جديدنا: وثيقة - مركز الوثائق الفلسطيني
تتعثّر الكلمات بالعاطفة حين تكون عن رجل أعطى بصمت أقصى ما يستطيع، وما استطاعه لكثير كثير. جاهد بابتسامة، ورحل آبياً إلاّ بقاءها حيّة صدقة جارية بين ثنايا من خلف من بعده. لكل واقعة عنده حكاية، وفي كل حكاية عبرة أو ضحكة، تعينه على ذلك ذاكرة تحفظ من الشعر آلاف الأبيات، ومثلها من الحكايا والقصص. داوود صالح حسين، ولد عام 1927 في قرية شعب، قضاء عكا، أو باب الشمس، كما سمّاها الروائي إلياس خوري. كان يذكر دائماً كيف رحل عن "شعب" إلى عكا، بعد أن أنهى الصف الرابع، ليكمل تعليمه في مدرسة عكا الحكومية، التي كانت تضم النخب في المدينة والجوار. تفوّق هذا القادم من القرية على أقرانه في المدينة، يتذكر بشيء من التفصيل المراتب العشر الأولى. لكن العوز أعاده بعد سنوات إلى قريته، وظلّ يرى مناماً حتى آخر لياليه، أنه يحمل كتباً ويدخل حرم الجامعة. قلبه معلق بالله ثم ببلده. يتذكر دائماً الحاج إبراهيم، الذي ذكر لأهل القرية عام 1940 أنهم سيحصدون نصف الزرع، ويتركون النصف الآخر بعد سنوات. عجب الناس، فكان هجوم العصابات الصهيونية عام 1948، والهدنة، وتقسيم أراضي القرية إلى نصفين، فحصدوا نصف الزرع وتركوا الباقي. رغم مغادرته مقاعد الدراسة إلاّ أنه بقي يُستفتى في شؤون الناس. وجاء عدوان 1948، وكيف يتخلّف داوود عن القتال وهو إمام القوم. يحمل البندقية الفرنسية التي اشتراها لقاء كل ما يملك من مال "رقم السبطانة T54980، ورقم الترباس P54980 أحفظها كاسمي وأكثر"، كما يقول، بشيء من الفخر. يقاتل قتال المقبل، لمَ لا يفعل، وهو من ترك تعليمه واشتغل في حرث الأرض سنوات. يتذكر الدفاع عن قرية "شعب"، وهو يقول "كذب من قال جبن رجل من شعب". تسقط قرية البروة المجاورة بعد هجوم العصابات الصهيونية المدرّبة. لكن رجال قرية شعب، أو الحامية، يحررونها في هجوم مباغت. تحتل العصابات قرية ميعار، ينشق ضابط من جيش الإنقاذ، فتتحرر ميعار. يتذكر المجاهد داوود حسين تلك الأيام بكثير من الاعتزاز، كل الرجال يحفظ مواقعهم ودورهم: إبو إسعاف، مصطفى ونجيب الطيار، آل حميد، وآل حسين وفاعور وأكثر من 80 رجلاً قاتلوا دفاعاً عن القرية. مئات القصص يرويها عن تلك المرحلة، اتفقت معه أن يكتب مذكرات جهاده في قرية "شعب"، لكن القدر كان أسبق إليه. يُهجّر مع من هُجّر، فيكافح كفاح الكادحين. ذاكرته حاضرة متى استدعاها، إذا قال قصيدة للشاعر يوسف الحسون فهو يحفظها كلها وإن بلغت 120 بيتاً. تقع "حرب المخيمات" عام 1985، فنفرّ إلى بيته. وكنت في الحادية عشرة من عمري. أرغمنا على قراءة الكتب، حتى أصبحت لدينا متعة. وهو يملك مكتبة عامرة، ويقتني من مجلة "العربي" وحدها الأعداد منذ عام 1958. يشتد الحصار في السنة الثانية من الحرب، يقتصد في مطعمه ومشربه. كان يضع كوباً من الحليب أمامه صباحاً، وبينما نحن جلوس، وقبل أن يرتشف منه، إذ دخل طفل، فسأله أن يعطيه بعض الطعام، فما من المجاهد داوود حسين إلاّ أن رفع رأسه للسماء وقال "اللهم إني صائم"، وناول الطفل كوب الحليب. يقع عدوان تموز عام 2006 فيتوجه مع عائلته إلى منزل امتلكه حديثاً في منطقة جبلية، يرى عائلة على قارعة الطريق، فيطلب منها أن تتبعه بسيارة أجرة، يصل إلى بيته، يدخل العائلة، يسكنها المنزل، ويعود إلى منزله في المخيم. لا غرابة وهو الذي اقترن لديه الإحسان بالعمل. واصل للرحم، يكاد لا يمضي يوم دون أن يزور قريباً. عباراته قاسية في رقتها؛ تتلاعب بخفقان القلب، وتشعل العاطفة بروعة الكلمات. يحضره الموت، يدخل غيبوبة، ثم يخرج منها، فيقول: اسمعوا ما نظمت من شعر في منامي: أمير الأنبياء فدتك نفسي فإن قُبلت فذاك عرسي وتلك منية أعتز فيها كيوم ولادتي وشروق شمسي داوود صالح حسين "أبو سليمان"، سلام عليك يوم طلعت عليك الشمس، ويوم أشرقت.
أحمد الحاج علي