الشاعر عبد الكريم عبد الرحيم في حوار مع مجلة «العـودة»
كان حلمي الوحيد أن نشكلَ طريقاً حقيقياً يقودنا إلى العودة
حين ترسم القصائد طريق العودة تُصبح فلسطين أقرب
وسام الباش/ دمشق
في أي مجموعة من هذه المجموعات الشعرية التي تراها، أو في أي مجموعة لم أطبعها حتى الآن، لن ترى دمعاً، لن ترى بكاءً، فأنا لا أبكي أندلساً ضاعت، بل أبحث عن طريق للعودة إلى فلسطين.
هكذا كان الحديث مع الشاعر الفلسطيني عبد الكريم عبد الرحيم، ابن مدينة صفد، وهكذا بدأ في حديثه عن ذكريات الوطن وآمال العودة وأشواق القصائد إليها.
«العـودة»: ست سنوات كان عمر الشاعر عبد الكريم عبد الرحيم عندما خرج من مسقط رأسه ورأس أجداده صفد. ماذا تركت هذه المدينة في شخصية الشاعر عبد الكريم عبد الرحيم؟
الموقف الذي تعيدني إليه بهذا السؤال هو موقف تكوين الإنسان العادي الفلسطيني خارج وطنه وفي منفاه لاثنتين وستين سنةً. فقد خرجتُ من هذه المدينة القريبة من جبل الجرمق ممسكاً بذيل ثوب أمي، لأن أبي بقي مع الرجال الذين يريدون أن يدافعوا عن الوطن، ولذلك كان لا بدّ من خروج النساء والأطفال حتى لا يكونوا وقوداً لتلك الحرب التي يمكن أن نطلق عليها اسم حرب ضد طرف واحد؛ لأن السلاح الذي كان بين أيديهم يجب أن يكتب عليه أنه سلاح حتى يصدق في القول، بينما كان العدو يمتلك الدبابات والرشاشات وحتى الطائرات عام 1948 فخرجنا من هناك لنسأل: أين أبي؟
ذات يوم، وقد اشتقت إلى أبي، خرجت من بيت جدي في دمشق، تركتهم وخرجت باحثاً عن طريق إلى صفد يوصلني إلى أبي. هذه الأمور الصغيرة أخذت تتشكل في اللاوعي ثم تكبر في الوعي.
ثم من حديث أساتذتنا، وخاصة الأستاذ هاني مبارك الذي كان يحدثنا باستمرار عن فلسطين، أخذت تتشكل تدريجاً رغبة عارمة في البحث عن طريق العودة إلى البلاد، وكيف يكون هذا الطريق؟ هو طريق فكري وطريق معلوماتي ومرجعي، وبعد ذلك سيتحول إلى طريق آخر: كيف نعثر على البندقية ونعود بها إلى صفد؟
«العـودة»: كيف بلورت النكبة واللجوء شخصيتكم أدباً وثقافةً؟ وكيف انعكست اللحظات الأولى من اللجوء على الكلمة والبحر والصورة لاحقاً؟
في أي مجموعة من هذه المجموعات الشعرية التي تراها أو في أي مجموعة لم أطبعها حتى الآن لن ترى دمعاً، لن ترى بكاءً، أنا لا أبكي أندلساً ضاعت، بل أبحث عن طريق للعودة، عن طريق لفلسطين، ولذلك بدأ يتشكل طريقنا عبر البندقية، ولمّا غنت أم كلثوم قصيدة نزار قباني «أصبح عندي الآن بندقية.. إلى فلسطين خذوني معكم»، كنا نعرف تماماً هذا الطريق وكنا قد بدأنا قبل النكبة الثانية في حياة الشعب الفلسطيني (حزيران 1967) بدأنا نتلمس طريق العودة من طريق البندقية، من طريق العمل الفدائي من طريق الثورة الفلسطينية. وهنا أقول لقد انتزعت من تفكيري ومن ذاكرتي كل ما يحلم به الشباب في تلك الفترة، كان الحلم الوحيد كيف نستطيع أن نوجد طريقاً حقيقياً يقودنا إلى العودة، وهذا الطريق يجب أن نُعدّ له العدة (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة)، وكان السؤال كيف نُعدّ تلك القوة؟ ما الطريق إلى تلك القوة؟ في تلك الآونة نشأت ظاهرة كريمة وشريفة في حياة شعبنا العربي الفلسطيني هي ظاهرة العمل الفدائي التي بدأت تأخذ في ما بعد منحى المقاومة.
«العـودة»: يرى عدد من النقاد أن شخصية الأديب الفلسطيني مرهونة للحظة وللحدث، وهي مناسباتية في غالب الأحيان، تتشابه صورها ورؤاها وحتى همّها في معظم نتاجات الأدب الفلسطيني، ما رأيك؟
هذا كلام من يريد أن يتسلى في قضية كبرى، من يتابع الثورة الفلسطينية المعاصرة والعمل الفدائي، يلحظ أنه بين ثنايا العمل الفدائي عقائد متعددة فكان هناك المتديّنون واليساريون والماركسيون والقوميون العرب والبعثيون، بمعنى أنه يدل على أن هناك وحدة وطنية في النضال من أجل التحرير. لكن في الوقت نفسه، يفيد بأن العمل من أجل التحرير لم يكن عملاً آنياً أو لحظياً أو مناسباتياً، هو عمل أيديولوجي عقائدي. ومن ناحية أخرى، الإنسان الملتزم هو الذي يحمل خشبته على ظهره باحثاً عمن يصلبه عليها كما قال كعب بن علي الخزاعي، فهو إذاً إنسان أكثر عمقاً من أولئك الذين يطفون على السطح، وأنا أعتقد أنَّ قضيتنا لم تكن في يوم من الأيام من القضايا التي تطفو على سطح الأمنيات.
«العـودة»: في ديوانك «للماء أمنح صوتي» قصيدة بعنوان «حضور الغياب»، إلى أي مدى تحلق بالقصيدة الوطنية، وماذا تشكل كماً ونوعاً في شعرك؟
الشعر ليس نظماً، ليس ألفاظاً. الشعر هو التجربة، هو تجربة الإنسان في حياته كلها. عندما أتاني الورم، شعرت للحظات إنه يمكن أن أودع هذه الأرض قريباً. كيف يمكن أن أرحل وأترك صفد وأنا الذي كان يتمنى دائماً أن يسقط في ساحة ما، وأن تحمله طيور النورس بعد ذلك إلى صفد؟ هل يوجد بحر في صفد؟ إنه البحر الممتد إلى أعماق عكا إلى أعماق حيفا إلى أعماق يافا. أنا لا أقبل أن يجزأ هذا الوطن ولا أن نرضى بالأمر الواقع ولا أن نقول الرأي العام العالمي يرفضنا. متى قدم لنا هذا الرأي قطرة ماء؟ متى قدم لنا وردة من سهول بيادرنا وأراضينا التي خلفناها هناك؟ كيف يمكن أن تنتزع من ذاكرتي رؤية ذلك السقف القرميدي الأحمر الذي كان يظلل بيتي؟ كيف يمكن أن تنتزعه ببساطة وتقول لي أمر واقع والله اليهود دخلوا واحتلوا تلك البلاد ونحن سنحررها ونعود إليها.
أما هاجس الورم والموت والرحيل من دون فلسطين، قلت في نفسي: لا يمكن أن أرحل، وقاومت والحمد لله استطعت أن أتجاوز تلك المرارة الشخصية، فبرزت لي هذه العروس الجميلة صفد، برزت وظهرت ولم أترك الملاءة التي كانت ترتديها المرأة الصفدية فجاءت في القصيدة. لم أترك المساجد ولم أترك القهوة المرة في صباح العيد، ولم أترك تلك الجلسات التي كان يجلسها الآباء والأجداد.
تقول لي خرجت وعمرك ست سنوات فكيف تذكر كل ذلك؟ وأقول لك إنّ درس التراب لا يُنسى، ولذلك ستجد صفد معي في رحيلي وسوف تبقى دائماً أنشودتي. لقد ظنّ أحدهم أنني عندما أكتب عن صفد فأنا أكتب عن مديني، فقلت له: لا، أنا عندما اكتب عن مدينة، فأنا أكتب عن كل فلسطين. أنا كتبت عن حيفا قصيدتين، واحدة منهما «الصعود إلى حيفا»، وهذه رموز فلسطين، فعندما أقول صفد كأنني أدق أبواب فلسطين جميعها، أبواب القدس أبواب حيفا أبواب طبريا. وفي الديوان السابع الذي لم يصدر بعد كان بعنوان «مدن تشبهني»، هي هذه المدن وعدد من المدن العربية كدمشق والقاهرة وغيرها من مدننا الحبيبة.
«العـودة»: هل يمكن أن يوظف الأدب في دعم قضية العودة؟
بمجرد أن تنشر أدبك الفلسطيني ويصل إلى جميع أنحاء العالم فإنك تؤكد العودة. الدكتور محمد الجعيدي قدم دراسات عن الأدب المكتوب باللغة الإسبانية لشعراء في أمريكا اللاتينية ومنهم فلسطينيون وعرب، وكانت دراسات هامة قدمت للعالم الشيء الكثير وعرّفت بالقضية الفلسطينية. إذاً، نحن نحاول أن ننقل الأدب الفلسطيني إلى سكان الكرة الأرضية، وعندما يصلهم ويطلعون عليه سيحترمون تجربتنا الفكرية، وعند ذلك نكون قد قدمنا للعودة الكثير.
«العـودة»: المساحة بين الشاعر ووطنه وقضيته هي المساحة ذاتها بين الأدب والالتزام.. كيف تقرأ تجربة ما يسمى «أدباء السلام مع الكيان الصهيوني»؟ وهل ثمة مساحة بين الأدب والتسوية؟
لا بد من خلاصة لهذا الموضوع، الإنسان يكتب ليعبّر عن ذاته وعن نفسه، عندما يكتب ليخدم الآخر فهو ليس أديباً، عندما يكتب من أجل جعالة تأتيه من المكتب الفلاني أو المؤسسة الفلانية يكون الثمن بخساً جداً ما دام في الطرف الآخر تراب وأرض وأشجار زيتون.. ما دام في الطرف الآخر المسجد الأقصى وكنيسة القيامة.. ما دام في الطرف الآخر إيمان حشود ابنة الأشهر الأربعة التي سقطت بقذيفة مدفعية.. عندما يكون هناك الفتى فارس، وعندما يكون هناك آيات الأخرس، وعندما يكون ذلك العجوز الفلسطيني الأب على كرسيه خارجاً من المسجد فتقصفه الطائرات. قل لي بالله عليك: الذين يمدّون إلى الآخر ويقبّلون الأيدي، هل هم أدباء؟ لا أريد أن أطيل في هذا المنحى فما قلته يكفي.
«العـودة»: وماذا تقول لفلسطين شعراً؟
أيامنا الراعفة
تدور في المكان
وحين شاب شعرها ولم تمت واقفة
رأيتها مذبوحة اليدين واللسان
«العـودة»: كلمة أخيرة لمجلة «العـودة»
شكراً لكم على هذا اللقاء، والعودة قريبة جداً بإذن الله.♦
مجلة فلسطينية شهرية - العدد السادس والثلاثون - السنة الثالثة – أيلول (سبتمبر) 2010 م– رمضان 1431 هـ