دمشق – 1/11/2025
#هويـــة - فدوى برية
عصر السبت الأول من تشرين الثاني، زار وفد "هوية" الحاجة عطاف نصرت عبود، من مواليد عام 1946 في مدينة الناصرة، والمقيمة حاليًا في شارع اليرموك مقابل مدخل شارع لوبية.
عند دخولنا منزلها، لفتنا منظر الأشجار الكثيفة التي تغطي المدخل، وكأنها تحرسه منذ سنوات الحصار الطويلة التي عاشها مخيم اليرموك عام 2011. استقبلتنا بابتسامةٍ دافئة وبطيبةٍ لافتة، محاطةً بعددٍ من القطط التي تعتني بها كأفرادٍ من أسرتها، تضفي على المكان حياةً ودفئًا خاصًا.
عاشت الحاجة عطاف وحيدة دون زواج، صامدة في منزلها طوال سنوات الحرب والحصار، رافقت أخاها ولم تغادر المخيم رغم الجوع والقصف والدمار، لتبقى شاهدة على الصمود والمقاومة في وجه المحن.
بدأ اللقاء حين أبرزت الحاجة بعض الأوراق الثبوتية القديمة وجوازَي سفر يعودان لوالدها ولعائلتها، ما زالت تحتفظ بهما حتى اليوم بعناية وحنين.
تقول:
"ولدت في المشفى الفرنسي بالناصرة عام 1946. خرجت من بلدي وأنا بعمر السنتين فقط، ليلاً عام النكبة مع أمي وإخوتي وجدي وبيت عمي، ولحقنا بأبي وأعمامي الذين كانوا قد سبقونا إلى بنت جبيل في لبنان، ومنها تابعنا طريقنا نحو الشام."
توضح الحاجة عطاف أن ما تعرفه عن الناصرة قبل النكبة سمعته من والدها ووالدتها وجدها، إذ كانت صغيرة جدًا على تذكّر تلك التفاصيل بنفسها، لكنها تربّت على روايات البيت التي ظلت تتناقلها العائلة جيلاً بعد جيل.
كانت الناصرة كما وصفتها والدتها مدينة المحبة والتعايش بين المسلمين والمسيحيين، مدينة البيوت الحجرية والكروم، والرمان والليمون والصبار، التي كانت تُسقى من مياه الأمطار في “آبار الجمع”. وكان أهلها يقصدون بحيرة طبريا للاستشفاء والتنزه.
عُرفت العائلة بالعلم والتعليم؛ فجدها كان موظفًا في الحكومة البريطانية ويتحدث التركية والعبرية والفارسية والفرنسية والإنجليزية. وكان بيت الجد الكبير يضم العائلة كلها، وفيه عقد حجري جميل وكرم واسع زرع فيه الجد لكل فرد من أبنائه شجرة ليمون ورمان. وكان الرعيان يقيمون سباقات خيل في البيادر المجاورة.
وتتابع الحاجة عطاف ما سمعته من والديها عن أيام الحرب والنكبة عام 1948:
كان أعمامها من المجاهدين مع فوزي القاوقجي، وقاتلوا الإنجليز ثم اليهود. صمدت الناصرة أربعين يومًا بوجه الهجوم قبل أن يدخلها اليهود متخفّين بلباس عربي. تروي الحاجة ما قالته أمها عن ابنة عم جدها مريم عبود التي اعتقدت أنهم جيش الإنقاذ فزغردت لهم، فأطلقوا النار عليها واستشهدت، عندها دبّ الرعب بين الأهالي فاضطروا إلى الخروج.
تحكي الحاجة عطاف أن أمها صبرية أحمد وردة رفضت بدايةً مغادرة منزلها، لكن اليهود داهموا البيت مرارًا وسألوا عن أعمامها. كانت لديهم سيارة جديدة حمراء، فاقتحم الجنود الكراج وأخذوها.
جاء التهديد بقتل النساء والأطفال إن لم يُسلَّم الرجال، فقرّر عمها الكبير الرحيل بعائلته. لجأوا أولاً إلى أقارب من عائلة البنا، وغادروا على الدواب عبر جبل عامر حتى وصلوا بنت جبيل، حيث التقت هناك قوافل من العائلات الفلسطينية.
لم تطق والدتها البقاء، فقال عمها الكبير عبارته الشهيرة:
"سوريا بلد بيعيش فيها الغني والفقير."
فانتقلت العائلة إلى حي كفرسوسة في دمشق، حيث ساعدهم صديق للعائلة من أصل شامي يمتلك فرنًا. وبعد فترة قصيرة، انتقلوا إلى باب توما، ثم إلى شارع بغداد – دخلة النحلاوي مقابل جادة الخطيب. عام 1960، اشترى والدها أرضًا في مخيم اليرموك وبنى المنزل الذي لا تزال الحاجة عطاف تقيم فيه حتى اليوم.
ما زالت تحتفظ حتى الآن بجواز سفر والدها نصرت عبود، تقبّله وتترحّم عليه كلما رأته، مستذكرةً رحيله وحياته التي كانت حافلة بالكرم والعلم والوفاء للوطن.
تقول الحاجة عطاف بدموعها الصادقة:
"بتمنى أرجع عالناصرة، أرض آبائي وأجدادي.
يا ريت لو يوم واحد أشوف بلدي، أرجع أبوس ترابها.
ما بقبل كلمة لاجئة، ولا أرضى بأي جنسية غير الفلسطينية.
ما بيروح حق وراه مطالب، ومهما طال الزمن، أولاد أولادنا بيرجعوا."
