
لم يكن يعرف جدنا ابراهيم الشلودي الذي قام بحفر بيارة في بداية شارع الشلالة القديم بين بساتين الزيتون، بأن اسمه سيصبح علامة فارقة في تاريخ المدينة، حيث أصبحت تلك المنطقة حتى اليوم منذ قرون طويلة تحميل اسمه (بير ابراهيم)، وحفظ بذلك تاريخ العائلة بعد أن غادر معظم أبنائها للعمل والتجارة في مصر، نهايات العهد التركي، بعد تدهور الأحوال الاقتصادية والسياسية مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، والدي وجدي وعمي ولدوا في الخليل وعملوا في مصر في التجارة كمعظم أبناء العائلة، لكن قدر والدي كان مختلفًا، حيث عاد للعمل في ميناء يافا وبياراتها بعد ازدهار الأحوال الاقتصادية في فلسطين في نهايات العقد الثالث من القرن العشرين، ثم قرر بالاستقرار في مدينته ليعمل (كندرجي) في قلب المدينة.
كان شارع الشلالة نقطة بداية إلتقاء المدينة بالعالم الخارجي، من حارة القزازين باتجاه مدرسة النهضة ودكان والدي، بدأت علاقتي مع المدينة، وكان منظر الحافلات التي لا تتوقف يغريني لإكتشاف هذا العالم المجهول، كنت أقف لساعات أمام دكان عيد أبو عيد النتشة وورشته خلف مدرسة أسامة في حاكورة (ميلص الحرباوي) وهي تصنع هيكل الحافلات، حيث كانت تأتي السيارات كهياكل حديدية وكانت يتم تفصيل عربة الركاب الخاصة بالحافلات في المدينة، وهذه الصناعة لم تكن جديدة حيث بدأها آل الطباخي منذ نهاية ثلاثينيات القرن الماضي، لكن بعد نكبة عام 1948م انتقلت العائلة للعمل في عمان، واستلم عيد أبو عيد تصنيع الهياكل في المدينة، حيث كانت الحكومة الاردنية بعد النكبة تحفز أصحاب المصانع والحرف الكبيرة في العمل في عمان من خلال تسهيل الترخيص هناك أكثر من أماكن أخرى، من أجل تنمية العاصمة للملكة الجديدة.
كانت الخليل تملك أكثر من شركة للنقل، أولها شركة باصات الخليل الوطنية التي انشقت عن الشركة الوطنية للباصات في القدس التي تأسست مطلع ثلاثينيات القرن الماضي على أيدي أشخاص من سكان الخليل، إلى جانب شركة باصات الخليل-يافا والخط الغربي التي أسسها أحمد الشرباتي، التي عملت فيها وعمري 9 سنوات كمساعد سائق، لم يعطني القدر ولا الاحتلال فرصة السفر من الخليل ليافا أو زكريا وبيت جبرين، حيث أدت النكبة لتوقف تلك الخطوط بعد أن دُمرت القرى وأغلقت الحدود، فكانت رحلتي الأولى نحو قرية إذنا، ثم عملت في الشركة الوطنية على خط القدس، هذه الشركة المساهمة التي كانت لملك كل أهل الخليل، حيث كان الناس يشترون الأسهم فيها ويبيعونها، وكانت الشركة مصدر اقتصادي للمدينة ككل، وهذا ما فقدناه اليوم، ولا أنسى هيبة فتحي أبو سارة مدير الشركة في كراج الباصات المحتل اليوم بالقرب من الدبويا، وكيف كان يسير الرحلات ويضبط أحوالها بكل هيبة واحترام.
مع اندماج الضفة الغربية مع الشرقية افتحنا على المحيط العربي، ولكن خسرنا امتدادنا الفلسطيني في أراضي 48 التي أصبحت وراء حدود مستحيلة، عملت في خط الشاحنات الواصل بين عمان وميناء العقبة، ثم شهدت الناس وهي تموت في الصحاري من البصرة باتجاه الكويت، الكويت تلك الدولة التي لم تنسى فضل الفلسطينيين في نهضتها، حيث شهدت تقلب أحوالها بأم عيني، كانت الكفاءات تخرج من فلسطين وخاصة الخليل، التي أسست أبناؤها البلديات والجامعات والمدارس وكانت المعلمات تخرج من المدينة للعمل هناك وتأخذ معها (المحرم) للتمكن من الإقامة لشهود عديدة بدون حرج، وشهدت النكسة عام 1967م التي حملت الناس في أوج حربها في الحافلة باتجاه الأردن، قبل أن تصادفني والدتي في منطقة باب الزاوية وتمنعني من ذلك، لم تمنعني أنا فقط بل منعت كل الناس من مغادرة المدينة، وبقينا في وسط العتمة ننتظر فجرًا آخرًا.
جانب قصير من اللقاء الطويل والرائع يوم أمس الأربعاء 25/6/2025 مع السيد محمد مصباح الشلوي مواليد مدينة الخليل عام 1941م، الشكر موصول له ولعائلته على حسن الضيافة والاستقبال.
المصدر: نادي الندوة الثقافي
26/06/2026

