
لم يفكر أحد سابقًا بأمر الحدود وكيف لها أن تصبح فيما بعد لعنة مثل سجن أو أكبر، حينما حمل والدي أمي والتحقا بعمي في القاهرة من أجل العمل لم يعرف أنه سيورثني حزن كبير فيما بعد، كنا نسافر من محطة اللد للقطارات، نخرج من الخليل نحو بيت جبرين فاللد إن أردنا اختصار المسافات، وما هي إلا ساعات نكون فيها في حضن النيل، بعد الحرب العالمية الأولى عرفت البلاد كسادًا لم تعرفه من قبل، وكانت حكومة الانتداب في حداثة عهدها في فلسطين تعمل المستحل لتطوير مشروعها الصهيوني الوليد، خرجت عائلتي كما الكثير من العائلات للعمل في القاهرة، في منتصف العشرينيات حدثت هجرة ضخمة نحو مصر للعمل، وهذا ما يفسر وجود الكثير من العائلات الخليلية هناك حتى الآن، وافتتح والدي وعمي محلات تجارية كانت هي الأكبر في العباسية حينها، وعند عودتنا للخليل عام 1932م بقينا مشتتين هنا وهناك، لوحدي اليوم أعيش لأدفع ثمن ذلك الاغتراب، لأنه في اليوم الذي سافرت فيه من أجل زيارة ابنتي المريضة في القاهرة، مات زوجي، كنت قد اجتزت الحدود الأردنية حينها ولا مجال للعودة، بعد ضغط شديد من أولادي أكملت الطريق نحو مصر، رأيت ابنتي في المشفى وبعد ساعات قليلة توفيت هي الأخرى وبقيت أنا بقلب ممزق الأشلاء بين الحدود، لا أعرف كيف ألملم ما تبقى من شتاتي.
في الخليل كان بيتنا خارج حدود البلدة القديمة في أول شارع الشلالة، حيث بنادق وخيول الجيش البريطاني المتمركز في مبنى البوليس (مدرسة أسامة بن منقذ) كنت أقف هناك أراقب السقواتي الأعمى الذي كان من بين الجنود المحتشدة يعبيء الماء في القرب الجلدية من عين العسكر، ثم يحملها لبيوت الناس على حمارة، لم نكن نعرف الخوف حينها، كانت معارك الثوار في الجبال المحيطة في كل مساء تعطينا أملًا بغدٍ أجمل، لبست مريول المدرسة الأزرق وذهبت لروضة الست نبيهة خوري قبل الانتقال لمدرسة بنات الخليل (خديجة عابدين اليوم) كان التعليم في مطلع الأربعينيات له رونق خاص، وكان المعلمين القادمين من شتى مدن فلسطين، مع معلمي المدينة يساعدونا على معرفة البلاد بشكل أوسع، ولا زلت أذكر فضل العديد منهم مثل الست نجلاء المسيحية التي سميت أختي باسمها، وفاطمة كاملة ويسرى كاملة وغيرهم الكثير.
ذاكرة البلاد لا تشبه واقعها وهذا هو المؤسف، عام 1940 طُلب مني الذهاب لإخبار أبي بولادة أمي، كان حينها في بيت عمتي في القدس في حي البقعة، ركبت الحافلة من موقف الحافلات في الخليل باتجاه القدس، نزلت في باب الخليل وتوجهت بحافلة أخرى لحي البقعة، لا أنسى كم كان حيًا راقيًا تسكنه العائلات الفلسطينية ميسورة الحال، كانت البيوت هناك مثل القصور موزعة بإتقان هنا وهناك، دخلت البيت وأخبرت أبي وعدنا للخليل، صورة القدس تلك لا تغيب عن مخيلتي فهي تذكرني بحياتنا في ذلك الزمن ورقيها، لكن بعد الاحتلال تحولنا إلى تائهين نبحث عن أي مكان آمن نسكن فيه.
جانب قصير من اللقاء الذي أجراه فريق التأريخ الشفوي التابع لنادي الندوة الثقافي يوم الثلاثاء الماضي الموافق 15/10/2024 مع السيدة ربيحة داوود الشلودي (ام طلال أبو منشار) مواليد الخليل عام 1932م، الشكر موصول لها ولعائلتها على حسن الضيافة والاستقبال.
المصدر: نادي الندوة الثقافي
17/10/2024

