تاريخ عائلة البكري في الخليل والقدس
المصدر: مباحث في التاريخ المقدسي الحديث- الجزء الأول، تأليف بشير بركات
تشير سجلات محكمة القدس إلى أن عائلة البكري استقرت في مدينة الخليل منذ أواخر القرن العاشر الهجري، وكان أول من ذكر من أعيانها الشيخ شمس الدين البكري عام 1026/1617 حيث تدل الحجج على أنه كان راسخا في المدينة قبل ذلك بكثير. وكانت عائلة البكري من طائفة المجاورين، وهذا يعني أنها لم تكن من الأكراد ولا من التميمية.
وذُكر منهم أيضا “الشيخ خليل بن المرحوم شمس الدين من أولاد نور الدين الشهير بالبكري” عام 1070/1660. وإذا افترضنا أن عائلة البكري تنتمي إلى مصر، فقد يكون نور الدين المذكور قد رحل إلى الخليل في نفس الفترة التي رحل فيها الشيخ بدر الدين محمد، أحد أجداد الشيخ مصطفى البكري، من مصر إلى الشام. لكنني لم أعثر على دليل على ذلك.
وقد ساهمت عائلة البكري في الحياة العامة من خلال توليها بعض الوظائف ومشاركة أعيانها في فض الخلافات وتسوية النزاعات في مدينة الخليل. وتشير السجلات إلى علاقات أقامها نفر من العائلة مع تجار في القاهرة، وإلى استقرار نفر آخر منهم في القدس.
المشاركة في الحياة العامة
توراث أبناء عائلة البكري العديد من الوظائف الدينية في المسجد الإبراهيمي. فقد عين الشيخ شمس الدين البكري أوائل القرن الحادي عشر الهجري في وظيفة تلاوة القرآن الكريم بربعة مهربان سلطان في المسجد الإبراهيمي، وعين ولداه خليل وحجازي في تلك الوظيفة أيضا عام 1026/1617، ثم توارثها بعدهم بكريون آخرون.
وكانت رواتب الوظيفة المذكورة ترد من الأستانة، حيث كان القراء يوكّلون من ينوب عنهم في إحضارها من العاصمة كل عام. وقد تولى الشيخ محمود بن شمس الدين البكري إحضارها عام 1051/1641، وتم توكيل شقيقه صالح بإحضارها عام 1079/1669.
وفي عام 1090/1679 عين “الشيخ أحمد بن المرحوم الشيخ صالح البكري الخليلي في وظيفة قراءة السُبع الشريف في كل يوم بالحضرة الإبراهيمية” التي وقف عليها الشيخ أحمد العماري وقفا، وذلك عوضا عن عميه الشيخ خليل والشيخ محمود البكري بحكم وفاتهما.
وعين الشيخ شمس الدين البكري عام 1053/1643 في وظيفة “رئيس المؤذنين بحرم السيد الخليل عليه السلام”. ثم انتقلت تلك الوظيفة إلى ابنه صالح عام 1068/1658، فيما أصبح الشيخ خليل مُصدّرا بالحرم الإبراهيمي. وعيّن الشيخ خليل مقرئا يتقاضى رواتب من ريع وقفيات منسوبة إلى مصطفى باشا في نابلس وعبد القادر الحريري في القدس وغيرهما. وفي عام 1065/1654 خصصت لهما حصة من أوقاف الحرم الإبراهيمي الكائنة في دمشق.
وتبين إحدى الحجج أن الشيخ شمس الدين كان ناظرا على وقف الشيخ أحمد ابن عمارة الخليلي عام 1043/1633.
وكان أعيان آل البكري يشاركون في الوفود التي كانت تتجه إلى محافظ القدس وقاضيها لعرض مطالب ومعالجة قضايا عامة. ففي عام 1045/1636 توجه الشيخ خليل بن شمس الدين البكري وأخوه محمود مع غيرهما من “المشايخ والسادة الخدام بضرائح الأنبياء الكرام بمدينة السيد الخليل” لتقديم شكوى ضد صوباشي المدينة.
وفي عام 1062/1652 توجه الشيخ خليل البكري وأخوه صالح ضمن وفد لتقديم شكوى ضد متولي وقف خليل الرحمن. وفي عام 1068/1658 توجّه المذكوران مع غيرهما من موظفي الحرم لتقديم احتجاج على مطالبتهم بدفع تكاليف عرفية. وتوجها في عام 1086/1675 لتقديم شكوى ضد كتبة وقف الخليل.
أما الشيخ أحمد البكري فقد توجه عام 1112/1701 ضمن وفد للمطالبة بعدم إحداث وظائف جديدة في وقف الحرم الابراهيمي من باب الإقتصاد في النفقات. وتوجه أحمد عام 1126/1714 ضمن وفد خليلي إلى القدس لتزكية درويش آغا دزدار قلعة الخليل.
ومن أعلام البكريين الذين برزوا في الحياة العامة في القرن الثالث عشر الهجري مفتي مدينة الخليل الشيخ محمد أمين أفندي الداري البكري. وكان قد ابتلي بوفاة ولده أحمد في شيخوخته، فتقدم قاضي القدس بطلب إلى السلطات العثمانية لمواصلة صرف راتب المتوفي.
الفتن والنزاعات
تشير سجلات القدس إلى وقوع كثير من الفتن والنزاعات بين الطوائف الخليلية الرئيسة الثلاث، وهي طائفة التميمية وطائفة الأكراد وطائفة المجاورين، في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الهجريين بشكل خاص. وكانت كل فتنة تنتهي بصلح، ومن ذلك صلح أبرم عام 1058/1648 بين طائفة المجاورين وطائفة التميمية بعد وقوع فتنة بينهما أدت إلى سقوط قتلى وهدم منازل ونهب أموال. وبعد أن تم الإتفاق على دفع الديات، اتفق الفريقان على أن يدفع المجاورون للتميمية خمسة آلاف غرش. وكان “الشيخ خليل بن شمس الدين البكري من أكابر طائفة المجاورين بالمدينة” أحد مندوبي طائفته في الصلح.
عقارات العائلة
ومن الأراضي التي كانت في حوزة آل البكري في الخليل عام 1122/1711 كرم في أرض بني سليم. وتفيد حجة شرعية بأن “الحاج محمود بن المرحوم الشيخ شمس الدين البكري الخليلي” اشترى عام 1225/1810 حصة من الدار المعروفة “بدار البيك المحدودة قبلة دار أبو صالح القيمري وشرقا الزقاق ودار البيك الثانية وشمالا حاصل السيد الخليل ودار إبراهيم البكري وغربا دار البكري المشتري وأولاد عمه وبه الباب، شركة المشتري ومن يشركه”. وفي عام 1242/1827 ورد ذكر دار الشيخ عبد القادر البكري بخط القلعة في الخليل.
البكريون في مصر
تفيد السجلات بأن مدينة الخليل كانت معبرا لكثير من البضائع التي تصدرها فلسطين والشام إلى مصر. وكان البكريون كغيرهم من أهل الخليل يساهمون في التجارة والتصدير. ومن الحجج المتعلقة بهذا الخصوص حجة صادرة عام 1077/1666 تفيد بأن الشيخ صالح البكري الخليلي كان موجودا في القاهرة قبل تاريخه.
وفي عام 1183/1769 توفي سليم ابن أحمد البكري الخليلي في القاهرة حيث كان يزاول التجارة مع شركاء مصريين. وتفيد حجة أخرى أن “الشيخ إسمعيل البكري الخليلي ابن الشيخ طه البكري الخليلي” كان في القاهرة عام 1209/1795.
وفي عام 1215/1800 “تزوج الشيخ عبد الوهاب ابن عبد ربه المصري بمخطوبته عايشة بنت سليمان البكري المرأة الكاملة، أصدقها عشرين زلطة، الحال لها من ذلك خمسة عشر زُلطة، والباقي بعد الحال وقدره خمسة عشر زلطة مؤجلة لها على الزوج إلى أقرب أحد الأجلين. زوّجها السيد مصطفى أبو قادرية بالوكالة عنها بشهادة وتعريف الحاج محمود هيكل ومصطفى ثبوتا شرعيا”.
البكريون في القدس
عدا عن دخول القدس بشكل عابر بهدف التجارة أو إجراء معاملات رسمية، استقر نفر من عائلة البكري الخليلية في القدس منذ أواخر القرن الحادي عشر الهجري، حيث ورد ذكر “أحمد أفندي بكري زاده” بالقدس الشريف عام 1087/1676، والذي عين وصيا على أيتام إبراهيم البكري عام 1099/1688.
إلا أن إقامة هؤلاء في القدس لم تمنعهم من ميراث وظيفة والدهم كمقرئ في المسجد الإبراهيمي استنادا إلى نظام توريث الوظائف العثماني، وبالطبع كان صاحب الوظيفة في هذه الحالة ينيب عنه من يقوم بها كليا. وكان الشيخ خليل البكري المذكور أعلاه قد استقر في القدس وتوفي فيها عام 1107/1696.
وفي عام 1180/1767 توفي أحمد بن سليم البكري في القدس، وفي عام 1184/1771 بيعت حصة أيتامه في حاكورة عائلة البكري في حارة السعدية للإنفاق عليهم، وهي “أحد عشر قيراطا من أصل كامل في جميع الحاكورة الخربة الكائنة بمحلة بني زيد سفل المنارة الحمراء المحدودة قبلة فرن المرحوم صنع الله أفندي الخالدي وشرقا الدرب السالك وبه باب الحاكورة وشمالا الحوش وغربا جامع الحمراء”.
وقد توفي آخر البكريين المقدسيين وهو أحمد البكري عام 1342/1924، وشيد له مقام عليه نحت على شكل عمامة في مقبرة باب الرحمة.
وفي أواخر العهد العثماني بدأت هجرة آل البكري الثانية إلى القدس.
الصرة الرومية
كان لعائلة البكري نصيب من الصرة الرومية التي كانت ترد من الأستانة إلى القدس سنويا. ففي عام 1130/1718 ورد ذكر “شيخ خليل بن أحمد البكري” من سكان القدس الشريف في حجة باللغة التركية تتعلق بالصرة الرومية. وتشير حجة أخرى وردت عام 1148/1735 إلى وظائف شغلها بعض أبناء العائلة وتقاضوا عليها حصصا من الصرة. وفي عام 1167/1754 تنازل محمد البكري عن حصته في الصرة الرومية لأحفاد الشيخ شهاب الدين جد عائلة الشهابي.
بكريون آخرون في القدس
أقام في القدس بكريون آخرون لم أعثر على ارتباط بينهم وبين عائلة البكري الخليلية، ومنهم محمد بن أبي بكر بن سليمان البكري الذي نسخ مخطوط “شرح ألفية العلامة جمال الدين بن مالك” للأبناسي وفرغ من نسخه في المسجد الأقصى عام 772/1370.
ومنهم الشيخ جلال البكري الشافعي الذي ذكره مجير الدين الحنبلي في واقعة كنيسة اليهود في القدس عام 877/1472.
وفي مكتبة المسجد الأقصى مخطوط “أقسام البدع” لأبي الحسن محمد بن محمد بن عبد الرحمن الصديقي البكري (ت 952/1545). وفيها أيضا مخطوط “المقصور والممدود” في اللغة العربية الذي نسخه “أبو بكر إبراهيم بن محمد بن حسن بن علي بن عبد الملك الحكيم الذباح البكري المقدسي القادري الحنبلي” عام 958/1551.
ومنهم أيضا “الشيخ زين الدين أبو الصدق أبو بكر محمد الصديقي الصوفي الشافعي الحاكم بمدينة القدس الشريف خلافة” عام 978/1570. ومنهم “الشيخ شمس الدين أبو عبد الله محمد الصديقي الشافعي” الذي استأجر دارا في القدس الشريف عام 983/1575.
ومن أعلام البكريين المصريين الذين زاروا القدس أحمد بن زين العابدين بن محمد (ت 1048/1638) الصوفي المفسر الشاعر، حيث زار القدس عام 1018/1610. ومنهم الشيخ محمد البكري وولداه أبو المواهب وزين الدين عام 1069/1659. ومن نظم الشيخ محمد المذكور:
أقول لقوم قهوة البن حرّموا مقالة معلوم المقام فقيه
فلو وصفت شرعا بأدنى كراهة لما شربت في مجلس أنا فيه
وفي الزاوية الأزبكية مخطوط منسوخ في القرن الحادي عشر الهجري بعنوان “لهجة العارف وبهجة المعارف” ويضم قصائد صوفية مرتبة على حروف المعجم نظمها محمد بن زين العابدين بن محمد الصديقي (ت 1087/1676).
ومن أعلام البكريين الدمشقيين الذين ذكروا في سجلات القدس أحمد بن كمال الدين بن محيي الدين بن عبد القادر البكري الحنفي (ت 1117/1705)، وهو شقيق علي جد الشيخ مصطفى البكري الصديقي. وكان قد ولي نيابة الحكم في محكمة الباب والقسمة العسكرية، ثم تنقل قاضيا في دار الخلافة والمدينة المنورة وبورسه ومكة.
ومنهم أيضا ابنه الشيخ أسعد بن أحمد بن كمال الدين البكري (ت 1128/1716)، الذي ولي نيابة الحكم في محكمة الباب والمحكمة الكبرى، ثم أعطي رتبة قضاء القدس لفترة قصيرة. ومن وظائفه التي لم تذكرها كتب التراجم المتداولة التولية على أوقاف المصريين في فلسطين، كما تبين حجة صادرة عام 1093/1682.
ومن البكريين البغداديين الذين أقاموا في القدس الشيخ عبد العزيز بن علي بن أبي العز البكري (ت 846/1443)، ذكره مجير الدين الحنبلي فقال: “العلامة الحنبلي الشيخ العالم المفسر قاضي الأقاليم، ولي قضاء بيت المقدس بعد فتنة تيمورلنك سنة أربع وثمانمائة، ولم يُعلم أن حنبليا قبله ولي القدس”، واستمر فيه زهاء 20 سنة، وتوفي في دمشق.” ومنهم الشيخ عبد القادر الصديقي الحنفي (ت 1148/1735)، المدفون في مقبرة ماملا.