ياسر قدورة - هوية
صحبتهما بدأت في نهاية ثلاثينيات القرن الماضي، استمرت سنوات متنقلة من منطقة إلى أخرى في فلسطين بين عكا، البصة، سحماتا والناقورة. بدأت كزمالة عمل في البوليس الإضافي واستمرت كأخوة بين شخصين متاحبين، إلا أن لحظة الفراق فرضت نفسها عليهما قبل أكثر من 65 عاماً، فأخرج محمد صورة شمسية له وهو باللباس الرسمي وأهداها لصديقه محمود، وكتب على ظهرها:
هدية من صديق لصديق، أهدي هذه الصورة للأخ محمود أيوب تذكار لأجل المودة الخالصة /
محمد جندل
3/4/1947 - البصة
عندما قمت بزيارة حسن محمود أيوب ( أبو محمود) في منزله الكائن في مدينة صيدا/ لبنان بتاريخ 29/10/2011 ، لم يبخل علينا بأي معلومة يعرفها عن عائلة أيوب – سحماتا وذلك لحماسته للفكرة التي قام عليها مشروع (هوية)، وفتح لنا أرشيفه الذي يجمع فيه صوراً ووثائق قديمة لعائلته ولوالده محمود الذي وافته المنية قبل سنوات.
كان أبو محمود لا يزال يحتفظ بصورةٍ لوالده محمود وهو بلباس البوليس الإضافي ومعها بطاقتة العسكرية وكذلك شهادة نهاية خدمته من البوليس، ويحافظ أبو محمود على هذه الوثائق كمن يحافظ على ثروة لإدراكه قيمة التاريخ الذي تحمله. وأثناء حديثه أخرج لنا أبو محمود صورة أخرى لصديق والده، محمد جندل، وقد كتب عليها العبارة التي أشرنا إليها في البداية.
صورة محمود حسن أيوب
روى لنا أبو محمود حكاية الصورة وكيف حصل عليها والده من صديقه محمد جندل في قرية البصة، وذلك في العام 1947، وأنه لم يسمع شيئاً عن محمد جندل منذ ذلك الوقت. وقد توفي والده واحتفظوا بالصورة لأنها ذكرى منه، وتمنى أبو محمود لو يرى هذا الشخص ليعطيه الصورة ويذكّره بالأيام الماضية فهو متأكد أن أولاده سيفرحون كثيراً بهذه الصورة حين يرونها، وتمنى لو كان هذا الإنسان لا يزال على قيد الحياه، فالالتقاء به سيكون وفاء وبراً بوالده. لم نفوّت الفرصة فسجلنا هذه الكلمات لأبو محمود، وأخذنا نسخة عن صورة الصديقين: محمد جندل من البصّة ومحمود أيوب من سحماتا.
حسن محمود أيوب (أبو محمود) حاملاً الصورتين
سافر أبو محمود أيوب مغادراً لبنان والتزمنا نحن مهمة البحث عن الصديق محمد جندل إن كان على قيد الحياة، أو أحد من ذريته كي نوصل لهم الأمانة. لم يكن اكتشاف أن عائلة جندل في البصة هي نفسها عائلة بريش أمراً صعباً، بل عرفنا هذه المعلومة سريعاً وعن طريق الصدفة. وبعد بحث وسؤال متواصل، عرفنا بوجود شخص يحمل اسم " محمد جندل" ويعيش في منطقة وادي الزينة / لبنان فتوجهنا إليه يوم الجمعة بتاريخ 6/1/2012 لنتأكد إن كان هو الشخص المقصود.
دخلنا عليه وقد أتعبه المرض وتجاوز الـ 85 من العمر ومع ذلك فقد رحب بنا وسقانا من قهوته قبل أن يعرف مرادنا. عرفته بنفسي وبمشروع (هوية) بشكل مختصر، وعندما عرف أنني من قرية سحماتا بادرني بالقول: " كان لي صديق من سحماتا اسمه محمود أيوب وكان بمثابة الأخ".
انتابني فوراً شعور بالفرح والإنجاز عندما سمعت هذه الكلمات وتأكدت أنني وصلت إلى الرجل المطلوب، فطلبت منه ان أعود لزيارته في اليوم التالي لإجراء مقابلة معه عن بلدة البصة وعائلة جندل/ بريش فلم يمانع وقال: "البيت بيتكم".
على الموعد حضرنا في اليوم التالي، ودخلنا عليه وكان التعب بادياً على وجهه وجسده إذ كان وجعه قد اشتد عليه منذ الأمس. وعندما سألته إذا كان بالإمكان أن أجري معه المقابلة لم يمانع أن يجيب على أسئلتنا ولكنه أبدى تحفظه على مسألة التصوير.. ربما لم يكن مرتاحاً ومطمئناً للسرعة التي جرى فيها ترتيب اللقاء، فقررت أن أدخل بالموضوع مباشرة.
أخرجت له صورة محمود أيوب مرتدياً ثياب البوليس ومعتمراً " الكلبك" أو القبعة العسكرية، وسألته: هل تعرف صاحب الصورة؟ أجاب بسرعة: هذا صديقي محمود أيوب، مستغرباً وجود الصورة معي.. ثم أخرجت الصورة الثانية وسألته: هل تعرف صاحب الصورة؟ تأملها قليلاً، ثم أبدى حيرة وقال لا أعرف.. ربما لم يصدق أنها صورته، فطلبت منه أن ينظر إلى الصفحة الخلفية ويقرأ ما كتب عليها:
هدية من صديق لصديق، أهدي هذه الصورة للأخ محمود أيوب تذكار لأجل المودة الخالصة / محمد جندل 3/4/1947 - البصة
راح ينظر إلى الصورة تارة وإليّ تارة أخرى ويقول هذا أنا.. هذا أنا.. كان صعباً أن نميز ما إذا كانت تلك النظرات نظرات حزن أو فرح، ولكن الدمعات كانت كفيلة لتقول أن محمد جندل ( أو أبو نزيه اليوم) يحن إلى صديقه محمود أيوب وإلى تلك الأيام التي مضى عليها قرابة الـ 65 عاماً..
أعاد الحديث عن محمود أيوب والصداقة بينهما مراراً، وكيف أنهما خدما في البوليس في عكا فترة من الزمن ولكنها كانت خدمة شاقة حتى وجدا طريقة للانتقال إلى البصة وأداء الخدمة فيها..
باختصار، محمود أيوب كان أخاً لمحمد جندل (بريش) وليس مجرد صديق، هذه هي الرسالة االتي حمّلنا إياها إلى الابن حسن محمود أيوب.. "قولوا له هذا بيت عمه"، بهذا الإيجاز وهذا الوضوح عبر محمد جندل عن مشاعره تجاه الصديق المرحوم، وأظهر شوقه للقاء أبنائه متى حضروا إلى لبنان.. وطلب نسخة عن الصور فتركناها عنده لأننا حضرنا أصلاً لهذه الغاية، ولكي نوصل رسالة مفادها أن صداقة صادقة كهذه التي يتحدث عنها أبو نزيه لا تطويها السنون وإن طالت، ولا يفرقها الاحتلال ولو تجبّر.
محمد جندل (بريش) حاملاً صورته وعمرها أكثر من 65 عاماً