آلاء قدورة – صيدا
في جولة لي مع زميلتي دينا آغا قصدنا بيت الأستاذ مأمون صالح وقد كان من سكان بلدة الرأس الأحمر قبل نكبة العام 1948، وكان لقاؤنا معه وحديثه عن الرأس الأحمر ممتعاً وشيقاً.
بدأ حديثنا عن القرى المجاورة لبلدة الرأس الأحمر فكانت فارة وصلحة من الشمال، علما وديشوم من الشرق ،الجش والصفصاف من الغرب، والجنوب طيطبا وصفد ودلّاتا وهي ثالث بلدة بعداً عن لبنان، وعين الزيتون وتقع على تلة جبل عالية ، وكانت تقسم إلى حارتين، الحارة الفوقا والحرة التحتا.
وكان الحد الفاصل بين الرأس الأحمر والجش نهر، اعتبر ساقية لأهالي البلدة، وفي البلدة ينابيع وواد كبير، وفاكهتها لا تضاهي أية فاكهة لحلاوتها وكبر حجمها ونضوجها، حيث عرفت بالبندورة والتفاح والإجاص والجوز.
وكان منزل عائلة الأستاذ مأمون يقع على أطراف البلد من الناحية الجنوبية، وبقربها ساحة عرفت بالمراح واسعة جدا حيث كان الرعيان يحضرون "طرشهم" وأغنامهم وأبقارهم.
في البلدة معصرة و"بابور طحين" وكان أصحاب المعصرة "دار أبو فخري أيوب" وكذلك بابور الطحين.
إضافة إلى طريق شبه معبدة بين الرأس الأحمر وصفد وطيطبا وعين الزيتون، فرع آخر من فروعها يمتد نحو حيفا والتي كانت تسلك لنقل الخضار والفاكهة لبيعها في خارج البلدة حيث كانت الدواب الوسيلة الوحيدة للنقل.
وكان عمل معظم شباب وأرباب العائلات "الفلاحة" حيث يؤمنون اكتفائهم الذاتي ، والباقي يباع في صفد وحيفا اعتماداً على المواصلات وطبيعة الطرق.
وكان من جيرانهم آل رشيد وياسين وآل علي. ولآل الخطيب ديوان خاص بهم في البلدة وكذلك آل أيوب، حيث اعتبرت العائلتان من العائلات الرئيسية في بلدة رأس الأحمر، وكذلك إلى كون مخاتير البلدة من آل أيوب وكان "فخري أيوب" و"أبو رؤوف" .
أما المدرسة فكانت حتى الصف الرابع فقط، وكانت تقع على رأس جبل قريبة إلى دلاتا وطيطبا أي بعيدة عن البلدة كثيرا، حيث كان الطالب بعد انتهاء الدراسة للصف الرابع ينتقل إلى الجش أو صفد أو أي بلدة أخرى ليكمل دراسته، حيث كانت لا تقبل من كان عمره أقل من سبع سنوات، إلا أن الاستاذ مأمون حضر بعض الحصص على أنه مستمع فقط لا طالب لصغره في ذلك الحين، وقد كانت المدرسة مختلطة أيضا، وقد ذكر لنا بعض أسماء الأساتذة آنذاك منهم " زهير أيوب" و "رؤوف أيوب"، والمدرسة فيها أربع صفوف وأستاذ واحد هو "أبو وليد" من صفد ، وكانت تستوعب حوالي 15 تلميذاً.
وبدون شك هناك مسجد في البلدة، عرف بـمسجد "محمد علي"، ويقع في المنطقة العليا الشمالية الشرقية ، ولكن كانت البلدة تفتقر إلى عيادة صحية فمن كان مريضا من سكان البلدة يتوجه إلى صفد لتلقي العلاج المطلوب.
وبالنسبة للمياه ،كما ذكر سابقا، فقد كانت البلدة مليئة بالينابيع الرائعة، ومنها كانت تعبأ الجرار، وإلى جانب منها "ران" تستعمل لتطهير الماشية، ومناطق مصبوبة باطون ومجهزة فيها الكفاية من الماء لكي تغسل النساء الثياب.
وكان صاحب دكانة السمانة "أحمد الحاج" حيث كان يباع بها الطحينة والبزر والمقرمشات للصغار فقط، فكان من العيب أن يباع اللبن والجبنة فكلها مأكولات بيتية، وكذلك الخضار والفواكه، والذي حرم البلدة من وجود سوق فيها، فكان سوقهم سوق "بنت جبيل" والذي عرف بـ "سوق الخميس" ، وكان سكان البلدة يتجهون من الرأس الأحمر إلى فارة وصلحة، ثم الخط الشمالي الذي كان يفصل فلسطين عن لبنان، ثم إلى يارون وصولا إلى بنت جبيل، وذلك بهدف الشراء والبيع ما زاد من الحصاد من حبوب وفواكه وخضار .
وكان لحّام البلدة "خليل سعيد الخطيب" ، وحلاقها صلاح الخطيب والحكواتي أيضا، ونجارها "حسن أيوب" والداية "آمنة" ومن جاهة البلدة محيي الدين الخطيب ونايف الخطيب وأحمد الخطيب، إضافة إلى كونهم حلالين المشاكل في البلدة.
وكان استقبالهم لرمضان حافلاً فذلك بتجهيز كل أنواع المربى و الأجبان والألبان إضافة إلى الجوز والتين بأشكاله لكون البلدة مميزة بتينها وجوزها والتي كانت تعتبر من الحلوى في البلدة، والتي كانت تحفظ في "السدة".
وعند حديثنا عن الأعراس والأفراح ذكر الاستاذ مأمون أنها كانت تقام في ساحة كبيرة، وقد تعددت الساحات التي كانت تقام فيها الأفراح، منها ما عرف بـ "المراح" والتي كانت تستوعب حوالي 10 آلاف شخص، وهناك ساحة بالقرب من ديوان آل أيوب، فأعراس آل الخطيب كانت تقام بالمراح، وأعراس آل أيوب في الساحة التي كانت تقرب من ديوانهم، وكان أهالي البلدة كلها يحضرون الأعراس حتى أن جاهة القرى المجاورة تعزم إلى الحفل وتحضرها وكان من يعزف في الأعراس ويغني شخص عرف بالـ "حطيني" وذلك لكونه من حطين.
وكان سكان بلدة الرأس الأحمر يعتمدون في كل ما قد يحتاجه المرء للمعيشة على صفد.
والمقبرة كانت تحت "اللوزة" والتي بين الرأس الأحمر وعلما، ومغسل الميت لم يكن في البيت بل في "حفور" أي بركة صغيرة تستخدم للغسل وهي بعيدة عن ماء البلدة والتي كانت قريبة إلى المقبرة.
وكثير من أبناء عائلة الخطيب كانوا قد التحقوا بالجيش التركي ومنهم جد الاستاذ مأمون "وحيد الخطيب" والذي ذهب إلى اليمن ولم يعد حتى يومنا هذا والحاج" قاسم ياسين" كان أيضا ممن ذهب إلى اليمن ولكنه عاد إلى الرأس الأحمر. ومنهم من التحق بالجيش الانجليزي مثل حسن سليم ،أحمد الخطيب، ومحمد نايف الخليل وكثيرون غيرهم.
الرحيل عن الرأس الأحمر
في سنة 1948 جاء ما سمي جيش الانقاذ، وكان مسؤول الجيش مقره في الرأس الأحمر، وكان يقوم بتكليف رجال البلدة بحفر خنادق للحماية من القنابل وماشابه ذلك، فبدأ الناس يسمعون بأن اليهود ارتكبوا مذبحة في الصفصاف ودير ياسين، حيث أنهم لم يقربوا الرأس الأحمر وتوجهوا نحو صلحة، وبمجرد سماع هذه الأخبار بدأ سكان أهل القرية ينزحون من الرأس الأحمر وبقي من آل الخطيب والد الاستاذ مأمون وستة آخرون، حيث توجه هو وإخوانه وأمه نحو بنت جبيل ومكثوا فيها سبع سنوات، إذ كان لهم بعض الأصحاب هناك فمكثوا عندهم، ثم لحق بهم الأب والجد وبحوزتهم تموين يكفي لعيش كريم وذلك على دفعات، حاملين معهم أيضا مفاتيحهم وأوراق الملكية ومستنداتهم.
وذكر الأستاذ مأمون أنه في مدرسة الأميركان في سنة 1982 قس عرف بالقس حنا خوري وكان يعظ في كنيسة المدرسة والكنائس المجاورة وألّف كتاباً عرف بـ" الأخبار الشهية في تاريخ العائلات المرجعيونية " ، وكان القس أثناء مواعظه يذكر بعض الآيات القرآنية وكان يوكل الاستاذ بالبحث عنها ومعرفة اسم السورة ورقم الآية وذلك كل يوم أحد، ومكافأة له أهداه نسخة من كتابه والذي كان يتناول الحديث عن كل العائلات الفلسطينية.
وأثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان سكن اليهود بيت الاستاذ مأمون مدة خمسة عشر يوما وذلك حتى نفدت المؤن والمواد الغذائية. وكان في البيت غرفة خاصة للاستاذ فيها مكتبة، وقد الأستاذ مأمون أنهم لم يمسوا أي كتاب في تلك المكتبة إلا ذلك الذي أهداه إياه القس حنا خوري وسرقوا ما خف وزنه وثقل معياره، والذهب والبنادق وحرقوا كل ما له علاقة بالأرض والجذور العائلية.
وإن كان جنود الاحتلال قد ظنوا أن بإحراقهم للكتب أو الوثائق التي تدل على انتماء الخطيب لفلسطين والرأس الأحمر، فقد كانوا مخطئين بلا شك.. فقد مرت السنوات ومضى على خروج الأستاذ مأمون وأهله من الرأس الحمر أكثر من 63 عاماً ولا يزال يتحدث عن بلدته كأنما أخرج منها بالأمس..