السيدة فريال دبور:
“أبدًا… حتى لو بدي أموت، بدي أرجع”
شهادة ر – مواليد 1945، من طبريا وأصولها من صفد
غسان الحاج خليل – هوية/ سوريا
١٤/٥/٢٠٢٥
في إحدى غرف منزلها، جلست السيدة فريال فضل دبور، تسترجع مشاهد الطفولة المبكرة التي لم تُمحَ من ذاكرتها، رغم سبعة عقود من الغربة. ولدت فريال عام 1945 في طبريا، لأسرة تنحدر من صفد، وتفتخر بمهنة أبيها وجدّها، اللذين كانا يعملان في حِذاء الخيل.
تروي أنها رأت والدها يمارس هذه المهنة حتى بعد خروجهم من فلسطين، إذ أُحضرت له خيول وقام بحذوها بنفسه، في لحظة كانت تختزل في داخلها شيئًا من الماضي الذي رفض أن يُنسى.
عاشت العائلة قرب بحيرة طبريا، وكان إخوتها يصطادون السمك ويأتون به طازجاً إلى البيت. تتذكر بيتهم جيداً: “غرفة وسطح”، تقولها ببساطة، لكنها تمتلئ بالحنين. ومع تصاعد التوترات في عام 1948، بدأ القصف على المدينة، وكانت الطفلة الصغيرة تصعد إلى السطح بدافع الفضول، لكن والدتها كانت تعيدها مسرعة إلى الغرفة، تحاول أن تحميها من مشهد أكبر من عمرها.
حين تسارعت وتيرة الأحداث، وجدت العائلة نفسها مضطرة للمغادرة. كان بجوارهم عائلة "الشعبي" من قرية شعب، وكان لديهم شاحنة. وضعت أهل فريال متاعهم في الشاحنة، واتجهوا نحو صيدا في جنوب لبنان.
لكن المغادرة لم تكن قراراً سهلاً للجميع. تروي فريال أن أخاها الأكبر محمد، وكان عمره 17 عاماً، رفض الخروج من طبريا. كان يرى في البقاء نوعاً من الوفاء والمقاومة. غير أن أحد الرجال من صفد، وكان طويلاً وعريض المنكبين، حمله بالقوة ورماه في الشاحنة قائلاً:
“رجال بشوارب قد خرجت وغادرت.. انت شو بدك تبقى تعمل هون؟!”
من صيدا، نُقلت العائلة إلى حلب بالقطار. وفي القطار، طبخت أمها مجدّرة. تتذكر هذا المشهد بحميمية، كأنه صورة ثابتة وسط تيار متلاحق من النكبة. ولكن ما كان ينتظرهم في حلب كان أقسى مما تصورت الطفلة.
سكنت العائلة في غرفة صغيرة لا تتجاوز مترين بمترين، بلا ماء ولا خدمات صحية. البرد كان قاسياً، والثلوج تتساقط بغزارة، حتى إن قطع الجليد كانت تتدلّى من سقف الزينكو “كالشموع”، كما وصفتها. مات كثير من الكبار والصغار في تلك السنة، إلا أن بعض مزارعي النيرب من أبناء المنطقة تعاطفوا معهم، وقدموا لهم ما استطاعوا من دعم.
أثناء حديثها عن المجتمع الفلسطيني قبل النكبة، كانت كلمات والدتها حاضرة في ذهنها. أخبرتها أن اليهود الذين عاشوا بجوارهم قديماً كانت علاقتهم طيبة، حتى إن بعضهم كان يزورهم ويتفقدهم. لكن، كما تقول، “الذين خربوا كل شيء هم المهاجرون الجدد، وخصوصاً الروس والعصابات الصهيونية”. هؤلاء هم من قلبوا الواقع، وأشعلوا الحرب.
في حلب، درست فريال حتى الصف التاسع في مدرسة يافا، ثم تعلمت الخياطة، وكان لها بعض المحاولات الشعرية. رغم ضيق الحال وصعوبة الظروف، عاشت في مجتمع مخيم متماسك، فيه تضامن وتكاتف بين الناس. عاشت بجوار عائلات من مناطق مختلفة: بيت رحمة من طبريا، قدورة من صفد، أبو هاشم من ترشيحا، صندقلي من عكا. ولاحقاً، خُطبت وتزوجت من محمد علي فانوس، وعاشت معه في اللاذقية، حيث ما زالت تقيم حتى اليوم.
وحين سُئلت عن حق العودة، وما إذا كانت تقبل بالتعويض بدل فلسطين، أجابت عبر قصة تروى على لسان أمها، التي أصابها ألزهايمر في أواخر أيامها. ذات مرة، سألها أحد أبنائها:
“لو عرضوا عليك مالاً بدل فلسطين، بتوافقي؟”
فنهضت الأم من مكانها وقالت بصوت ثابت:
“أبداً… حتى لو بدي أموت، بدي أرجع.”
ثم قالت:
“فماذا تريد أن تسمع مني أنا؟! وقد عشت النكبة واللجوء والنضال؟! أرض فلسطين لا تعوّض.”
