كان والدي سليم عودة تاجرا يعرفُ كيف يجْتـذب الزبائن . كان يرى أن العائد من البيع الكثير بالربح القليل ، أكبر من العائد من البيع القليل بالربح المرتفع. لذلك كانت الأسعار في محله مُـتهاودة ، وكان البيع كثيرا. كان في موسم البطيخ ، مثلا، يشتريه بكميات كبيرة من المزارع مباشرة. ويأتي به الى ساحة المنزول. ويبيع الثلاثة أرطال بسعر الرطلين عند غيره. ولا يلبث أن يتوالى المشترون الى الساحة.ولا يلبث أن ينفذ البطيخ " باب أول " ، أي الحجم الكبير. ويبقى " التوالي " و " البرارة " أي البطيخات الصغار. فيجعلها في أكوام. ويبيع الكومة بسعر جذاب للمشتري. وإن لم يأت هذا المشتري ، قال : البيع بالمزاد. ونادى على كومة البطيخ بأول سعر يطرحه أحد الحاضرين . ودائما كان هناك حاضرون .فالناس تعودت على أن تأتي لترى ما يُدهش . وهكذا ، بطريقة البيع هذه ، يكون البطيخ قد نفذ قبل غروب شمس ذلك النهار .
وكان لا يعود الى بيع البطيخ في ذلك الموسم ، إلا بعد مرور فترة من الزمن . يُـقدِّر في نهايتها أن شوق الناس الى البطيخ قد تجدد . في أثناء ذلك ، كان يأتي بسيارة الشحن مُحمّلة بشئ آخر ، بالبطاطا مثلا. يشتريها أيضا في أرضها ، بدون وسيط بينه وبين المزارع . ويبيعها كما باع البطيخ ، بالربح الزهيد والبيع الكثير .
وكان يرى أيضا أن الناس في مسألة الشراء ، يتشجعون أو يغارون من بعضهم البعض . يتحمّسون لشراء سلعة ما ، إذا ما رأوا غيرهم مُقبل على شرائها . يُقال انه أتى ذات يوم بشحنة من المقالي . ربما كان عثر عليها صُدفة في مدينة عكا أو مدينة حيفا ، معروضة للبيع بسعر مُغر ، " سْطوك " ، كما يقال . بعـد وصول المقالي الى الزيب بيوم أو يومين ، أخذت بعض النسوة تتناقل هذا الخبر : أبو محمد سليم ، عنده ألايات (مقالي) ، سعرها يا بلاش . عددها محدود . يبيعها بنص ثمنها . ويضفن ، المصنع باعه إياها بنص ثمنها ، بداعي الإقفال . المصنع أعلن إفلاسه . توقف عن صنع الألايات . هذا الخبر انتشر بسرعة . وزيد عليه كلام ، واستبدل كلام آخر . شأنه في ذلك شأن الإشاعة .
يقال إن سليم عودة أرجأ البيع الى بعد ظهر اليوم التالي ، لأنه كان يرغب أن يرى الناسُ بعضهم بعضا ، ويتجمّعون أمام الدكان . وبذلك يلفت انتباه الناس الى ما يجري . ويقال إن جمهرة من النساء كن ينتظرن الدوْر للحصول على مقاليهن . وكانت من بينهن امرأة لم يلتفت اليها أبو محمد سليم ، لا بل تجاوز عنها . وهي لاحظت ذلك ، فـغـُـمّ على قلبها . وعادت الى بيتها خالية الوفاض ، حزينة ، يكاد الدمع ينبجـس من عـينيها واشتكت أمرها لابنته، فقامت هذه لنصْرتها . وذهبت الى أبيها ، والمرأة المخذولة تهرول وراءها . رآهما الأب ، وفهم سبب مجيئهما اليه، فتنحّى عن مكانه وراء الطاولة ، وفتح الطريق اليهما ، وهمس في أذن ابنته كلمات ، شارحا المسألة باختصار . فما كان منها إلا أن طفقت تضحك ، من نفسها ومن صاحبتها معا . وفهمتا أن المقالي لن تنقطع من السوق . كما فهمتا أيضا أنه لم يقل أبدا أنها سوف تنقطع . وأن هذه زيادة على ما قاله. فلا بدّ أن يكون خبر انقطاع المقالي من السوق ، جاء زيادة من الناس، إما لخطأ في الفهم والاستنتاج ، أو ، وهو الأرجح ، للتهويل وشدّ الانتباه لما يقولون . وفهمتا منه أيضا أنه ترك الناس تقول ما تقول . وأن في كلامهم هذا ترويجا للمقالي، دعاية .وهو رحّب بها. فالدعاية تفعل فعلها في كثير من الناس .
قرية الـزِّيب كما عـرفـتُها
أحمد سليم عودة