رحل أبو خلدون أيوب.. وصورة سحماتا لا تفارق مخيلته
مجلة العودة - العدد السادس و الأربعون - السنة الرابعة تموز (يوليو) 2011 م – شعبان 1432 هـ
في شهر سبتمبر الماضي أجرت مجلة «العودة» مقابلة مع الأستاذ أحمد أيوب أيوب «أبو خلدون» ابن قرية سحماتا، بعد أن أنجز رسم خريطة بلدته تبيّن معالم القرية وبيوتها بيتاً بيتاً مع ذكر أسماء أصحابها. وكانت خلاصة المقابلة أنه قام بهذا العمل بهدف «إحياء سحماتا في ذاكرات أبنائها ممن ولدوا وعاشوا فيها، وترسيخ مفهوم حق العودة في نفوس الأجيال التي حرمت إياها».
في السادس عشر من حزيران 2011 انتقل أبو خلدون إلى رحمة الله عن عمر يناهز 69 عاماً، قضى خمس سنوات منها في العمل على الخريطة، مستعيناً ببعض ذاكرته وكثير من ذاكرات أبناء بلدته الذين جال عليهم في مختلف المخيمات والمناطق اللبنانية، مستفيداً من التقنيات الحديثة للتواصل الإلكتروني مع بعض من بقي من أهل البلد داخل فلسطين، ليتم عملاً ظن كثيرون أن إنجازه قد يكون بعيد المنال على رجل شارف على العقد الثامن من العمر.
من هنا نعبر للحديث عن واحدة من أهم ميزات المرحوم أبو خلدون، فقد كان يخطط لأعمال ويشرع بتنفيذها رغم شعوره بأن الصحة والعمر قد لا يسمحان له بإتمام الإنجاز، لأنه لم يكن يعمل لنفسه، بل لأجيال من بعده. دخل المستشفى أكثر من مرة بحالات طارئة، وكنا نفاجأ بعد كل أزمة صحية بأنه يأتي بأفكار ومشاريع جديدة، كلها في إطار العمل لفلسطين وبلدته سحماتا، وكأنه كان يستثمر رقاده في السرير والمستشفى لإنضاج أفكاره.
في الأشهر الأخيرة تواصل أبو خلدون معنا أكثر من مرة، وللأمانة فقد كان في معظم اللقاءات يعبر عن تقديره لمجلة «العودة» التي أفسحت المجال أمام إنجاز يفتخر به (خريطة سحماتا) كي تصل إلى جمهور واسع من الباحثين والمثقفين. وقد أشار أكثر من مرة إلى أن المجلة قد فتحت باباً للتواصل بينه وبين الدكتور سلمان أبو سته الذي أبدى اهتماماً خاصاً بهذه العمل. وكنا بدورنا حرصاء على التواصل مع أبو خلدون وكل الجادين بمثل هذه الأعمال، حتى لا تبقى نتاجاتهم حبيسة المكتبات أو الأدراج، ولكي تصل إلى أوسع شريحة من أبناء شعبنا.
في واحد من اللقاءات ذكر أبو خلدون أنه قد قطع شوطاً بكتابة مذكراته، وأنه اقتطع جزءاً منها ونشرها في مقالة مستقلة تحت عنوان: «شيخ القرية.. وأبجد هوز» يتحدث فيها بوصف تفصيلي عن تعليم القرآن الكريم في سحماتا وطريقة الاحتفال بختمه، ويشير فيها أيضاً إلى وحدة الحال بين المسلمين والمسيحيين في البلدة، لدرجة أن بعض المسيحيين كانوا يرسلون أبناءهم لتعلم القرآن مع أبناء المسلمين، ويذكر عدداً من أسماء الأصدقاء المسيحيين الذين ختموا القرآن في سحماتا.
توسع أبو خلدون رحمه الله في هذه النقطة أثناء حديثه معنا، وروى لنا قصة سمعها من الكبار في البلدة، عندما أراد المسيحيون تعميد أحد أطفالهم فذهب المختار (مسيحي) إلى المطران في عكا يطلب منه الحضور لإقامة القداس في التعميد، ولكي يشجع المطران على الحضور أخبره أن المسيحيين في البلدة عبارة عن 10 أو 15 عائلة وحضوره بينهم سيرفع معنوياتهم، وبالفعل استجاب المطران وحضر إلى الكنيسة في سحماتا فوجد أن الكنيسة قد امتلأت عن بكرة أبيها، فسأل المطران متعجباً من هذا الحضور وقد أخبروه أن المسيحيين لا يتجاوزون 15 عائلة، فأجابوه بأن هؤلاء إخواننا المسلمون في البلد يشاركوننا أفراحنا وأتراحنا.
كان يركز كثيراً على هذه العلاقة الإنسانية بين مكونات سحماتا المختلفة، وقد أدهشني في إحدى الزيارات عندما أخبرته أننا نعمل على جمع شجرة عائلة سمعان/ سحماتا وعن صعوبة المهمة لأن العائلة بقيت في فلسطين، فغاب لدقيقتين في غرفته وعاد وبين يديه ورقتان قد كتب فيهما بخط يده أسماء مجموعة كبيرة من أبناء سحماتا المسيحيين وقد دون تاريخ الولادة وأحياناً الوفاة لمعظمهم، إذ كان قد التقى السيدة رتيبة سمعان يوماً وأصر على تدوين كل ما تعرفه عن أبناء عائلتها.
في سنواته الأخيرة، كنت تجده دائماً منهمكاً بالعمل والكتابة لحفظ تراث بلدته، ولم يكن يتوقف كثيراً عند الملاحظات المثبطة، في المقابل، كان يعتز بكل جهد وكلمة تقدر هذا النوع من العمل، وفي أكثر من فرصة كان يقرأ علينا بعضاً من الرسائل التي ترده من المغتربين والمقيمين في لبنان. ولا يمكنني أن أصف فرحته بتسلمه هدية من أحد ابناء سحماتا المقيمين في الأردن، هي عبارة عن خريطة سحماتا (التي أنجزها) مطبوعة على ست قطع من بلاط السيراميك، وقد دعانا إلى زيارته كي نلقي نظرة عليها، ولكن الله سبحانه قد توفاه قبل أن نجتمع به مجدداً.
نتوقف في هذا العدد عند هذه التفاصيل من باب الوفاء لهذا الرجل الذي أعطى لفلسطين وسحماتا من جهده ووقته وماله ما يضن به كثير من الشباب فضلاً عن الشيوخ. نعزي أنفسنا وأهله وابناء بلدته وشعبه عموماً بوفاته، فقد غاب عنا وانتقل إلى لقاء ربه وصدى كلماته يتردد في أذهاننا: (صورة سحماتا لا تفارق مخيلتي). ونحن نقول: سنعمل على خطى أبو خلدون، وستبقى كل فلسطين حاضرة في مخيلتنا نحن والجيل الذي كان أبو خلدون يعمل لأجله.
ياسر قدورة/ بيروت