ياسر قدورة - بيروت
في معرض البحث والتوثيق لعائلات سحماتا كنت كلما زرت أحد الكبار من سحماتا أسأله عمن يمكن أن يفيدني في جمع المعلومات، ولم يبخل علي أحد بالنصيحة.. وكان الأستاذ أحمد أيوب قد أشار علي بزيارة محمد كامل خشان لأنه سيفيدني بما لديه من تاريخ وذكريات عن البلد وأهلها، وفي رسالة مكتوبة أرسلها إلي الحاج عبد الرحيم الجشي من دمشق أشار علي كذلك بزيارة محمد خشان (أبو عماد) مرفقاً بالرسالة رقم الهاتف للتواصل مع الأستاذ محمد.. فلم أتردد، واتصلت بألستاذ محمد الذي رحب بالفكرة أيما ترحيب ودعاني لزيارته في منزله الكائن في بيروت قرب الجامعة العربية.
منذ الدقائق الأولى للزيارة في 23/3/2011 عرفت أنني سأخرج من عنده وفي جعبتي الكثير مما أسعى لتوثيقه.. فالأستاذ محمد خشان من مواليد عام 1934، أي أنه خرج من سحماتا شاباً، وعمل في الشتات مدرساً لعقود، وهو يقوم حالياً باستكمال كتابة مذكراته، ولا يزال يملك ذاكرة متقدة مفعمة بالمشاعر الوطنية تجاه فلسطين عموماً وسحماتا خصوصاً.
في شأن العائلات، ساعدني أبو عماد بتجاوز نقط كانت عالقة عندي وهي عائلة دوخي التي سمعت بها أكثر من مرة إلا أنني لم ألتق بأحد منها، فأكد أبو عماد أن دوخي هو واحد من أبناء الجد خشان.
فقد كان للجد القريب خشان ثلاثة ابناء وابنة واحدة: أحمد، صالح، دوخي وسعدة. أما أحمد فقد توفي في سحماتا ولم يعقب، وصالح يعرف له ولدان: محمد (جد أبو عماد) والثاني محمود ( وقد توفي في فلسطين) ولكن أبناءه خرجوا إلى لبنان عام 1948. و دوخي له ولدان: سعيد وسليم، أما البنت فهي سعدى.
يصف أبو عماد جده محمد صالح خشان بأنه عريض المنكبين، أزرق العينين، ذو لحية بيضاء وصحة قوية. وقد خدم في الجيش التركي كغيره من أبناء البلد الذين تجاوزا عمر الـ 16 سنة، وقد حضر حرب اليمن، ويذكر أبو عماد أنه أخذ من جده قرن (كركدن) كان يضعه في بيته وربما كان قد أحضره معه من اليمن.. كان يسكن في الحارة الفوقا في سحماتا بجوار دار الحاج محمد، ودار أبو جمال، ودار الحاج أسعد (أبو يوسف) وقريب من بيت عثمان، ثم بيت سليم دوخي.
وفي الحرب العالمية الأولى لم يشارك في الحرب لأنه عمره كان قد تجاوز الـ 60 عاماً، وقد كان من المعمرين وتوفي عن عمر يتراوح بين 100 و110 سنوات.
أما والد ابو عماد، كامل محمد صالح خشان، فكان في سحماتا يعمل في تجبير عظام الإنسان والحيوان، وقد حضر أبو عماد وهو طفل عمليات تجبير عدة مرات لرجال ونساء وأطفال.
كامل محمد صالح خشان
ومن الذين يذكر أبو عماد أن والده قد جبر كسورهم سعيد محمود السعيد (السيسو)، بعدما تعرض للأذى من ثور هائج بعد تلقيه لسعة من حشرة تعرف بالـ (أوبة)، ويقال للحيوان الذي تلسعه هذه الحشرة بانه (إيأب).. وقد كسرت رجل سعيد من الفخذ وقام كامل خشان بتجبيرها بحضور ابنه محمد خشان.
ويروي أبو عماد عن عادل عثمان (أبو بسام) أنه قال له يوماً : ( لولا أبوك كانوا قطهوا لي رجلي)، فسألته لماذا؟ قال عباس كان عنده مشكل وانكسرت رجله، وأحضروا له مجبراً غير كامل خشان، من خارج البلد.. جبره وكانت والدة عادل حاضرة وطلبت منه بعد الانتهاء التوجه لمنزلهم لمعالجة عادل، ولكنها عندما رأت عذابات عباس أثناء التجبير وراحت تجري باتجاه الوالد كامل قبل أن يصل المجبر الاخر لعادل.. وكما روى عادل عثمان الأبو عماد، فإن كامل خشان ( وضعه على السطح، وطلب قليلاً من الزيت، مسح رجله وقال لوالدة عادل: شايفة!! ابنك رجله مش مكسورة ولكن فيها عمل (قيح) ويحتاج لعملية، الآن تأخذيه إلى عكا).. وكانت تريد أن تسمع هذا الكلام لنها تريد نقله إلى عكا بالفعل، أخذوه إلى حميد صهيون، وكان بالبوليس عند الانجليز ومتزوج من سحماتا وعلاقتهم به طيبة.. ذهبوا إليه وراحوا إلى المستشفى وقيل لهم بأنه يحتاج إلى عملية فورية فوضعه لا يحتمل التأجيل، فأدخلوه وأجريت له العملية وبرأت رجله.
عمل آخر مميز للمجبّر كامل خشان كان بعد معركة جدّين وانسحاب القوات من جيش الاتقاذ وأبناء القرى، فعند عصر أحد الأيام قرر المقاتلون الانسحاب خشية الوقوع بين نيران الانجليز من جهة واليود من جهة أخرى، وأعطى القائد أوامره بالانسحاب (ويظن أبو عماد أنه أبو ابراهيم الصغير)، وقد كانوا بين جبال وصخور عالية وأحراج كثيفة.. والمقاتلون أغراب عن المنطقة لا يعرفون الطرقات وبدأ اليهود بإطلاق النار عليهم فتعرض عدد من المنسحبين لكسور وإصابات وقام كامل خشان بتجبير عدد كبير منهم، ما بين 13 إلى 16 شخصاً تقريباً.
عن الوالدة زهرة أسعد بلشة التي يدعو لها ابنها محمد (ابو عماد) بالرحمة، يخبرنا أنها كانت من المعمرين وقد توفيت عن عمر يناهز 103 سنوات تقريباً.. ويذكر أن والدة أحمد أيوب (أبو خلدون) رحمها الله كانت تقول: ( في أكبر منّي في سحماتا إلى زهرة بلشة)..
سألناه عن بعض أفراد عائلة خشان في سحماتا، وتحديداً عن سعيد دوخي خشان، إذ قرأنا أنه كان قد هاجر إلى الأرجنتين قبل النكبة بكثير.. فيوضح أبو عماد بأن مجموعة كبيرة من أبناء البلد سافروا إلى الأرجنتين والبرازيل، وكلمة بوينس آيرس وساو باولو كانت من الكلمات المشهورة في سحماتا، وكذلك الساعات الدائرية بالأرقام الرومانية التي توضع في جيب الجاكيت الأمامية، وكان يحضرها الناس معهم من الأرجنتين والدول التي يهاجرون إليها.. والذين تركوا سحماتا وهاجروا إلى تلك البلدان كانوا نسبة عالية نظراً إلى عدد السكان حينها، منهم من رجع ومنهم من بقي هناك.. وممن يسمع أبو عماد أنه بقوا هناك ولم يرجهوا: من دار قدورة، ودار فاعور ودار موسى.
وعن خزنة خشان، يؤكد لنا المعلومة بانها كانت تعمل في الخياطة، وكان الناس يحضرون القماش من عكا أحياناً خصوصاً لخياطة أثواب العرايس، وبعض منها يشترونه من الدكاكين في سحماتا مثل دكان أحمد عبد القادر سلمون (أبو رياض).. كما كان البرجاوي يأتي أسبوع مرة أو مرتين إلى سحماتا، والبرجاوي كانت تعني بائع الأقمشة المتجول الذي يحمل كمية كبيرة من الأقمشة على ظهره.. ويذكر أبو عماد أنهم أدركوا أن البرجاوي كانت تطلق على باعة الأقمشة لأنهم كانوا يذهبون من بلدة برجا اللبنانية لبيع بضائعهم في فلسطين.
وعن الأحداث التي دارت في البلد أيام النكبة يحدثنا أبو عماد عن بعض مشاهدها ويقول:
( سحماتا دافعت عن نفسها دفاعاً جيداً يسجّل لها. حاولنا شراء سلاح، واللجنة في البلد اجتمعت ودرست أوضاع البلد وقررت أن العائلة الفلانية عليها بارودة.. والعائلة الفلانية بارودتين، وهكذا. ونحن فرض علينا بارودتين ولكن والدتي ذهبت إلى اللجنة وقالت نحن بارودتين؟! مين بدة يحملهم؟! أبوي بزمانه ما حمل بارودة، ولكن أخي لأمي هو ممكن يحمل واحدة.. المهم اشترينا بارودة..
البلدة اجتمعت وكان أمين الصندوق حينها الحاج أسعد قدورة، وقد ذهبت أنا وأبوي عند الحاج أسعد قدورة ووجدناه على السدة، وجلس هو وابي مدة طويلة ( قرابة نصف ساعة) وقد سمعته يقول لوالدي: " أنت الأول ممن يأتي ويدفع لشراء بارودة من سحماتا"، وكان سعر البارودة 35 ليرة..
ومن البعثة التي خرجت إلى الشام لشراء الأسلحة كان الحاج سعيد دوخي، ولم يجدوا من يعطيهم أو يبيعهم السلاح، فرجعوا وأعادوا المال إلى أصحابه، وتركوا للناس خيار تدبير أنفسهم بأنفسهم)..
طالت الجلسة مع الأستاذ محمد كامل خشان فذاكرته لا تنضب من الذكريات، ولم يتأخر بالإجابة عن أي استفسار، ثم أحضر ما عنده من وثائق وصور قديمة لأفراد من العائلة (ترون بعضها مع هذه المقالة) فهو حريص على الاحتفاظ بهذا التاريخ، وكذلك على بعض الأواني النحاسية التي ساهم شقيقه من أمه أسعد مصطفى حمودة بالحفاظ عليها عندما نقلها لهم حينما انتقلوا من الرشيدية إلى بعلبك..