«الشرق الاوسط» جالت في مخيمات الجنوب اللبناني والتقت بعضاً ممن عايشوا مثل هذا اليوم من العام 1948 واستمعت اليهم يوصون ابناءهم بـ«التمسك بحقهم في العودة الى الديار».
وفي الواقع، انه اينما جال المرء في مخيمات الجنوب وبقية المخيمات الفلسطينية في لبنان تطالعه صورة المعاناة والبؤس والحرمان. كبار السن من ابناء هذه المخيمات تختزن ذاكرتهم قصصاً عن قراهم وفلسطينهم يقصونها على احفادهم، فيما ايديهم لا تزال تقبض على ما خف حمله في ليلة نفيهم، مفاتيح للبيوت، سندات ملكية أراضيهم ومنازلهم. وبعضهم يحتفظ ببندقية قاتل بها خلال المعارك في فلسطين.
وها هو ابو أحمد القبلاوي الذي تجاوز الـ 85 عاماً، قسمات وجهه تختصر معاناته. وهو كتب وصيته ويطلب فيها ان تنقل رفاته بعد موته الى حيفا مسقط رأسه، ففيها عاش طفولته الاولى وترعرع شاباً يافعاً يحلم بمستقبل قبل ان يغتال الاسرائيليون احلامه عام 48.
يقول القبلاوي: «قاتلنا قتال الابطال في معركة استمرت اياماً بالقرب من حيفا. وكدنا ننتصر على الاسرائيليين. لكن قيل لنا اتركوا مواقعكم، فغادرنا وحصل ما حصل. وبدأت رحلة العذاب والمعاناة. غادرت مع زوجتي وطفلينا فنزلنا باتجاه الجنوب. واستقبلنا الجنوبيون بحفاوة. وكنا نعتقد ان تهجيرنا الى لبنان موقت وان الامر مجرد فترة انتظار قصيرة نعود بعدها الى بلادنا. واذ بفترة الاسبوع التي حددها جيش الانقاذ العربي لعودتنا تطول وتطول وتمتد سنوات».
يحتفظ القبلاوي، اضافة الى ذكريات الشباب والهوى في فلسطين، ببندقية حملها معه وبهوية صادرة عن الانتداب البريطاني وعلاّقة مفاتيح خاصة بمنزله وساعة نسائية كان قدمها الى زوجته هدية زواج، وتوقفت عقاربها عند الزمن الذي غادروا فيه حيفا... كأنها تدل على توقف الوقت عند اللحظة التي شردوا فيها.
اما عبد الحميد قاسم من بلدة طيطبا (قضاء صفد) فيقول ان صورة منزله لا تغيب عن باله وذكرياته يحفظها جيداً. وكثيراً ما ينقل هذه الصورة الى احفاده «لكي تترسخ في وجدانهم ويحفظوا الامانة، امانة ان فلسطين كانت وستبقى للفلسطينيين مهما حاول المحتلون تغيير الجغرافيا والتاريخ». ويرى ان اوجه الشبه بين نكبة 48 وما يحصل اليوم في فلسطين من مجازر وتدمير «كبيرة جداً. لكن الفرق يبقى في ان الفلسطينيين استفادوا من نكبتهم الاولى، لذلك هم اكثر اصراراً على البقاء في ارضهم حتى الموت لكي لا تتكرر مأساتهم في النزوح ويبقون خارج بلادهم، فالموت في ارض فلسطين افضل من الحياة التي يعيشها اللاجئون في المخيمات». وهو نادم لأنه ترك منزله وصدّق الزعماء العرب آنذاك عندما تعهدوا للاجئين الفلسطينيين بأن فترة بقائهم خارج وطنهم لن تطول.
قاسم قال انه يبكي الآن للمرة الثالثة في حياته لما يشاهده من مجازر ترتكب بحق الشعب الفلسطيني. وكان قد بكى في المرة الاولى قبل 54 عاماً عندما نزح من ارضه وفي الثانية عندما توفي شقيقه ابو عدنان قبل سنة، وهو احد اعيان مخيم عين الحلوة، ولم يتمكنوا من دفنه في بلده الاصلي تنفيذاً لوصيته، على رغم المحاولات التي بذلوها والوساطات التي قاموا بها لدى اكثر من جهة لنقل الجثمان الى طيطبا.
اما الحاجة فاطمة الشايب فتقارن بين مأساة العام 48 واليوم. وترى ان الامر لم يختلف وان العرب ما زالوا عاجزين عن توفير الدعم لمعركة الفلسطينيين. بل تتهم بعضهم بانهم «يقفون متفرجين على المجازر الاسرائيلية». ذكريات وحكايات تطول، وتطول معها مأساة الشعب الفلسطيني. وعلى الرغم من فداحة المصائب والعذابات فإن ايمان فلسطينيي الشتات بعدالة قضيتهم وبحقهم في العودة الى ديارهم التي هجّروا منها لا يتزعزع. وتعجز السنوات الطوال عن محو ذاكرة الفلسطينيين واضعاف حلمهم وآمالهم في العودة. لذلك فإن معظم ابناء المخيمات يعيشون الخوف الدائم والحذر حيال ما يدور همساً احياناً وعلناً احياناً اخرى من ان حلّ قضية فلسطين سيكون على حساب حقهم في العودة. ولذلك ينتظمون الآن في حملات اطلق عليها اسم «حق العودة حق مقدس» و«لن نقبل بديلاً من فلسطين».