الحسيني، بدر بن موسى الوفائي: (توفي بعد سنة 1233ه/1817-1818م)
(عالم أزهري توطن القاهرة، وعمل في التدريس. وكان أحد العلماء غير المصريين القليلين الذين أدوا دوراً اجتماعياً وسياسياً مهماً في ذلك العهد. وكان أحد قادة ثورة القاهرة الشعبية في تشرين الأول (أكتوبر) 1798. ولما أخمد الفرنسيون تلك الهبة الشعبية فر من وجههم ثم عاـد إلى القاهـرة مع خروج الفرنسييــن، وسكن حارة الحسينية ثانية. وبقي فيهـا إمامـــاً وخطيباً ومدرساً حتى توفي ودفن هناك.)
هو بدر الدين بن موسى بن مصطفى، المعروف بابن النقيب لأن جدوده تولوا النقابة في بيت المقدس حتى عُزلوا عنها بعد ثورة النقيب في أوائل القرن الثامن عشر.
وكانت عائلة الوفائي الحسيني (أو أولاد كريم الدين، على اسم أحد أجدادهم) تشغل مناصب بارزة في القدس وخارجها، مثل نقابة الأشراف، والإفتاء والقضاء خلال العهد العثماني. وفي أواخر القرن السابع عشر، آلت نقابة الأشراف في القدس إلى مصطفى، جد بدر الدين، ومن بعده لابنه البكر محمد. وتزعم هذا قيادة ثورة كبيرة ضد الحكم العثماني استمرت أكثر من عامين كانت سبباً لاضمحلال دور العائلة. وقد أُعدم النقيب، وهرب أخوه موسى إلى غزة. وعفت الدولة عن موسى وسمحت له بالعودة إلى القدس واستعادة أملاكه، لكنه ظل يتردد على غزة، وفيها ولد بدر الدين، وكان قاصراً سنة 1739، بحسب وثائق المحكمة الشرعية.
هاجر بدر الدين مع أخيه الأكبر، علي، إلى القاهرة بعد وفاة والديهما في أواسط القرن الثامن عشر. وهناك أكملا تحصيلهما في الأزهر، وسكنا حي الحسينية، وأصبح علي من أبرز علماء مصر وذا منزلة خاصة عند أمراء مصر المماليك. فلما مات السيد علي سنة 1186ه/ 1772م ورث أخوه بدر الدين منزلته ومنزله. وقدّم الأمير محمد بك أبو الذهب لبدر الدين خمسمئة ربال لتجهيز لوازمه. وجلس بدر الدين مكان أخيه في الدار، وتصدر لإملاء دروس الحديث في مسجد المشهد الحسيني، «وأقبلت عليه الناس ومشى على قدم أخيه» على حد قول الجبرتي. ثم يضيف «وجرى على نسقه وطبيعته في مكارم الأخلاق وإطعام الطعام وإكرام الضيوف والتردد إلى الأعيان والأمراء والسعي في حوائج الناس والتصدي لأهل حارته وخطته في دعاويهم وفصل خصوماتهم وصلحهم والذود عنهم ومدافعته المعتدى عليهم ولو من الأمراء والحكام. وصار مرجعاً وملجأ في أمورهم ومقاصدهم وصارت له وجاهة ومنزلة في قلوبهم ويخشون جانبه وصولته عليهم.»
الإحتلال الفرنسي:
إن المكانة الخاصة التي كانت لبدر الدين بين أهل حارة الحسينية في أواخر القرن الثامن عشر هي التي أهلته، من دون شك، للدور القيادي الذي قام به في ثورة القاهرة الشعبية الأولى سنة 1798. ومرة أخرى، ننقل كلمات الجبرتي عن تلك الهبة الشعبية ودور بدر الدين فيها، فهو يقول:
فلما كانت الحوادث في سنة 1213ه/1798-1788م واستيلاء الفرنسيس على الديار المصرية وقيام الجهة الشرقية من أهل البلد وهي القومة الأولى التي قتل فيها دبوى قائمقام، تحركت في السيد بدر الدين المذكور الحمية وجمع جموعه من أهل الحسينية والجهات البرانية وانتبذ لمحاربة الإفرنج ومقاتلتهم وبذل جهده في ذلك. فلما ظهر الإفرنج على المسلمين لم يسع المذكور الإقامة وخرج فاراً إلى جهة البلاد الشامية وبيت المقدس وفحص عنه الإفرنج وبثوا خلفه الجواسيس فلم يدركوه. فعند ذلك نهبوا داره وهدموا منها طرفاً وأكمل تخريبها أوباش الناحية، وخربوا المسجد وصارت في ضمن الأماكن التي خربها الفرنسيس بهدم ما حول السور من الأبنية.
ويروي الجبرتي تفصيلات الهبة الشعبية وإخمادها في أماكن عدة من تاريخه لمصر أيام الإحتلال الفرنسي، لكن المجال لا يتسع هنا لذكرها طبعاً. وأعدم الفرنسيون خمسة من العلماء اتُّهموا بقيادة الثورة. أما بدر الدين فقد نجا من الإعدام، وحضر إلى بيت المقدس. وتثبت سجلات المحكمة الشرعية في القدس رواية الجبرتي من خلال الوثائق الكثيرة التي يذكر فيها اسم بدر الدين في الفترة ما بين سنتي 1799و1801. ففي تلك الفترة قلده قاضي القدس عدة وظائف، منها الإمامة والكتابة والتدريس وقراءة القرآن والتولية على الأوقاف، وغيرها. كما تخبرنا إحدى الوثائق المؤرخة في 10 شعبان 1214ه/ كانون الثاني (يناير) 1800م أن بدر الدين تزوج في القدس مخطوبته الست زليخا بنت عبد الله أفندي. ومن المفيد هنا أن نذكر أنه كان حينها شيخاً في الستينات من عمره. ومع ذلك فإنه تمتع، كما يبدو، بصحة جيدة مكنته من المشاركة في قيادة ثورة القاهرة ثم الهرب إلى القدس والزواج فيها.
وعندما عقد اتفاق جلاء الفرنسيين عن مصر في ربيع سنة 1801، رجع بدر الدين إلى القاهرة مع جيش السلطان بقيادة الصدر الأعظم يوسف ضياء. ومرة أخرى نترك الجبرتي يروي قصة عودة بدر الدين إلى القاهرة: «فلما حضروا ثانية بمعونة الإنكليز وتم الأمر وسافر الفرنسيين إلى بلادهم ورجع المذكور إلى مصر وشاهد ما حصل لداره ومسجده من التخريب أخذ في أسباب تعميرهما وتجديدهما حتى أعادهما أحسن مما كانا عليه قبل ذلك. وسكن بها وهو إلى الآن بتاريخ كتابة هذا المجموع (1220ه/1805-1806م) قاطن بها ومحله مجمع شمل المحبين ومحط رحال القاصدين بارك الله فيه.»
بدر الدين ومحمد علي:
والجبرتي يذكر بعد أخيار بدر الدين السياسية والإجتماعية قبل ذلك التاريخ، والتي تشير إلى أنه بقي شخصية قيادية مهمة في المجتمع القاهري بعد انسحاب الفرنسيين. ففي ربيع الثاني 1219ه/ تموز (يوليو) 1804م، أيام الفوضى السياسية والإضطرابات التي سبقت اعتلاء محمد علي الحكم في مصر دخل المماليك وأتباعهم أحياء الحسينية والجمالية وغيرها، وعاثوا في تلك المناطق فساداً حتى هرب السكان وعمت الفوضى. عند ذلك «طلب جماعة من المماليك السيد بدر القدسي فخرج إليهم من داره خارج باب الفتوح فأخذوه عن البرديسي وإبراهيم بيك فأسرّ إليه إبراهيم بيك بأن يكون سفيراً بينهم وبين الباشا في الصلح معهم. قَبِل بدر الدين التوسط بين المماليك والباشا وركب إليه وبلغه مرادهم. لكن الباشا الذي أبدى موافقته في البداية لم يرق له اتصال المترجم [بدر الدين] بالمماليك العصاة فأعطى الأمر باحتجازه وسجنه. فلما شاع الخبر توسط في اليوم التالي كل من الشيخ السادات وعمر مكرم نقيب الأشراف. فوعد الباشا بإطلاق سراحه بعد خمسة أيام. ومرت الأيام الخمسة ولم يطلق سراح بدر الدين وكان متقدماً في السن فخاف عليه المشايخ والعلماء من سطوة العسكر وطلعوا مرة أخرى عند الباشا وشفعوا في السيد بدر المقدسي فأطلقه ونزل إلى داره.»
تركت هذه الحادثة أثرها في الشيخ المسن بدر الدين فوقف بعدها عن التدخل في أمور الحكم والسياسية. والمرة الأخيرة التي يرد فيها اسم بدر الدين في «عجائب الآثار» هي في أحداث سنة 1225ه/1810م. ففي صيف تلك السنة، وحين كان محمد علي يستعد لحملته على الحجاز لمحاربة الوهابيين، حضر رسول من عند السلطان وعلى يده أوامر وخلعة وسيف وخنجر وغيرها. وقام هذا الرسول بزيارة المشهد الحسيني مع حشد كبير من العلماء والأعيان ورجال الحكم. وفي تلك المناسبة «دعا السيد محمد المنزلاوي خطيب المسجد بدعوات للسلطان ولما فرغ دعا أيضاً السيد بدر المقدسي.»
أعوامه الأخيرة:
كانت الأعوام الأخيرة من حياة بدر الدين غامضة لا نعرف عنها الكثير، مثلها مثل الأعوام الأولى من سيرته. فالجبرتي الذي سجل وفيات العلماء والأعيان حتى سنة 1233ه/ 1818م لم يعد إلى ذكر اسم بدر الدين. أما سجلات المحكمة الشرعية في القدس أيضاً فلا تساعدنا بصورة كافية في إلقاء الضوء على أيامه الأخيرة. فبعض الحجج المؤرخة سنة 1223ه/1808م يتحدث عن وظائف قررها القاضي علي مصطفى، نجل الشيخ بدر الدين ابن النقيب، وهناك في حجج متأخرة سنة 1226ه/1811م فراغ عن مبالغ من المال للسيدتين عايشة وزينب، كريمتي بدر الدين الحسيني. في تلك الوثائق سلسلة طويلة من الألقاب لبدر الدين مثل العلامة الأوحد، والفهامة المفرد، وعمدة العلماء... فرع الشجرة الزكية نقيب زاده في القدس سابقاً. لكننا لا نجد ذكراً فيها لكلمة المرحوم، وهو ما يؤكد أنه كان في قيد الحياة حتى أواخر العقد الثاني من القرن التاسع عشر. ومهما يكن تاريخ الوفاة الدقيق، فمما لا شك فيه أن بدر الدين ترك بعد رحيله أثراً مهماً في تاريخ مصر يذكر له: دوره في ثورة القاهرة على الفرنسيين، ومكانته الإجتماعية والسياسية والدينية في حارة الحسينية. كما أن المسجد الذي عمره في تلك الحارة بقي عامراً حتى سبعينات القرن الماضي على الأقل. فقد ذكره علي مبارك في خططه ضمن مساجد القاهرة «وهو بالحسينية في طرف البلد أنشأه السيد بدر الدين بن موسى بن مصطفى...» كما أن أفراداً من نسل بدر الدين كانوا في القاهرة في أواخر القرن الماضي. ففي مكان آخر من «خططه» يقول مبارك: «وللآن يعرف بيتهم ببيت بدر الدين المقدسي ولهم أوقاف تحت نظر السيد عبد الحميد أفندي من الذرية المستخدم اليوم بديوان الأوقاف.»
ويثبت بعض وثائق سجلات المحكمة الشرعية في القدس أسماء بعض أولاده، مثل نجله مصطفى، وابنتيه عايشة وزينب. وكان وكيل الأخيرتين خالهما مصطفى أفندي الخالدي. ولا ندري أخبار هؤلاء في القدس، فقد نجحت عائلة أخرى (أولاد غضبة الذين غُرفوا فيما بعد بالحسيني) في تسلم الإفتاء والنقابة وغيرهما من المناصب، فورثوا بذلك دور ووظائف ونسبة الحسيني التي كانت لبدر الدين وأجداده، أولاد كريم الدين الوفائي.
أعلام فلسطين في أواخر العهد العثماني
عادل مناع