دينا آغا - مخيم شاتيلا
يوم الأحد في 3/4/2011 توجهت وزميلتي غادة ميعاري لزيارة الحاج نايف محمد أبو عرب (ناصر)، وهو من مواليد مجد الكروم عام 1934، في منزله القائم في مخيم شاتيلا برفقة خالي محمد سعيد سلامة، فلقينا استقبالاً حاراً من الحاج نايف وعائلته.. وحين قدمت له موجزاً عن (هوية) والمهمة التي قدمت لأجلها أظهر تعاوناً كبيراً وجاد علينا بقدر كبير من المعلومات.
وحين طلبت منه أن يعطينا فكرة عن عائلته وعن مجد الكروم وكيف أخرجوا منها، قال:
( نحن أساساً من بيت ناصر ولكن اللقب غلب على اسم العائلة فأصبح للعائلة عدة أسماء منها: صغيّر، صليبي، ناصر وأبو عرب.. فجد جدي كان يلقّب بـ (صغيّر) فأصبح لقباً له وأصبحنا دار صغيّر.. وأخو جدي كان صلب القامة فسموه (صليبي) وبقي اسم ناصر لبيت يوسف وسعيد وتوفيق ناصر.. وهكذا انقسمت عائلة ناصر إلى ثلاث عائلات: صغيّر، صليبي وناصر. وعائلة صليبي أصبح لها فيما بعد فرع اسمه دار الوحش.
أما بالنسبة لنا فوالدي ولد بعد أن توفي جدي بثلاثة أيام وتربى في أحضان جدته وأطلق عليه الناس اسم ( قاروط عرب)، وحين كبر أصبح معروفاً باسم أبو عرب.. وهكذا نحن الوحيدين من عائلة ناصر أطلق علينا اسم "بيت أبو عرب").
وعن مجد الكروم وجيرانهم قبل النكبة، يكمل الحاج نايف حديثه:
( كان من جيراننا في مجد الكروم: دار سلامة، دار منّاع، ودار قدّاح حيث كانت بيوتهم قريبة جداً من بيوتنا... عام 1948 كان عمري 14 سنة، وكنا نحرس في منطقة اسمها "الليّات" التي تشرف على عكا وحيفا وعلى الساحل عموماً.. وكانت فترة من الكرّ والفرّ بيننا وبين اليهود على منطقة البروة، وفي آخر معركة في الصباح الباكر كنا في منطقة الطويل، وكان معنا شخص اسمه نمر راغب منّاع.. قلت له أنني أسمع أصوات ويبدو أن اليهود قد اقتربوا منّا، فقال لي إن هذه الحطّابات، ولكن سرعان ما وجدنا اليهود لا يبعدون عنا سوى حوالي 500 متر، وبدأت المعركة بيننا لكننا كنا لا نتجاوز الستة أشخاص فانسحبنا وتوجهنا إلى ضواحي البلد.
طلب مني الثوار أن أتركهم وأهرب لصغر سني، وهذا ما حصل فقد ذهبت إلى بير الزيتون في بلدنا، وكنت مرهقاً فجلست قليلاً وإذا بالسيارات قادمة من شرق البلد ومعهم مدفعين، فإذا بهم جيش الإنقاذ وسألوني أين هم اليهود؟ فأخبرتهم أنهم تحت البلد، وأخذوني معهم.. وذهبت مع أحدهم إلى "الأرنيفة" وهي أعلى منطقة بالبلد، واخذ يراقب مواقع اليهود وطلب مني أن أجمع 15 شخصاً من جيش الانقاذ وذهبت لإحضارهم أنا وأحد الجنود، وحين عدنا اصطفّينا على خط طويل ويبعد الواحد عن الآخر حوالي 100 متر، واصبح يعطيني أوامر كي أبلغها ولكنني لم أكن أفهم من تلك الأوامر شيئاً، فكان يقول لي: "بلغ 436"، فأقولها للشخص الثاني والثاني للثالث وهكذا حتى يتم قصف الهدف بالمدفعية. وبقينا كذلك حتى استطعنا نجعلهم يتراجعوا حتى حدود عكا ولم نستطع أن نتقدم أكثر من ذلك، وعدت إلى البلد وكنت أساعد الثوار وآخذ لهم المياه، وكان أخي الكبير حسن في تلك الفترة قد خرج مع الثوار).
أما الوالد فكان دوره محتلفاً إذ كانم يقوم بنقل الجرحى من السميرية إلى عكا، ويقول الحاج نايف : ( بقينا أنا ووالدتي وإخوتي 27 يوماً، وكان اليهود قد احتلوا منطقة الساحل. وفي اليوم الـ 27 جاءنا خبر أن اليهود احتلوا عكا وأن أبي قد علق هناك وحبس، وفي تلك اللحظة شعرت بالخوف للمرة الأولى منذ دخل اليهود بلادنا، فقررنا أن نخرج.
في طريق الخروج واجهتنا دورية يهودية وأطلقت علينا النار ولكن الحمد لله لم يصب أيٌّ منا، ثم وصلنا إلى قرية كويكات ولم نجد فيها أحد، فكل الناس قد خرجت.. توجهنا إلى عمقا، وهناك مكثنا في معصرة شرق البلد وكان معنا ثلاثة خيول وعربة أخرجناها معنا من مجد الكروم. عند المغرب وجدنا الناس جميعاً يهربون من البلد عبر بساتين الزيتون ومنهم من يجر بقرته، ومنهم من يحمل بعض البطانيات.. تبعنا الناس كذلك لأن اليهود سوف تحتل البلد كما جاءت الأخبار، وأردنا العودة إلى مجد الكروم وكانت طريقاً طويلة جداً وحين وصلنا إلى الليّات – مشارف مجد الكروم – أبت الخيل أن تسير فبعث أخي الصغير ليأتي لنا بالمساعدة، فأخذ أخي أحد الأحصنة وذهب وسأل عن بعض القارب ووجد بعضهم ولكن معظمهم لا يعرفوننا، ونحن بانتظاره ولكنه لم يرجع حيث طاب له المجلس وقررت اللحاق به.. وجدت في الطريق 6 أشخاص، وبعد أن ابتعدوا عني قليلاً أخذوا ينادون لأحد الحراثين باسم محمد الوحش، وهذا الأخير ابن عمي وسمعتهم يقولون " بيت عمك في الليّات يريدون المساعدة" ففهمت أن أخي طلب منهم المساعدة.. من شدة التعب تركتهم يذهبون لإخراج أهلي وجلست لآخذ قسطاً من الراحة، وبعد ساعة ونصف تقريباً إذا بهم عائدون ومعهم عائلتي والعربة، وقد تعرفت إلى عمي يوسف وعمي أحمد.. وهكذا بقينا في مجد الكروم وبعدها بفترة عاد أبي من عكا، وخرجت بعدها مع جيش الإنقاذ إلى عين إبل وعسكرنا هناك.
.. وفي أحد الأيام سمعت أحدهم يقول: " إجا حسن أبو عرب أبو المراجل" فتعجبت لأن هذا أخي، فركضت إليه وسألني عن سبب مجيئي إلى عين إبل فرويت له الحكاية. وطلب مني أخي أن أذهب إلى الرميش وأنتظره هناك لأنه سيلحق بي كي نعود إلى البلد، وهكذا حصل. بقيت في رميش دون ماء ولا طعام ولكن أخي لم يأت، والتقيت بثلاثة أشخاص هم أبو حسن سلامة،عبد الله شحادة وآخر لا أذكره وقلت لهم أني أريد الذهاب إلى مجد الكروم.. ذهبت معهم في رحلة السير الطويل حتى وصلنا إلى منطقة وادي الحصيد قرب سحماتا وهناك تملكني التعب والجوع ولم أعد أقوى على الحركة، وبعد مناوشات بيني وبين الشباب قلت لهم اذهبوا أنتم فأنا لم أعد استطيع أن أتحرك.. وجادلوا كثيراً معي ولكن عبث، وذهبوا وبقيت هناك، وبعد أن ارتحت قليلاً بدأت أزحف وأقاوم وبعد ليلة طويلة وجدني شخص يمتطي جحشاً فأخذني وأتى لي ببعض الخبز وذهب لإحضار الزيتون، وحين جاء بالزيتون لم يجد الخبز .. كنت قد أكلته من شدة الجوع وأعطاني بعض الملابس، ثم نظرت حولي ووجدت أن المنطقة مألوفة بالنسبة لي، وكان قد أصابني جرح عميق في ساقي خلال رحلة المسير فخفت أن يزداد جرحي سوءاً، فقفزت من الغرفة التي كنت أبدل فيها ملابسي وأخذت أركض حتى وصلت على الدير وهي قريبة جداً من بلدنا..
مشيت حتى وصلت إلى البلد، وبما أن منزل عمي قريب فقد دخلت عليهم وإذا بهم يأكلون فجلست معهم مباشرة دون أن أنطق بكلمة واحدة، وسرعان ما تعرفوا علي وذهب أمجد ابن عمي لتبشبر والدتي بأني قد عدت، فأتت الوالدة وأخذتني إلى منزلنا الذي لم يكن كما عهدته فقد تغير ت بعض معالم البلدة.. بعدها بحوالي يومين وصل ابناء بلدتنا الذين تركوني قرب سحماتا وأخبروا والدي أن أحد ابنائه كان معهم ولم يستطع أن يكمل الطريق و"رحمه الله إنه قرب سحماتا لو أردت أن تذهب إليه".. ظن أهلي أن الناس يتحدثون عن أخي حسن حيث أني أخبرتهم أنه سيلحق بي، وأنا كنت في الداخل أستمع للحديث وبدأت أمي بالبكاء فقمت وقلت لها: " لأ يمّا هادا أنا مش حسن، أنا اللي تركوني هناك"، وقد دهشوا لما رأوني على قيد الحياة فقد شكوا بأني سأتمكن من الوصول إلى البلد).
بعدها قال بغصة في قلبه أن هذه القصة كانت من أغرب القصص التي لم يعشها وحده بل عاشها الشعب الفسطيني كله.. وقد عاش الحاج نايف في مجد الكروم من ذلك الوقت حتى عام 1970، وحين سألته عن سبب مغادرته للبلد عام 1970 قال أن هذه القصة أغرب من الأولى ولن يرويها إلا حين نزوره مرة أخرى..
وعن باقي أفراد الأسرة يذكر الحاج نايف ان له ثلاثة وثلاث أخوات لا يزالون في فلسطين في مجد الكروم وأنه على اتصال بهم حتى اليوم.. واختتمنا اللقاء ببناء شجرة العائلة
وهنا انتهت زيارتنا التي كانت الأكثر إمتاعاً وتشويقاً لما سمعناه منه، ونحن على يقين أن كثيرين ممن شهدوا النكبة قد عاشوا تجاربة مماثلة ولذلك سنكمل المشوار ونتابع الزيارات لعائلات مجد الكروم، ثم باقي قرى وبلدات فلسطين.