في ذكرى كامل علي قدورة وعبد المنعم كامل قدورة كتبت هذه السطور
حسيب عبد الرحمن قدورة - فنلندا
كان بيتنا يقع في الحارة التحتا من سحماتا – قضاء عكا، على الشارع العام ليس بعيدا عن الكنيسة ولا الجامع وهي مسافة عدة دقائق مشياً على الأقدام عن وسط القرية المسمى بالرحبة. وكان والدي عبد الرحمن حسين قدورة أصغر إخوته الأربعة محمد علي ومصطفى وحسن والحاج هاشم.
في عام 1948 وبعد مغادرة السكان الآمنين بيوتهم في سحماتا خوفاً من المعارك مع العصابات الصهيونية، بقي والدي في البيت يحث أخي محمد ذا العشرين ربيعاً والخاطب لآمنة عزام (أخت الأستاذ خالد عزام) على ترك سحماتا خوفاً على حياته.
كان أخي محمد قد عاد من معركة مع اليهود وكان مصاباً بيده وقد أسر هو ورفاقه ضابطا إسرائيليا اشقر ذا بشرة فاتحة. وحينما اقتربت المعارك من سحماتا قاموا بإلقائه في بئر القرية وأشعلوا فيه النار وتخلصا منه.
كان أخي محمد نشيطا وشجاعاً ذا همة ومروءة. ذكَرت لي ابنة عمي عليا مصطفى قدورة أنهم حين كانوا يعملون في الحقول وحين ويسمع اخي محمد صوت إطلاق نار، يجري مسرعاً إلى البيت ويمتشق بندقيته وينطلق إلى المعركة. ولقد كان أبو سالم (كما كانوا ينادونه) آخر من يعود من المعركة. وكانت النساء ينتظرن فوق أسطحة البيوت حتى يرجع أبو سالم وحين يرينه يبدأن (بالزرغطة).
رفض أخي الخروج من سحماتا وقال لأبي، لن اترك بلدي وأرضي وأذهب لاجئاً إلى أرض غيري.
عندما دخلت القوات اليهودية إلى سحماتا قام اليهود بإطلاق النار على أخي فقتلوه أمام ناظري والدي. كان أحمد اليماني وكذلك عدد من أهل سحماتا حاضرين لحظة استشهاده. .... في سكون الليل قام والدي وأحمد اليماني بدفن أخي سراً ثم غادرا في الصباح إلى لبنان.
لقد صُدِم والدي من هول ما حدث فكان في تلك الفترة لا يردد إلا جملة واحدة (استشهد أبو سالم)، وكان ذلك الاسم الحركي لأخي محمد.
الوالد عبد الرحمن حسين قدورة
بعد خروجهم من سحماتا، انتقل عمي محمد مع زوجته وبناته الى حرفيش وهي قرية درزية قريبة من الحدود اللبنانية. أما عمتي بدر (ام كامل) فقد انتقلت الى قرية كفر سميع المجاورة لها وهي أيضا قرية درزية.
بعد أن وصل والدي إلى لبنان وعلم أن أخته وأخاه قد حط بهم الرحال في قرى الدروز، اشترى حصاناً وذهب لإحضار عمتي بدر. غير أن عمتي بدر فضلت أن يقوم أبي بأخذ عمي وبناته من حرفيش إلى لبنان أولاً ثم يعود مرة أخرى لإحضارها. وفعلاً ذهب أبي إلى حرفيش وأخذ زوجة أخيه فاطمة حمادة وابنتها رابعة (زوجة عادل صالح الاسعد، ام بسام) وأعادهم الى لبنان.
عاد والدي إلى كفر سميع مرة أخرى لأخذ عمتي بدر غير أن عمتي طلبت منه في هذه المرة أن يأخذ عمي وابنته بهيجة التي تزوجت لاحقاً من أخي علي (ام محمد) وقد توفاها الله مع اولادها في تل الزعتر عام 1975.
كانت الأوضاع على الحدود بين فلسطين ولبنان قد تغيرت وأصبحت الحراسة مشددة ودوريات العصابات الصهيونية كثيرة.
للمرة الثالثة عاد والدي منطلقاً في اتجاه كفر سميع لأخْذِ عمتي بدر وقد رافقه في هذه المرة ابن ابو ساري محمد ابراهيم قدورة (أبو عادل) الذي كان يركب الحصان الآخر، غير انهم وقعوا في كمين يهودي وتم اطلاق النار عليهم. استشهد محمد ابراهيم على الفور تاركا خلفه ولدان عادل وعاصم وابنته عفاف أما والدي عبد الرحمن فقد جرح ولم يعد بإمكانه الوصول الى كفر سميع.
قام اهلنا المسيحيون من سحماتا بنقل جثمان محمد ابراهيم قدورة إلى البقيعة حيث ووري الثرى في حديقة بيت رزق سمعان (ابو سليم).
بقيت عمتي بدر حسين قدورة عدة سنوات في قرية كفر سميع. وبعد وفاة زوجها علي العبد قدورة انتقلت وابنها كامل علي قدورة إلى الرامة حيث استَبدَل ابنها خمسين دونما من أراضي عمتي في سحماتا بخمسة دونمات في الرامة وبنوا عليها منزلهم.
مرت الأيام والسنون وكبرت عمتي بدر (أم كامل) في السن ولكن لم تنسى أهلها وإخوتها. فكانت تصعد في الليالي المقمرة إلى سطح بيتها وتناجي القمر، فهو الذي يراها ويرى أخاها عبد الرحمن وتتوسل اليه، تطلب منه ان يُوصِل إليه سلامها وتبقى على هذا الحال حتى يبزغ الفجر فتنزل إلى الدار فتبكي ويبكي كل من بداخله. توفت عمتي بدر بحسرتها على أهلها وإخوتها ودفنت في قرية نحف قرب الرامة.
أما ابنها كامل علي قدورة فقد كان شاباً أنيقاً وجذاباً وهو الشاعر والحدا الموهوب والمرهف الحس فكان يشْعُر بالفرقة والبعد عن أقاربه وعائلته أكثر من أي شخص آخر. فعلى الرغم من بشاشته وابتسامته التي لا تفارق مُحياه حين يلقى الآخرين، إلا انه كان يعيش بداخله في عالم يملؤه الحزن والأسى والبعد والحرمان. فأخته شيخة وكل أخواله وأعمامه في لبنان ولا أحد من العائلة قريب منه، فوطن الانسان أهله وأقاربه وما أصعب أن يكون للإنسان وطن ليس فيه أهل ولا أقارب.
كامل علي قدورة
كان كامل وطنياً مخلصاً مدافعاً عن حقوق أهله وشعبه وكان من مؤسسي الحزب الديمقراطي العربي الذي كان يترأسه عبد الوهاب دراوشه. في الخمسينات والستينات من القرن الماضي كان كامل يرسل أشواقه وتحياته لأقاربه عبر الراديو وفي بعض الاحيان على شكل رسائل عبر الصليب الاحمر.
و في كل مرة اتصل به من فنلندا كان يبكي حتى يتعبه البكاء، فكان يعبر لي عن محبته وأشواقه وحزنه وعنائه وبعده ووحدته فلا أستطيع الكلام معه لكثرة بكائه. لقد كان لديه إحساس أنه (مقطوع من شجرة) كما نقول نحن الفلسطينيين. .
وعلى ذكر الشجرة:
فكما كان كامل يحب وطنه فإنه كان يعشق ارض سحماتا كذلك، ففي كل مرة يقترب فيها من سحماتا، كان يتوقف وينزل من سيارته ثم ينفرد إلى ناحية من أشجار التين والصبر، فيبكي حتى لا يُبقِى دموعاً في عينيه ثم يعود إلى أولاده والذين ينتظرونه حتى يختم بكاءه كما هو الحال في كل مرة.
في إحدى المرات وحين كان كامل يقطف الزيتون، مر رجل يهودي مغربي في سحماتا ونادى بأعلى صوته : حرام عليكم "ألا يوجد لهذه الاشجار اصحاب؟"
فأغاظ هذا كاملا ًالذي انفجر غضباً وقفز من فوق الشجرة قابضاً على رقبة اليهودي ودك رأسه بالارض ولولا رحمة من ربك لكان قبر ذلك اليهودي مازال تحت تلك شجرة إلى يومنا هذا.
كان كامل شخصية قوية ومحترمة يحظى بمكانه مرموقة في الرامة وكل القرى الأخرى. فسيرته كالمسك يأتي إليه الخاطبون ليكون معهم حين طلب يد عروسهم وذلك ليحظوا بالوقار والاحترام الذي يتمتع به كامل. كما أن آراءه كانت محمودة وكلمته مسموعة، فكان الناس من قرى الجليل على اختلافها يسعون إليه، فيصلح بين الأفراد والعائلات وينظر في تباينهم.
كان كامل يشتاق إلى أهله وأقاربه في لبنان ويسعى بكل طاقته للتواصل معهم. ذكر لي عبد المنعم، انه في عام 1982 وحين احتل الاسرائيليون لبنان فإن ضابطا درزيا من الرامة كان يريد الدخول إلى لبنان وقد طلب من والده كامل ان ينتظره في الناقورة حتى يأخذه معه من هناك ويدخله مخيم الرشيدية.
كان الجو باردا حين جلس كامل قرب الضابط الدرزي في سيارته وانطلق من الناقورة في اتجاه مخيم الرشيدية لم يمض وقت طويل حتى طلب منه الضابط الدرزي النزول. لم يصدق كامل أنه في مخيم الرشيدية وانه قد وصل إلى أخواله وأهله وأقاربه بهذه السرعة.
"يا الهي ... سنين من الشوق والحنين والقطيعة والحرمان تفصلني عن أخوالي وأقاربي وهي في الحقيقة مسافة رمية حجر. يا للإحتلال كيف يجعل كيلومترات قليلة سنين وعقود من التشرد والضياع والحرمان.
حين نزلتُ من السيارة ورأيتُ ابن خالي فارس (ابو حسن) عرفته مباشرة وكانه لم يتغير أبداً. فرميت بنفسي إليه وأخذته بالأحضان وبكينا معا من حرقة الشوق. بعدها بقليل أتت أم أحمد عبد القادر وبدأت (تهاهي ) وتغني ثم التقيت بعد ذلك بدار خالي عبد الرحمن ودار أبو الشريف ابن خالي الحاج هاشم. قضينا مع بعض وقتا ممتعا شعرت فيه انني هزمت القدر الذي فرض علينا حكم البعد والفراق".
أذكر حينما زرت الرامة في عام 1991 وكانت اول رحلة لي إلى فلسطين، كاد كامل أن يطير فرحاً. لم تكن الدنيا بكبرها تَسَعَهُ من الغبطة والسعادة. وكأن طوق الوحدة والعزلة التي كان يعيشها طوال تلك السنوات قد انكسر. فكان يأخذني معه إلى بيوت أصحابه ومعارفه وإلى كل القرى القريبة يفاخر بي ويباهي من يعرفهم ولسانه يردد: "هذا هو حسيب عبد الرحمن ابن خالي. نعم إنه ابن خالي ... وكأنه يريد ان يصرخ بأعلى صوته هؤلاء أقاربي، انهم لم ينسونا ولم يتركونا . ... نعم لقد جاؤوا لكي يزورونا".
مرض كامل لوفاة ابنه الشاب وأصبح طريح الفراش. ذكرت لي ابنته رحيل وقد كانت في احد المرات تجلس قربه أثناء مرضه أنه كان يرى خاله عبد الرحمن حسين والحاج هاشم وبقية الأقارب قادمين إليه، فيطلب منها أن تُحضِر لهم الطعام فكان يقول لها : "ألم أقل لك أنهم سوف يأتون، أحضري الطعام فقد يكونون جائعين."
توفي كامل عام 1992 أي بعد عام وشهرين على وفاة ابنه عبد المنعم. تلك الصدمة التي عصفت بحياة الأب فلم يستطع بعدها تلذذ طعم الحياة فآثر أن يلتحق بمن يحب. لقد كان عبد المنعم ليس فقط الابن البكر بل الحبيب والعزيز والصديق في آن واحد.
عبد المنعم هو من مواليد سحماتا في عام 1942. غير أنه لا يذكر شيئا عن سحماتا سوى انه كان يلعب مع صديق طفولته عبد اللطيف جميل بلشه.
عبد المنعم كامل قدورة
ومن حيث الشعور والتأثر بالنكبة، كان عبد المنعم مثل والده كامل، يشعر بآثار البعد ويتألم من القطيعة والفراق، إحساس يعكس معاناة والديه وأهله فيؤثر ذلك في نفسه ويزيد في عذابه.
عَمِل عبد المنعم استاذا في الرامة وقد اشتهر برجولته وتحمله للمسؤولية والتزامه بالمباديء. كان الجميع يمتدحه ويحبه ويذكره بالخير. فهو الأستاذ المعلم والأب الحنون. كان عبد المنعم سنداً حقيقيا لوالده ومحبوبا من كل أفراد عائلتة، وقد أكرمني القدر أن أتعرف إليه من قريب وأخْبُرَهُ جيداً، فكان هو وزوجته سميرة (ام كامل) بالنسبة لي الإخوة والأقرباء والأصدقاء في نفس الأوان.
كان عبد المنعم هو المؤنس الوحيد لي في غربتي في فنلندا. فكان يمرض إذا ما عرف أنني مرضت، فإذا أخبَر زوجته أنني مريض، مرضت هي الأخرى تأثراً لمرضي.
حين حضر عبد المنعم وزوجته سميرة لزيارتي في فنلندا في عام 1980، قضيت معهم اجمل ثلاثة أسابيع في حياتي.
كانت زوجته سميرة أُماً وفية وربة بيت موهوبة، فهي كالشمعة المضيئة تحترق كي تنير الدرب للآخرين. وتتميز إضافة إلى مرحها وبشاشتها بشطارتها في الطهي وتحضير الطعام، فكانت أثناء وجودها في فنلندا تجهز لنا كل يوم أطيب الأكلات السحمانية.
أما عبد المنعم فكان شابا ضحوكاً يحب المرح والمزاح. فكان لشدة حبه لي وتعلقه بي أثناء وجوده في فنلندا يقول : لقد وجدت فردتي الثانية . فكنت أضحك وأسأله: "هل نحن جوز كلسات؟". فيرد ضاحكا : "لا جوز كفوف !."
كان عبد المنعم إذا أراد الجلوس قربي لا يجلس على الكرسي ولا في الأرجوحة بل كان يجلس في حضني فيعانقني ويشمني ويقبلني. كانت سعادته غامرة وتفوق كل وصف. فهو بطبيعته انسان حنون ذو قلب رقيق. فكان حينما أحكي له عن عمته شيخة (ام عادل) وعن بناتها أو عن أهلي وأعمامي يهطل الدمع من عينيه حتي يبلل وجهه وقميصه. فكنت أُهدئ من عواطفه وأربت على كتفه وأمسح له دموعه. تلك لحظات لم يستطع فيها كبت عواطفه وأحاسيسه فيخرج مع دموعه كل ما تراكم بداخله من شعور البعد والحرمان.
حين كان عبد المنعم يتصل هاتفياً مع زوجتي أم أيمن في فنلندا وتخبره أنني في زيارة عمل إلى الامارات أو السعودية، ينتابه القلق ويشعر بعدم الاطمئنان. ثم تتكرر اتصالاته المرة تلو الأخرى فلا يهدأ له بال حتى أعود إلى فنلندا ويسمع صوتي فتغمره السعادة ويضحك من أعماق قلبه. كان رحمه الله انسانا صادقا في محبته حنونا خلوقا ووفيا محبا لأقاربه وللناس.
مرض عبد المنعم وتوفي عام 1991 وهو في ريعان شبابه عن عمر يناهز التاسعة والأربعون تاركا زوجته وخمسة من أولاده في عمر الزهور.
كانت وفاته صدمة قاسية لي. لقد أحسست أنني فقدتُ جزءا من جسمي وكنتُ طوال تلك الفترة غير قادر على استيعاب أن عبد المنعم قد توفي. فكما كان عبد المنعم هو كل أقاربي وأحبائي، كانت وفاته شعورا لي بأني قد فقدت كل أهلي وأقاربي. فلم يبقى لي أحد يتصل بي أو يسأل عني. حزنت لوفاته حزنا شديدا مريرا استمر لاكثر من عشر سنين.
بقيت أشتاق إلى عبد المنعم حتى دخل علي أحلامي فصرت أراه في منامي، فكان ذاك يُلهمني التواصل مع عائلته، فكنت اتصل بهم واطمئن عليهم وأُواسيهم. وقد كان لدي إحساس أن هذا سوف يَلقى قبولا حسناً عند عبد المنعم فينامُ قرير العين في مثواه الاخير.
أما سميرة فكانت مصيبتها عظيمة ومحنتها أفدح، فانهارت نفسيا وضَعُفَت جسميا، فكان لا بد لي من مؤازرتها والوقوف إلى جانبها في مصابها.
لقد صُدِمت سميرة جراء عواصف الأيام ورياح الأحداث، فصبرت وضحت حتى أصبح أبناؤها رجالاً، فتزوجوا وصار لهم أطفال فامتلأ بيتها بالأحفاد الصغار.
كان أحدُهم يدعى عبد المنعم الحفيد، ابن ولدها كامل. ... في كل يوم، يتجمع الأحفاد الصغار في صحن الدار ويغنون لجدتهم : "يا ستي يا ختيارة، يا زينة كل الحارة". فتضحك الجدة الصبور من صميم قلبها وتُعَبٍر لهم عن محبتها ورضاها. كان ذلك يزيل همها ويملأ عليها وحدتها.
كَبُرَ الحفيد عبد المنعم وصار شاباً يافعاً قوياً. وذهبت الحاجة سميرة الى الديار المقدسة وأّدت فريضة الحج. وتغيرت الايام ودارت عجلة الزمان وانقضى العمر
.... فطوبى للصادقين الصابرين