارك بفلسطين أقفلت بريطانيا المدارس. من أساتذتي الأستاذ محمد خلطبيل والأستاذ محمد جعفر، وعبد الرحمن جدو، والأستاذ عبد الله رملاوي، والأستاذ نصري مخِول (بقي 30 سنة بالبلد).
مدرسة المعارف للصف السابع الإبتدائي، ومن يريد أن يكمل تعليمه يذهب الى عكا أو طبريا.
والمدرسة تقدم كل شيء مجاناً من قرطاسية وكتب، وهي عبارة عن مبنى من حجر جيد، وفيها درج وردهة كبيرة فيها صور عديدة ويتفرَّق منه الصفوف. من صور الردهة أو الصالون، أول صورة لـ تشيرشل (فهو يُمَثِّل الإحتلال) وصورة لطلاب يمشون على الطريق (إتق المون عن الطرق)، والصورة الثالثة هي للرفق بالحيوان فيها حصان، وصور أخرى للحرب العالمية عن لندن. وصور للطائرات البريطانية وهي تُغير على ألمانيا.
تعلمنا الزراعة بالمدرسة، وكنا نتدرب في قطعة أرض كبيرة، وكنا ندرس بالمدرسة ونُطبِّق بهذه الأرض (الحديقة). وهذه الحديقة تابعة للحكومة البريطانية، نزرع بصل وبطاطا وبالشتاء نزرع أيضاً.
وكنا نساعد أهلنا، نحوِّش (نقطف) تين وزيتون وعنب وشمام وبندورة وبطيخ.
لم يكن عندنا مستوصف، ولكن مدينة الناصرة كان فيها مستشفى.
وبالنسبة للـ 1948 و15 أيار.. كان اليهود الشرقيين يريدون من الفلسطينيين العرب البقاء في قراهم ويعيشون مع بعضهم البعض واليهود الهجنا (الغربيين) لا يريدون أي فلسطيني في الأرض، فكانوا يقتلون العرب ويرموهم بالشارع.. فهذا ما أنشأ الكره بين العرب واليهود. ونشأت المقاومة والتسلح ضد اليهود.
وهذا ما جعل العرب يخرجون لأنهم لم يثقوا باليهود للبقاء والعيش المشترك معهم.
فطبريا سقطت بأول 15 أيار لأن اليهود أحاطوا بها وبدأوا بقتل الناس.. فبدأت العمليات العسكرية وكنا نسمع بالراديو ونسمع بالمعارك الطاحنة بالقدس وعكا وقراها وصفد ومن مدينة الى مدينة.. وبدأ اليهود بتدمير المدن أولاً، وبدأوا بإخراج الناس من هذه المدن بحراً.. والقرى هي التي كانت تقاتل وتقاوم قبل الخروج والتسليم.
فكان أهالي القرى يقاومون حتى وصول جيش الإنقاذ. ولكن الجيش السوري هو الجيش الذي كان يقاوم، ولكن بعد الهدنة ضُرِبَ الجيش السوري عن طريق القناصين.
نحن عندما سقطت طبريا وعند أول غارة على بلدنا، بعض النساء جمِعوا الشظايا من منطقة القصف وأخذوها على المضافة في القرية... وقالوا للكبار وجُوبَ التسلُّح... فقرروا وجوب وجود السلاح في كل بيت، فحصل الجميع على السلاح، باعوا أراضي وذهب لشراء السلاح.
بلدنا حصلت على كمية كبيرة من السلاح. ثم بدأوا يضعون خطوط الدفاع. أول خط كان قريب على البلد. ثم غيّروا المكان... فجعلوه قريب من المستعمرة... فإبتعدوا المقاومون عن البلد وجعلوها قريبة على مستعمرة الشجرة.
وبعد ذلك سقطت صفد وهي قاتلت فترة أسبوعين، ولكن عندما دخل جيش الإنقاذ بقيادة (ساري بيك) كان يدخل القرية ويسلمها لليهود.
فجاء اليهود وهاجم البلد صباحاً 8:30، واستشهد 18 شاب من بلدة الشجرة.. والنساء أخذت الأطفال وخرجت مُسبقاً وبقي 7 نساء فقط بالشجرة للطبخ للمقاتلين فيها دلة هوين. وهي خالة والدتي... وبعد ذلك تجمَّع المقاتلون البافون من كل القرى وقرروا أن يهجموا على اليهود.. من منطقة لا تخطر على بال اليهود وهي الناصرة فقد سقطت مسبقاً وصعدوا على التلّة... والتفوا حول اليهود... وتفاجأ اليهود بهذا الهجوم.. واحتل المقاومون البلد... ومُنِع الإسرائليين من الدخول والخروج.
أما الهجوم على بلدنا... عرفنا أنه لا بدَّ من الهجوم على البلد.. ففي ليلة الهجوم الطائرة لم تقصف عندنا. فدخل الشك قلوب أهل القرية وإذ باليهود يدخلون القرية في الكروم الشمالية للقرية.. فبدأت المقاومة وقتلوا اليهود وأحرقوا الدبابات وأخذوها.. ولكن قلّة عدد المقاومين وكثرة اليهود... جعل بعضهم يتركوا مواقعهم. وبدأ القنص والقتال والقصف واستشهد عمي وخالي وبعض الشباب من القرية.
ثم بعد 3 أيام جاء جيش الإنقاذ الى الشجرة وتمركز فيها، ثم تراجعوا الى طرعان واليهود احتل الشجرة مرة أخرى ودمّرها.
أنا دائماً أُذكِّر أولادي أنه لا قيمة لنا ولهم بدون الرجعة على فلسطين وعلى البلد، فهي الأساسية..
فيجب أن نتقاتل حتى الأبد، فعدوُّنا هو عدو حتى الأبد.
العدو مجرم، فيجب قتاله بكل قوة، ولو صحّ لي أرجع على فلسطين برجع وأترك كل شيء هنا..
يا ريت أرجع وأجلس على التلّة وأرى بحيرة طبريا.
هنا الإنسان ليس له قيمة... لا قيمة لنا خارج بلدنا...
نريد من الشعب العربي أن يصحو من نومته.. ويتَّحد مع بعضه البعض.. والجهاد أهم شيء.. فلسطين أرض مباركة.
الجزء الثاني
خلال أحداث النكبة سنة 1948 بعد 3 أيام من معركة لوبية.. ومن مقاومة واطلاق نار... انهزم اليهود وانسحبوا بعد ما قُتِل منهم واستشهد العديد من أهالي البلد..
جاء جيش الإنقاذ صباحاً من لبنان (بنت جبيل)... تمركزوا أول الأمر بقرية طرعان ثم قرية، الشجرة ثم أخذوا مواقع بعيدة عن بلدنا قريبة من الشجرة.
وقاتلوا حوالي 8 أيام بدون أي فائدة تُذكر.. ويتم قصفهم فتقهقروا من مواقعهم (لوبية، طرعان من الغرب ثم الشجرة جنوب البلد لوبية). ثم جاء اليهود وبدأوا بقصف مواقع أول مرة يقصفونها وتمسح البيوت وتدمرها... وعملت فزع وخوف كثير وأثَّرت على الطرش والبيادر والناس.
وفي اليوم التاسع لجيش الإنقاذ من دون نتيجة.. بدأت الأخبار تأتي ليلاً أن صفورية هوجمت، فأرسلوا 80 شاب بسيارة لبيت العفيفي (لديهم شركة سيارات) الى التلة ليروا إذا كانت فعلاً اليهود احتلوا صفورية. فوجدوها فعلاً محتلة ووصل الخبر للقرية.
فأخذ جيش الإنقاذ آلياتهم وخرجوا وانسحبوا وصارت المدفعية تقصف على ابلبلد... وطالبنا جيش الإنقاذ أن نخرج من القرية.
ولأول مرة أشعر بالخوف فقد كنت صبياً، والناس خائفة والنساء تبكي. وفي بلبلة بالبلد.. فوجدوا أن الوضع خطير، ففضلوا أن تخرج النساء والأطفال خارج البلدة، وغادرنا تحت القصف الى مرج الذهب ونمنا بالليل بالفلا على البلاّن.. ولم نأخذ شيئاً معنا... على أساس الناس خبأت الأوراق والفراش والملابس بالمُغر.. واتجهنا شمالاً.. نحو عينبون حيث يوجد ماء.
فجاء الطيران وضرب الشجر حيث كنا موجودين وضرب جيش الإنقاذ. فتشتت الناس ونحن اتجهنا على دير حنا، والمقاتلين بالبلد صمدوا 4 أيام وتوسع القصف عليهم، ودمروا البلد، فهاجم اليهود بدباباتهم على البلاد وطوقوا البلد وخرج المقاتلون قبل وصولهم... دمروا البلد تدميراً شامل.
وجيش الإنقاذ كان يأخذ السلاح من المقاومين بالغصب، فتشتت الناس.. ودبّ الرعب بالمناطق الشمالية (طرعان، حطين، البعينة) وتوزعنا على قرى مثل دير حنا ووادي سلام، والمناطق الدرزية والرامة ودير الأسد... ونحن بقينا بدير حنا مدة 8 أيام وفجأة جاء جيش الإنقاذ واحتل البلد وأخرج كل الناس منها الى البيادر على أساس أن اليهود سيأتون بعد يومين ليأخذوا البلد وفعلاً جاء اليهود.
خرجنا شمالاً على عين لسن وهي بجانب الرامة (قرية درزية) حيث فيها ماء... وكان معنا أكل.. وفي الآخر بعّدنا.. حيث جاء جيش الإنقاذ وقال لنا إذا كنتم ستذهبون الى لبنان تعالوا معنا بالسيارة، فخرجنا معهم الى لبنان الى يارون (قرية جنوب لبنان)، حيث فتّشنا الجيش اللبناني، والناس باعت سلاحها على الطريق لتشتري الطعام.. وثم الى بنت جبيل... فجاءت هيئة الأمم المتحدة تقدم المساعدات الغذائية وعملت إحصاءات وسجلوا الناس وطعمونا ضد الجدري، وجاءت الباصات وأخذتنا الى المخيمات.
قبل 1948، الشيء المُلفت في الأعراس وذبح الخراف، والإحتفال كان يدوم 7 أيام ويحضّرون للعرس قبل سبعة أيام... ومن حول القرى الناس يأتون ومعهم الذبائح ليساعدوا في الأعراس.. وكانوا يحضرون معهم الحطب.
العرس كان يجمع كل القرية والقرى المجاورة... وتُنصَب الدبكة وتضم 130 رجلاً ويأتي الحدي ويتحدث عن مزيايا العرب والكرم.
العرس يتم بالساحة ويتم سباق الخيل في آخر العرس.
العروس كانت تُحَنَّى بالحنة. وكان هناك هودج مزيَّن لتركب العروس عليه. حتى الملابس للنساء كانت سورية. وتركب العروس الخيل وتذهب لبيت العريس، والعريس يأتي من الساحة ليتم اللقاء ببيت العريس.
أما بالنسبة للزيارات الإجتماعية، بالأعياد كانت الناس تتبادل الهدايا من الحلويات والملابس. كنا يوم العيد ننزل على طبريا ونشتري قماش وهي تُعَد هديّة قيِّمة.
أما الأطفال بالعيد، كنا تُحنى بالحنة (حتى الأولاد) ونلعب بالبيض المسلوق (يداقس) ونشتري حب القرشية والبالونات.
كان عندنا دكاكين عادية، دكان لسعيد العلي وفالح صويلح ومحمد ذيب وفيها حلويات ولوازم للبيوت، ملح، سكر، والحبوب وسكاكر.
لم يكن في القرية مقهى، ولكن في مضافات وهي تجمع الشباب، والضيوف من خارج القرية كلهم يذهبون الى المضافة وينامون فيها.
كان يأتي من لبنان مبيضين طناجر ومن برجة (لبنان) بائعين قماش يأتون الى القرية. مثل هؤلاء من لبنان ناس من بيت حمام.
كان عندنا مقبرة وكانت بجانب البلد بجهة الغرب وكانت كبيرة. والبلد نفسها فيها عدة مقابر قديمة وأثرية، أذكر أن حجارتها ضخمة جداً.
وفي مقبرة قديمة لشهداء بمعركة صلاح الدين، وفي زاوية اسمها زاوية بيت الرفاعي..
الحلاقين أكثرهم متجولين، مثل أبو شاهين. كانوا يحلقون شهرياً للأولاد أما يدفعون له نقوداً أو قمح..
المدارس كانت تجبر الأولاد أن يحلقوا شعرهم على درجة الصفر، حتى المرحلة الثانوية.
كان في ناس تذهب الى الحج وأذكر اسم الحاج علي هو من ذهب الى الحج وكانت الحجة صعبة ومدتها 4 أشهر على الخيول والجمال وعندما يرجع كأنه خلق من جديد والناس تستقبله.
أنا لم أرجع على لوبية بعدما خرجنا. ومن عاد الى البلاد يدخل الى البلد بجنسات أجنبية. إذا دخلت على فلسطين ولوبية بدي أنظر وأبحث حتى شاهد بلدي ومدرستي والجامع ومناطق المعارك.
بلدنا وطرعان ومسكنة صارت مناطق عسكرية وممنوع دخولها.
أنا دائم الحلم بأنني في لوبية وأذكر أصدقائي والطرقات والمدرسة، وكم لِعبْنا بالطابة والسهل.
مرة صارت معي وبالحرب والغارات الجوية، أعلنت إسرائيل وقف إطلاق النار، في هذا اليوم قال الناس أنه لا طيران اليوم. وطلبت من أمي أريد الذهاب الى المغارة، فتعجّبت أمي ولكني صمَّمتُ على ذلك، فذهبنا مع أخوتي وأمي والأكل والبابور لوحدنا ونمنا هناك. فإرتحت في تلك الليلة..