30/3/2020
خليل مبروك-إسطنبول
كانت عيناه تبصران طول الطريق الذي بدأ السير عليه مع والديه من ترشيحا شمالي فلسطين إلى الحدود السورية بعد نكبة 1948، مسير امتد لأكثر من 70 عاما قبل أن يحط المهندس حسن الترشيحاني الرحال ويسلم الروح لبارئها متأثرا بفيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) ويدفن في هولندا.
والترشيحاني فلسطيني لاجئ حملته تغريبة الشعب المشرد طفلا في مركب مهاجرين تنقل به من بلد لآخر كما هي حال ملايين الفلسطينيين، قبل أن يدركه الموت ليلة أمس 30 مارس/آذار الجاري، الذي يحيي فيه الفلسطينيون ذكرى "يوم الأرض".
في 2014، قابلته الجزيرة نت شاهدا على نكسة يونيو/حزيران، فباح بالكثير مما في القلب عن أيام الطفولة والبطولة وعن شوارع وطن لم يره، وبوفاته اليوم يكمل "أبو محمد" شهادته بالغياب على يوم الأرض الذي يدفن فيه مثل مئات الآلاف من الفلسطينيين المحرومين من أن يحتضن رفاتهم تراب البلد.
رحلة التهجير
وتختلط المشاعر في فؤاد الشاعر سمير عطية صهر الترشيحاني الذي شهد معه الكثير من محطات الغياب الفلسطيني الطويل، لكنه يتوقف ممعنا في دلالات ولادته في فلسطين التي بات جيل المهجر من مواليدها ينحسر لصالح مواليد الغربة.
الترشيحاني على فراش مرضه الأخير في هولندا (الجزيرة)
ويقول عطية إن ميلاد أبي محمد في فلسطين كان مشوقا ومحزنا لأسرته في الوقت ذاته، فهو نعمة عظيمة افتقدها الفلسطينيون أجيالا وأجيالا، كما يفتقدون وطنا لا يكتب حتى في هوياتهم ووثائقهم الرسمية، و"نعمة عظيمة أن تولد في موطنك في فلسطين".
ويواصل عطية تقديم المقاربات حول تزامن وفاة حموه مع يوم الأرض الفلسطيني، قائلا "ربما كان للهجرة الأولى من فلسطين أثر الحزن واليتم والشتات، لكنه خلق فينا أثر التمسك بالوطن".
كانت ترشيحا في الشمال الفلسطيني آخر بلدات الجليل الأعلى سقوطا بيد الغزاة وقت النكبة، ومنها انطلقت رحلة أبي محمد من سوريا للولايات المتحدة الأميركية وإلى دولة الإمارات ثم اليمن فسوريا، ومرة أخرى إلى لبنان ومصر، واليمن مجددا، ثم تركيا فأوروبا.
آخر القلاع
طوال تلك الرحلة، ظل أبو محمد مثل ترشيحا، آخر القلاع التي تؤوي حقائب المسافرين دون أن يشد حزن المدائن أبصارهم عن طين الوطن.
يقول عطية إن تكوين الراحل الترشيحاني الوطني واطلاعه على التجارب النضالية للشعب الفلسطيني وسير الفصائل والشهداء والأسرى والمناضلين، والتثقيف الذي مارسه عدة سنوات، صنع له بوصلة ليرفض التفريط في مبادئه ورسالته في أكثر من منعطف ومحطة.
اعلان
ويوضح أن الراحل لم يكن يزح البصر عن فلسطين، فلسطين الأرض التي أبصرتها عيناه ومشى على ترابها طفلا، وظل يروي قصتها في لقاءاته مع المناضلين والمحررين وفي المسيرات والمظاهرات، وفي نشاطه الدؤوب لمساعدة أبنائها في العمل الاجتماعي والخيري والفكري.
وطن ضاع وآخر ضاق
ضاق الشتات العربي بالمهجر الفلسطيني، ومل من معاملات أوراقه ووثائقه، كانت عواصم العروبة تضيق بإقامته، ثم صارت تمتنع عن منحه التأشيرة أو حق العمل كما ظهر في لوحات ناجي العلي حتى جعلته اليوم يدفن في أوروبا.
يقول عطية للجزيرة نت إن آخر أحلام الفلسطينيين الذين يذهبون لأوروبا اليوم بات أن يحصلوا على جنسية تمكنهم من زيارة أوطانهم، مضيفا "هكذا تقزّم الحلم، لكن الأمل بالعودة لم ينته ولم يتآكل في قلب الترشيحاني، الذي كان يوصي دائما بأنها رحلة طويلة مزدحمة بالأحداث والعقبات، وعلينا أن نخرج منها بأقل الخسائر دون أن نخسر الحق في العودة إلى الوطن".
شهيد الغربة والمرض
أثار رحيل الترشيحاني في يوم الأرض الشجن في قلوب من عايشوه، فكتبوا في رثائه كلمات تنزف صدقا وهم يزفون إلى مدفنه وطنا يبعد في كل يوم إليه المسير.
فقد قال الكاتب والباحث الفلسطيني محمد خير موسى إن الترشيحاني كان يمثل نموذجا للفلسطيني الذي حمل وطنه وحمل لجوءه على ظهره وتنقل في منافي الأرض، فهو "نموذج للفلسطيني الذي لا ينسى أرضه، وتبقى وجهته فلسطين حيثما حل وارتحل".
كما يرى أن رحيله في "يوم الأرض" غريبا مهاجرا ومريضا يحمل صور الشهادة، وقال للجزيرة نت "هذه من أسباب نيل الشهادة، فقد نال الشهادة غريبا ومريضا بكورونا التي قال عليه السلام إن من يرحل بمثلها من الأوبئة فهو شهيد، والشهادة عند الشعب الفلسطيني معنى مرتبط بالأرض وبفلسطين".
ويعتقد خير موسى أن قصة الترشيحاني تجسد الواقع العربي "الذي بتنا نحيا أقسى مشاهد بؤسه"، مبينا أن الفلسطينيين باتوا يدفعون اليوم ثمن انتقال النظام الرسمي العربي من مرحلة الخذلان الخفي لفلسطين وقضيتها إلى المجاهرة في محاربة الحق الفلسطيني.
ويضيف "هذا الذي دفع أبو محمد ومئات الآلاف للهجرة إلى أوروبا التي وجدوا فيها بيئة خصبة لم يجدوها في كثير من البيئات العربية لخدمة قضيتهم".
وتعود قصة "يوم الأرض" إلى تاريخ 30 مارس/آذار 1976 حين سقط ستة فلسطينيين برصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي في مواجهة شاملة انطلقت احتجاجا على مصادرة الاحتلال نحو 22 ألف دونم من أراضي الفلسطينيين في منطقة الجليل الأوسط.
المصدر : الجزيرة