الحاج موسى الخالص «رحمه الله»
رجلٌ مقدسيّ المولد والنشأة، عزيز الجانب، شريف النفس، بلغ من العمر مئةً وعشر سنوات. لم تزده سنوات الاحتلال إلا ثباتًا وصبرًا، فكان من أوائل المرابطين في بيت المقدس، أحد أعظم الثغور، حيث يُعد الرباط فيه من أشرف العبادات، لما فيه من حراسة الثغر وتكثير سواد المسلمين.
اقتداءً بالصالحين والأولياء الذين رابطوا في المسجد الأقصى، كالإمام أبي بكر الطرطوشي، ظل الحاج موسى على هذا النهج. وقد روى أبو داود والترمذي: (كلُّ ميِّتٍ يُختمُ على عمله، إلا الذي مات مرابطًا في سبيل الله، فإنَّه يُنمَّى له عملُه إلى يوم القيامة، ويأمنُ من فتنة القبر)، أي يُثاب على أعماله وكأنه حيٌّ يعمل.
في بساطة عيشه، كان يملك دكانًا صغيرًا لا تتجاوز مساحته عشرة أمتار، ملاصقًا لباب السلسلة في الرواق الغربي للمسجد الأقصى، يطلب فيه رزقه من الله، ويحتسب أجر الرباط. وذات يوم، جاءه سمسار يهودي يعرض عليه مبلغ 300 ألف دولار لشراء دكانه، فرفض، ثم ضاعف السمسار المبلغ، فردّ الحاج موسى بلهجته المقدسية: "إنها لا تساوي شمّة سُعوط"، ثم عرض السمسار شيكًا مفتوحًا، فرد عليه: "المبلغ لا يكفي"، وختم جوابه قائلاً: "هات ورقة ووقع عليها كل المسلمين، رجالًا ونساءً وأطفالًا، فإذا وافقوا جميعًا على بيعي للدكان، أعطيك إياه مجانًا".
كان الحاج موسى يدرك أن فلسطين ليست ملكًا فرديًا، ولا يحق لأحد التفريط بها أو بيع جزء منها، بل هي أمانة في عنق الأمة كلها. وقد عبّر بذلك عن فهمٍ عميق للحديث النبوي الشريف: (سِلْمُ المؤمنين واحدة، لا يُسالم مؤمنٌ دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم).
لم يكن الحاج موسى منتميًا لحزب أو جماعة، بل كان ثمرة من ثمار مدرسة المسجد، التي لا تُورث حقدًا ولا خضوعًا، بل تُغذي النفوس بالعزة والإباء، وتربيها على حب الخير، وبناء الحضارات، ومواجهة الفساد والانحدار.
لقد فرّق هذا الرجل بين الحلال والحرام، فآثر الرزق الطيب، وعاد لأهله بعفاف وكفاية، بخلاف من باع ضميره وتخلى عن كرامته، فهانت عليه القيم والمبادئ. قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)، ومن فرّط في هذا التكريم، فقد وضع نفسه في منزلة لا تليق بإنسانيته.
إن أمةً لا تفرّق بين العزّ والذل، ولا بين الحق والباطل، مهددةٌ بانتهاك الحرمات وهضم الحقوق، والعيش على هامش التاريخ.