ياسر قدورة - بيروت
الأستاذ صلاح خليل واحد من أبناء دير القاسي الذين ولدوا ودرسوا فيها، وكان شاهداً على اقتلاع أهلها منها..
رجل دمث، هادئ بحزم وصراحة لا يتمتع بها كثير من الناس.. غاية في الترتيب والتنظيم في شؤونه وأفكاره.. زيارتنا له كانت غنية جداً، وبعض ما دار فيها نسوقه في هذا الحديث، وتحديداً الحديث المتعلق بدير القاسي : الحياة فيها والخروج منها..
دير القاسي عبارة عن قرية صغيرة من قضاء عكا ، موقعها بالجليل الأعلى وعبارة عن حارتين غربية وشرقية، من العائلات المعروفة فيها بيت معروف وبيت الصادق ، بيت معروف جلّهم بالحارة الغربية وبيت الصادق جلّهم بالحارة الشرقية. وكان في بركة بالحارة الشرقية ، هي ليست للشرب وكان البعض يسبح فيها ، كان في مزار فيه ضوء ( سراج وفتيل ) وكان الناس يعتبرونه لوَلي لا أعرفه.
تقع دير القاسي بين قريتين ، قرية مسيحية إسمها فسّوطة وقرية درزية إسمها حُرفش وعند خروجنا في 1948 ، طلعوا أهل البلد خوفاً ورعباً مما سمعوه عن جرائم اليهود ، بقي 3 أو4 ختيارية ، بقي المختار غانم معروف وبقي واحد هو زعيم بيت حمود ، إسمه موسى حمود أبو نعيم ، وأعتقد واحد أو إثنين لا أذكرهم ، اليهود طلبوا منهم أن يستدعوا أهل القرية للعودة إليها ، ولكن هذا لم يحدث، وهم أنفسهم تركوا القرية أيضاً.
الدراسة في دير القاسي
كان في مدرسة بالبلد ( المدرسة الجديدة ) لم نداوم فيها كانت على طرف الحارة الشرقية ، على الطريق الى فسوطة ، لم ندخلها بسبب وقوع الأحداث.
كان في مدرسة إبتدائية الكل يتعلم فيها ، كان فيها لغاية السادس الإبتدائي ، أنا أكملتهم ، دخلت عمري 6 سنوات لأني ولد وحيد وبالواسطة ، والدي كان يعزم المدير وغيره ، كان عنا 200 طير ، فكان الناس يقولون لي ، عندما كان الأساتذة أكل الطيور ، كانوا يذهبون الى بيت أبو صلاح.
أذكر مدير المدرسة إسمه أحمد الصادق ، وكان معنا في الكويت ، والمدرس عبد الرحيم معروف ( تجنَّس كويتي وله جامع في الرشيدية وبشاتيلا ) وهو صديق لي ، والمدرس نايف الصادق كان إبن المختار ( مختار القرية الشرقية مجيد الصادق ) ، مختار الغربية غانم معروف.
منهج المدرسة ، يحتوي الإنجليزي وتاريخ وجغرافيا وعلوم وكلها بدائية ورياضيات. اللي ينهي الرابع الإبتدائي في ذلك الوقت كانت مثل الثانوي اليوم.
من يريد أن يكمل تعليمه وهم نوادر ، كانوا يروحوا على ترشيحا ، مثل اللي أبوه راعي كان يبعثه الى ترشيحا أو عكا ، أذكر صبري موسى حمود كان متزوج أختي وهو إبن زعيم بيت حمود راح على صفد وكان يشارك في الدورات الرياضية في عكا وحيفا ونايف معروف إبن زين معروف ذهب ودرس في بعثة ، ونايف العجيل أخوه إبن المختار ، كان في إمكانية مادية ، وفي بعض الناس كان عندها إمكانية فكرية وتستغلها.
البنات لم تكن تذهب إلى المدرسة ، ولكن كان في بنت المختار ( بنت مجيد الصادق ) كانت البنات يروحوا عندها لتدرسهم مثل الكتَّاب ، والبنات غير ميّالين للدراسة ، بنت المختار إسمها شهيرة.
من زملائي أحمد محمود معروف ( بالسعودية حالياً ) أبوه كان زعيم البلد ( محمود الإبراهيم كان زعيم البلد ) ، وكان مع الثوار ، كان هو المخفر والمحكمة ، حتى الخلاف بين إثنين ، كان يتدخل فيه ، مع إنه كان أمّياً فقد كان له رهبة والناس تخاف منه .
كان بيادرنا وبيادره بجانب بعض ، وكان عندنا جنينة فيها دراق ولوز. فاستيقظنا في يوم من الإيام ووجدنا شريط بيننا وبينهم وضم شجرتين لوز لأرضه. أبي كان ديبلوماسياً ، وكان معتبر من بيت حمود ، كان يقول للزعيم موسى حمود ، أنا معكم إذا مسألة فيها شرف ودم وقتال ولكن لا أتدخل مع بيت معروف ( كان إسمهم بيت إبراهيم اسماعيل ) ، مثل سرقة ، وغيرها.. كان أبي شبعان وليس بعينه شيء ، وكان ينتقي أفضل وأحسن رجال كل عائلة ويتواصل معهم.
اللحام كان صاحبه ، خليل ظاهر كان صاحبه ، فكان أبي بحيرة من أمره لأنه محمود كان حاكم البلد ، فذهب له وقال له: (شوف أبو محمود أنا ما بقدرلك ، باستطاعتك أخذ اللوزات وأكثر ، أنا موقفي من بيت حمود ( أبو نعيم زعيم العائلة ) أنا موقفي حيادي.. وأنا أعطي عهد على نفسي ، أجعل زوجتي وأولادي يقطفوا اللوزات ويبعتوها لك ، أنا حيادي لا تحرجني).. وبعد ذلك رجّع الشريط ، ورجعوا اللوزات للداخل عنّا. أبي كان إنسان مثل أهل دير القاسي ، بسيط وتفكيره بسيط ، ولكن عنده لمحة ذكاء ، فهذا الأسلوب كان ذكي وبريء.
تفاصيل دير القاسي: الجامع، والدكان والحياة اليومية
كان في بالبلد جامع بالحارة الغربية ، وكان في شيخ بالجامع ، كان يسجل المواليد ، الشيخ من بيت ظاهر ، لم يكن هناك حرص على الصلاة مثل اليوم. الشيخ كان يضع بجيبه علبة زعوط ، عند وضعها يعطس الواحد ، فنلحقه ونحن أولاد صغار ويعطينا منها.وعند الزواج هو كان يسجل الزواج رسمياً.
عند الطبابة كان الناس يذهبون الى عكا ، أو يعالجونه بدون تخصص ، وكان هناك مجبّر ( وهو شاطر كثير ) يضع قضيب وخشب لجبر الكسور، وكان في داية اسمها مريم..
وكان في البلد آبار ماء، كان في بئر بالحارة الغربية أمام بيت قديم لنا ، والنساء هم ينشلون الماء منها. أما الإنارة فكانت بالسراج واللي أموره مرتاحة كان يحضر اللوكس وعند قدوم الضيوف كان يعمّر اللوكس ويُعتبر ميزة لإكرام الضيف.
كان في البلد دكان لصاحبه محمد معروف ، كان عنده محل بصيدا واشتغل عنده رفيق الحريري ، محل ملابس هو إبن خال أبي إذا بتسمع نعيم البوليس ( أخوه الكبير ).
كان في بالدكاكين ، ملبّس ، قضامة وبزر ، وكنا نبدل بالبيض وهي أشهر دكانه لمحمد معروف ، وكان بنفس الوقت بصلّح بوابير كاز وزوجته إسمها خديجة ، والناس كانت تنادي خديجة لتأتي وتفتح الدكان.
اللحام المشهور في البلد كان صليبي زيدان ( أبو زيدان ) وفي بالحارة الشرقية لحام ولكن لا أذكره.
كان المكان الذي يجمع الناس بالحارة الغربية ، في طارود كثير ، ومصف حجارة قديمة ، وهي مثل الكنبايات ، مصفوفة بطول 20 – 30 متر والناس تأتي عصراً وتجلس هناك ، وأمام الدكانه واحد إسمه حجيل القرفلي ، كانوا يتجمعون بوسط الحارة الغربية ، ومن يغيب كانوا يعرفون إنه غائب ويسألون عنه إذا كان مريضاً.
كان في جهاز راديو عند أو نعيم زعيم بيت حمود ، وكان الناس يتجمعون عنده لأنه الجهاز الوحيد ، لسماع الأخبار.
دير القاسي كانت مشهورة بزراعة التبغ والقمح والحبوب والشعير والأرض اللي تزرع قمحاً ، تزرع السنة التي تليها بالدخان ، وكان هناك تعاون كبير بين الأهالي، يتعاونون جميعاً في الحصاد والدراسة.. والصبايا يأتين لنقل القمح.
العمل بالدخان مقرف ، لأن زراعته من الألف للياء متعب ، عند رشّه بجانب البيت ويصبح شتل ويضعوا قش أحسن ما تأتي العصافير وتأكله ، وثم ينقل الشتل ويحفروا ويزرعونه , ثم يقطفونه ، ويجعلونه على شكل كبوش ويعلق لينشف ويضعونه في صناديق ، ويبيعونه لشركة إنجليزية.
كانت يومية الواحد بتعريفة ، رغم تعب شغله وينتظرون شخصاً كان يجلب البرتقال الفائض من عكا وحيفا ويبدلونه بالدخان ، لم يفكر أحد بزراعة البرتقال ، فنحن كان عندنا جنينة فيها تفاح ولوز ، يبعثو منها للأساتذة ، يزرعون بصل وبطاطا ، ولو كان عندنا وعي كاف لزرعنا الفواكه أيضاً.
أبوها لأم سليم ( زوجتي ) كان مع البوليس ، ولما اطلعنا بقي يقبض راتب عنه وعن أولاده لغاية ما توفى. كان ينزل على السفارة البريطانية يقبض كل شهر ، لأنه إشتغل معهم 17 سنة بالخيالة والجمارك. وشفت الكهرباء عندهم في عكا ، وكنت أطفىء النور وأضويه ، فأهلي تركوني عندهم وراحوا على حيفا ، وخالتي تقول شو هالولد الشقي.
خارج دير القاسي
الدخان كانوا يبيعونه بمبالغ زهيدة في عكا.. والدي إشترى من نقود الدخان ، كبوت لأختي الكبيرة ، وكان كبوت رجالي ، فجاءت أم سليم ، وقالت له هذا رجالي فأعاده صباحاً أمام المحل ليبدله ، ولكن صاحب المحل طردهم لأنه لم يكن قد استفتح بعد.. لتعرف كم كانت الناس بسطاء.
أنا زرت حيفا وترشيحا ، كان لأهلي لأصدقاء هناك. التنقل كان بالباص ، يذهب الصبح ويعود آخر النهار ، يذهب من دير القاسي على عكا ، يمر على سحماتا وعلى القرى الساحلية ويصل الى عكا وعلى ترشيحا. وكانت في عكا أناس يتبعون الطريقة الشاذلية تابعين للشيخ الهادي المغربي ، يعتبر مزار ومقام ورجل دين ، مثلاً أهلي مات لهم سبع أولاد ولم يبق سوى أختي ، وذهبوا للمقام لأنهم يعتبرونه مقدساً. كان هو زعلان من دير القاسي ، ولكن عندما ولدتني أمي ذهبوا إليه ووضعوا 10 ليرات بيده ، فقدم يده ليقبلوها ، وقال لهم سمّوه صلاح الدين عني أنا. كانت المرحومة أمي تقول لي : لولا سيدنا الهادي ما عشت.
بداية الأحداث 1947- 1948 والخروج من الدير
لا أذكر أن الناس كانت تتابع تفاصيل الأحداث ولكن من تهجر قبلنا بأشهر كانوا يأتون إلى دير القاسي هرباً، ويمكثون بين أشجار الزيتون.. كان بعض الناس يسيء إليهم والبعض يرسل الطعام لهم. وأنا كنت حزين من موقف بعض أهل البلد السلبي تجاههم ، ولكن هذه السلبية أعزوها للتفكير البدائي وقلة الوعي.
كانت الناس تستعد بوقت قصير قبل الهجرة ، بشراء البواريد ، ولكن لم تكن الإستعدادات كبيرة. كان والدي مثل غيره يخرج للحراسة ، كان عنده بارودتان.
قصفت دير القاسي في أعلى الحارة الشرقية بمنطقة اسمها ( الستين ) منطقة مرتفعة جداً ، فوق البركة ، وأصابت أحد البيوت وصعد منها دخان كثير، قصفت بالطيران. وفي ضربة ثانية قصفوا فاستشهد رجل كان تحت الزيتونة وهو ابن القسطي ( اسمه محمود حسن القسطي ) ، كان يلبس ملابس جيش الإنقاذ.
أنا خرجت من البلد أجر حماراً ، وإطلاق النار حولنا على طرف البلد في الطريق الذي بيفصل بين لبنان وسعسع ، فكنت أرى رشقات الخرطوش ، ولكن لم يكن القصد القتل ، لأنهم لو أرادوا القتل لما خرج أحد حياً ، ولكن القصد تفريغ البلد من أهلها.
المرحوم والدي ، كان عائداً للبلد لتفقد الأرض ، وكان معه بارودتان ، واحدة لنا وواحدة لشريك بدوي ، فحاد عن الطريق التي كان كل الناس يسلكونها، وعندما حاد عن الطريق ، فرشّوه وقتلوه اليهود فربما تبادر لهم انه مقاتل، ولكن لم يخبروا أمي عنه ، فبقيت أمي تبحث عنه سنتين ، والناس يقولون لها رأيناه بطرابلس وهنا وهناك. والمنطق يقول إنهم قتلوه ، لأن معه بارودتين.
كان الناس رغم بساطتهم ، كان كل واحد يشتري بارودة ويأخذ دوره بالحراسة، ولكن إذا جاءت طيارة كان يطلق النار ولكن البارودة لا تعمل شيء مقابل الطائرة ، فرضت عليهم الحراسة ولكن بلا فائدة بسبب عدم وجود الوعي. ولو كان في وعي مثل اليوم ، لبقينا وناضلنا.
الخروج من دير القاسي كان بشكل فوضوي ، جربنا الدواب وخرجنا عند المغرب ، خوفاً وهرباً الى لبنان.
طلعنا الى خلّة ، ثم على جبل قبل الطريق الرئيسي الذي يفصل لبنان عن سعسع ، نزلنا على طرف القرية ( الخلّة ). ثم وصلنا إلى عيتا الشعب عند أبو علي سرور ، فتح لنا غرفة عنده ، نظراً للعلاقات التي كانت بينهم.
من دير القاسي لعيتا الشعب إستغرقت ساعات ، واجهنا مشكلة العطش كنا نشتري تنكة الماء بـ 10 قروش ووالدتي كان معها فرس وباعتها ، وعند بيعها بكت بشدة ، ولكن للحاجة.
وطلعنا معنا الوثائق عن طريق الصدفة , وكانوا في علبة تنك للدخان ، مثل الخزنة فيها نقود أيضاً. وأخرجنا معنا فرشة وأشياء ليست ذات قيمة.. وأهلي كانوا يضعون الحبوب في مخزن ، والدتي رجعت لتتفقده ، كنا مرتاحين مادياً في فلسطين. فكانت أمي تعود لتتفقدها.
أهالي دير القاسي ، من بعد وصولنا لعيتا الشعب ، بعضهم كان على علاقة بأهل رميش المسيحية ، في ناس كانوا صحبة مع مختارها ، ذهبوا هناك.
وذهب العدد الكبير منا إلى شحيم ، 1948 – 1950 ونحن منهم أيضاً. أنا ذهبت على ساقية الجنزير كان بيت عمي هناك درست في مدرسة بالحمراء شارع ليون ، أخذت شهادة السيرتفكا منها ، كنت أدرس الإنجليزية. وفي شحيم كانت تأتي الأعاشة بسيارات. وبعد ذلك ، صارت إجتهادات ، مثلاً ذهب واحد على برج الشمالي ، فلحقه جماعته، ولكن العدد الأكبر كانوا بصور وشحيم. ولم تكن هناك خيم ، فكنا نستأجر البيوت.
فلسطين بعد كل هذه السنوات
أشعر بحرقة ، لا أعرف أين أموت ، ولكن عندي مأخذ على كل المنظمات والقيادات خلّفونا عشرات السنين الى الوراء. في 48 كان اليهود يتمنون الجلوس مع عربي ، ولكنهم اليوم يترجون اليهود للجلوس معنا. المفاوضات لم تؤد لشيء. بالمجمل لم يستطيعوا تحيقيق أي شيء. أنا فلسطين تجري بدمي ، ذقنا الأمرّين ، وأنا لست سعيداً خارج وطني.
الأستاذ صلاح يعرض واحدة من وثائق عديدة يحتفظ بها من دير القاسي
وثيقة أخرى من الأرشيف
أبو سليم وزوجته نعمات قدورة في منزلهما في بيروت
صلاح خليل وياسر قدورة أثناء إجراء المقابلة