من إجزم إلى اليرموك:
ذاكرة الحاج محمد صبري الحسن... حين تصبح الأرض عرضًا
مخيم اليرموك – 24/10/2025
هــــويــة – فدوى برية
بعد ظهر يوم الجمعة في 24 تشرين الأول 2025، زار وفد هوية الحاج محمد صبري يوسف حسين الحسن (أبو صبري)، من مواليد عام 1939 في قرية إجزم – قضاء حيفا، في منزله الكائن في مخيم اليرموك بدمشق. استقبلنا بحفاوة كبيرة وسط أفراد أسرته وأحفاده، وبدأ حديثه بالصلاة على النبي، قبل أن يعود بذاكرته إلى قريته التي ما زالت تسكن وجدانه رغم مرور العقود.
قال إنه من إجزم، وإنه لم ينسَ قريته يوماً، وكان كلما دخل إلى الإنترنت يبحث عن صورها بيتاً بيتاً، آملاً أن يراها بعينيه قبل أن يرحل عن الدنيا. وصف إجزم ذات الحجر الأبيض وجوّها الدافئ، وبساتينها التي كانت تفيض بخيرات الأرض من الزيتون المعمّر والكروم الملكية والتين، حيث الأكل الطبيعي واللبن الطيب والمطر الرباني، وكانت الناس تعيش بصحة وعافية بعيداً عن الأمراض.
تحدث عن “صواني الحلو” التي كانت جدته تحضّرها من الخروب المعمّر في أرض والده عندما كان في الصف الثاني، وعن أمه التي كانت تجلب الماء الزلال من العين مع نساء الحارة على بعد كيلومتر من البيت. كما استعاد مشاهد المدرسة ذات الشكل المميز، التي كانت تقع في وسط البلدة، وكان مديرها الأستاذ مصطفى الطاهر معروفاً بانضباطه الشديد، يعاقب الطلاب الذين لا يرتدون “البسطار” في الشتاء بعصايتين على أيديهم.
تحدث أيضاً عن مختار البلدة أحمد اليونس، وعن عائلات إجزم الكثيرة مثل الحسن، مسعود الماضي، أبو زرد، الغزاوي، أبو خليفة، أبو الجلدة، الشيخ قاسم وغيرهم، مشيراً إلى أن المحبة والألفة كانت تسود بينهم وكأنهم عائلة واحدة. وما زال يتذكر الحاكورة ومنزل جده أحمد الشيخ حسن المحاذي لجامع إجزم الذي بناه مسعود الماضي، والشوارع الرملية التي كانوا يسيرون فوقها دون خوف، والشتاء الدافئ الذي كانوا يقضونه بملابس الصيف.
ضحك وهو يستعيد أيام الطفولة، يوم كان يزور عمّه لأكل الهريسة، وزوج عمّته الجمّال لأكل الزبدة، ويلعب مع أولاد عمّته قبل أن يتوفاهم الله بمرض الحصبة. قال إن تلك العادات والتقاليد التي تربّى عليها في إجزم رافقته طوال حياته، وحافظ عليها في غربته. ثم تحدّث عن لحظة الخروج من القرية، حين سار الأهالي ليلاً على الأقدام وسط إطلاق النار من الدوريات الإسرائيلية، حتى وصلوا إلى أم الفحم، ومنها إلى جنين ثم إلى الأردن، قبل أن يعبروا إلى درعا في سوريا، حيث نصب الأهالي خيامهم في منطقة سموها “نُمر”. وصف تلك الرحلة بأنها كانت موجعة للقلب، وقال إنه ومنذ ذلك اليوم ما زال ينتظر العودة، ولا يدري إن كان ذلك وعداً ربانياً أم ابتلاءً.
في سوريا بدأ صفحة جديدة من حياته. كان عمره تسع سنوات عندما وصل إلى درعا، وهناك أكمل دراسته الابتدائية والثانوية في مدرسة المتنبي ثم الثانوية الأولى بإدارة الأستاذ خالد الفاهوم، قبل أن ينتقل إلى دمشق عام 1958 ليلتحق بمدرسة المساحة التابعة لوزارة الزراعة. بعد تخرجه أدى الخدمة العسكرية بين عامي 1962 و1964، ثم بدأ عمله في مديرية المساحة متنقلاً بين دير الزور ودمشق ودرعا والسويداء، حيث تولّى لاحقاً رئاسة فرقة المساحة وأسهم في عدد من المشاريع الكبرى، منها مشروع طريق دمشق – حمص (الأوتوستراد).
استمر في عمله حتى عام 2000، ثم تولّى مهمة مختار حي الكرمل في مخيم اليرموك حتى عام 2016. وعلى الرغم من السنوات الطويلة التي قضاها في الغربة، بقي قلبه معلّقاً بفلسطين، يتابع أخبارها يومياً ويحتفظ بصورها في ذاكرته كأنها الأمس القريب.
يقول إن المال يذهب لكن الوطن لا يُباع، وإن الأرض بالنسبة له عرض لا يُفرّط فيه، وإنه لم ولن يتنازل عن شبر واحد منها. ختم حديثه بتنهيدة ممزوجة بالأمل، مؤكداً أن كل ما يتمناه هو أن يرى إجزم بعينيه ولو ليوم واحد قبل أن يودّع الدنيا.
