خرج من بلدته (عين الزيتون) قضاء صفد تحت حراسة أفواج من العصابات اليهود، احتجزت كلّ من بقيَ داخل القرية الفلسطينية بعد اجتياحها و الاستيلاء عليها من قبل تلك العصابات المسلحة، من ثم اقتادتهم إلى خارج القرية حتى وصلت بهم وادي الطواحين في الوعر، و بدأت بإطلاق الرصاص .
اللحظات الأخيرة في عين الزيتون :
عن تفاصيل الاجتياح و ما لقيه أهالي قرية عين الزيتون الذين لم يغادروا القرية و بقوا فيها إلى أن دخلتها القوات اليهودية و احتجزتهم .. و عن رحلة اللجوء الصعبة التي عاشوها .. حدّثنا الحاج نور الدين قاسم خطاب - مواليد 1929م من عين الزيتون – عن ما يلي :
في الواقع يا عمّي لقد ذقنا المر في ثورة 1936م و في حرب 48م ذقنا الأمرّين، نعم الأمرين .. كان القائد أديب الشيشكلي قد أعطى أمراً لكامل المنطقة يطلب فيه من جميع الفلسطينيين البقاء في قراهم و مدنهم حتى لو احتلت، و أن يدخلوا البيوت ذات القبو لما يبدأ الهجوم على القرية .. و قد أوصل الأمر إلينا قائد منطقتنا (إحسان ألماز) من حماة بسورية .
لذا لما بدأ الهجوم على قريتنا و كان ذلك قبل أذان الفجر بحوالي الساعة، سارعنا جميعنا إلى الاختباء في القبب .. كانت قريتنا على سفح جبل في منحدر، لذا هاجمها اليهود من أعلى الجبل مستخدمين المدافع و الرشاشات و القنابل .. في حين لم يكن لدى حراسنا من أبناء القرية ما يدافعون به عن القرية سوى البنادق القديمة، لذا لم يستطع أبناء القرية الصمود كثيراً في وجه القوات اليهودية الغازية، و اضطروا إلى الانسحاب ..
و بعد اجتياح اليهود لقريتنا سمعناهم ينادون (قديما .. قديما..) أي تعالوا تعالوا، فخرج من كلّ منزل واحد منا و رفع "حطته" البيضاء معلناً استسلامنا، و كنت من بين الذين أمسك بهم اليهود في القرية، و لما خرجنا جمعونا في ساحة العين، حيث كان في بلدنا عين ماء تقابلها ساحة كبيرة، و يشرف على الساحة جامع القرية. جمعوا الرجال في الساحة، بينما وضعوا النساء و الأطفال الصغار في جامع القرية، و كان جيش اليهود يطوّق الساحة و الجامع .
و بينما نحن في الساحة مجتمعين ننتظر ما سيحلّ بنا، بدأنا نتهامس بين بعضنا البعض و قلنا أنهم سيقتلوننا لا محالة، لأن أبناء قريتنا في ثورة 1936 كبّدوا العصابات اليهودية خسائر كبيرة، لذا ظننا أنهم سينتقمون منا الآن. بقينا في الساحة حتى الساعة العاشرة صباحاً، عندما وصلت سيارة جيب إلينا قادمة من صفد، و نزل منها ضابط يهودي يضع كرباجاً (سوطاً) في حذائه، فاستقبله أحد الضباط الموجودين في القرية، و أدّى له التحية، ثم تحدّثا إلى بعضهما و قدِما باتجاهنا، فتناول الضابط القادم سوطه من حذائه و طلب أن نصطف كما صفوف الصلاة، ثم فتّشونا، وضعوا غطاءاً على أمامنا، و أخذوا كلّ ما نملك و ألقوه على الغطاء، لم يتركوا مع أيّ واحد منا أي شيء لا نقود و لا حتى خاتم، حتى النظارات الطبية أخذوها من على عيني الواحد منا، و لم يتركوا معنا حتى ثمن رغيف خبز ..
بعد أن انتهوا من تفتيشنا صار الضابط يتجوّل بيننا بين الصفوف و يتفحّصنا واحداً تلو الآخر، و كان كلّ شاب أو رجل يضربه الضابط بسوطه على كتفه يأخذه الجنود و يضعوه في سيارة شحن لها غطاء "شادر" يغطي صندوقها الخلفي، و استمر كذلك إلى أن انتقى 37 شاباً من خيرة شباب القرية، و انطلقت بهم السيارة بعيداً .. و بقينا نحن في الساحة، فصفّونا مثل طابور الجيش، و أحاطوا بنا من ثلاث جهات، إذ تركوا الجهة الأمامية مفتوحة كي نخرج من القرية .
أما النساء و الأطفال فأخرجوهم أيضاً من الجامع، و فتّشوهم و أخذوا كلّ ما يملكون من مصاغٍ و نقود، حتى الأطفال فتّشوهم بدقة خوفاً من أن تكون أمهاتهم قد خبأت معهم أي قطعة من النقود، و أيضاً أحاطوا بهم من ثلاث جهات و مشوا بهم أمامنا ..
و هكذا خرجنا لا نملك أي شيء على الإطلاق، و ظلّوا يتقدّمون بنا إلى أن وصلنا الوعر الذي يصل إلى القرى المجاورة لنا، فأطلقونا، ثم بدأوا يطلقون الرصاص في الهواء باتجاهنا، ليمنعونا من العودة إلى القرية ..
رحلة اللجوء :
بدأت الرحلة من اللحظة التي غادرنا فيها عين الزيتون، لم نكن نملك أي شيء و لا حتى لقمة خبز، و بعد مسير ليس بالقصير وصلنا وادي الطواحين القريب من بلدة مالون التي تقابل قريتنا، فوجدنا مسلّحي بلدتنا في انتظارنا، يترقّبون وصول أبنائهم و ذويهم، تعانقنا و اجتمع "التمّ" كلّ واحد على عائلته و بدأت معاناتنا الجماعية في الهجرة القسرية عن الوطن، مررنا بعدة قرى منها الصفصاف و كفر برعم، ثم ذهبنا إلى بلدة يارون الواقعة على حدود فلسطين تماماً، و هناك مكثنا ليلتين تحت أشجار الزيتون، و الحمد لله أهالي القرية أطعمونا وسقونا، بعدها اتجهنا إلى بنت جبيل في لبنان و هناك حملونا بالسيارات إلى بيروت و في بيروت وضعونا في الكرنتينا و منها حملونا بالقطار إلى سورية، و وزّعونا على القرى و المدن السورية .
دور الشعب السوري :
و الله يا عمي لقد وقف الشعب السوري إلى جانبنا و ساعدونا مساعدة لم يلقَها أيّ لاجئ فلسطيني في أي بلد عربي أو أجنبي غير سورية، كان السوريون يطوفون بالمحال و السمانة يجمعون لنا الزيت و الزيتون و الجبنة و الحلاوة و الخبز و يحضروه لنا، و الله إني أقول ذلك ليس مراءاة لأحد، لأنني بعد 76 عاماً من العمر لا أرائي غير الله ..
و في عهد الشيشكلي، وضع في صلب الدستور السوري «يساوى الفلسطيني و السوري في كافة الحقوق مع احتفاظه بجنسيته العربية الفلسطينية» فصار يحقّ لنا التوظيف و أن نصل إلى أعلى المراتب .. لقد عاملونا معاملة صادقة و نحن أيضاً عاملناهم بصدق أيضاً. و أنا شخصياً وُظّفت لمدة 34 عاماً و كنت على مستوى مهندس رغم أني لست بمهندس.. و الله لقد أكرمنا الشعب السوريّ و الحكومة السورية.
الخيانة العربية و اللجوء الفلسطيني :
كان جيش الإنقاذ العربي جيّداً كأفراد و مجنّدين، فقد ضحّوا كثيراً و قاتلوا ببسالة، و لكن الأوامر لم تكن مخلصة، كأوامر الملك عبد الله و ساري و غيره .. لم يكن يعلم تلك الأوامر غير الله، و لو كانت الأوامر بتقوى الله لما حدث لنا ما حدث، لأن اليهود ليس لديهم مقاومة و لا يقدرون على القتال، و الله لقد كانوا إذا رأوا أيّ شخصٍ مسلم فلسطينياً كان أم عربياً يحمل سكيناً ، كانوا يسرعون في الهرب و لو كانوا كثرة ، و الله لو كان حكام العرب مخلصين لله لما وصلنا لهذه الدرجة .. (يبكي الحاج نور الدين و يغصّ عن الحديث .(
ثم يتابع بعد دقائق
لقد أخرجونا حفاة عراة لأجل الحفاظ على مراكزهم و مناصبهم ، إني أقول هذا الكلام و لا أخشى أي أحدٍ غير الله ، لقد ذقنا المرار، و جيلي أنا خاصة ذاق المرار و العذاب .. لما خرجنا من فلسطين عملت كثيراً بأجرة نصف ليرة في اليوم لأعيل والدي و والدتي، و لكني رغم كلّ عملي و تعبي لم أكن أستطيع تأمين الخبز لأطعمهم .. و لكنا نشكو أمرنا إلى الله . فلو كان حكّام العرب في ذلك الزمان أصحاب تقوى لما استطاع اليهود إخراجنا من فلسطين نهائياً .
جميع حكام العرب اضطهدونا باستثناء سورية، فاليوم يموت أخي أو والدي في الأردن و لا أستطيع رؤيته أو حتى المسير في جنازته لأني فلسطيني، بينما يسمح لليهودي الدخول إلى الأردن بهويته فقط، أما أنا فأحتاج إلى موافقة الملك شخصياً .
قصتنا مرة يا عمّي، و قلت و أكرّر لقد ذقنا الأمرّين، و لولا أصحاب الدين و الخلق و الشرف لكنّا ما نزال نذوق مرارة تلك الأيام بنفس الدرجة .
المصدر: منتديات القضية الفلسطينية