ياسر قدورة - صيدا
هو الموت الذي يأتي في أجل معلوم، لا يمكن تقديمه ساعة أو تأخيره.. ومع ذلك فهو يباغتنا دائماً عندما يغيّب أحداً من المقربين، ويترك فينا حزناً مجبولاً بالألم، ولكن لا نقول إلا ما يرضي ربنا: إنا لله وإنّا إليه راجعون.. وقد غيب الموت صباح اليوم الخميس 16 حزيران 2011، العم أحمد أيوب محمود أيوب (أبو خلدون) عن عمر يناهز 69 عاماً، فهو المولود في سحماتا (قضاء عكا) وقد أخرج منها وهو ابن 6 سنوات.
أعياه المرض في سنواته الأخيرة فدخل المستشفى للعلاج مرات عديدة ولكن الله سبحانه وتعالى قد أعانه على تجاوز أزماته الصحية، وكان في كل مرة يخرج من وعكته بهمة عالية تتخطى همة كثير من الشباب الذين عرفتهم، وهذا ما عزز الصداقة بيننا رغم أنه يكبرني بـ 28 عاماً تقريباً.
كانت فلسطين عموماً وسحماتا خصوصاً محوراً يجمعنا في كل جلسة أمضيناها سويةً، وفي كل مرة كنت أخطط لاختصار الزيارة كي لا أثقل عليه مراعاة لظروفه الصحية، ومع ذلك فقد كان الحديث يستمر لساعات دون أن نكتفي ونقول : "للحديث بقية"..
وأتوقف من بين هذه اللقاءات العديدة عند جلسات ثلاث بشكل موجز:
الأولى: في أيلول 2011 وكانت مخصصة للحديث عن خريطة سحماتا التي أمضى 4 أو 5 سنوات من عمره يعمل على إعدادها وتصميمها وما رافقها من تعديلات وإضافات، حتى انتهت إلى الشكل الذي ظهرت عليه من الدقة والاحتراف في تحديد موقع كل بيت من بيوت سحماتا وكل معلم من معالمها، تماماً كما استحضرها في ذاكرته أو جمعها من ذاكرات الكبار من أبناء سحماتا.
في تلك الجلسة تعرفت إلى سحماتا عن كثب ووعدته بأن أعمل جاهداً كي يخرج هذا العمل الرائع إلى العلن ليتعرف أكبر عدد من الناس على بلدتنا سحماتا، وبأن لا يتوقف العمل عند هذا الحد بل أن نمضي به قدماً في مشاريع أخرى ولا أزال على الوعد.
الثانية: في 16 آذار 2011 وكانت مخصصة للحديث عن تاريخ عائلة أيوب في سحماتا ورحلة لجوئهم إلى لبنان، فتوسع أبو خلدون في سرد سيرة حياة والده أيوب وعمه حسن مع كثير من القصص والتفاصيل التي حرصت على توثيقها ضمن عملي في مشروع هوية بهدف الحفاظ على جذور العائلة الفلسطينية عموماً.. وفي هذا اللقاء يستوقفني مشهد فيه من العبر ما يهمني أن يراه ويعرف به أبناء بلدتنا.
سألته في اللقاء عدة أسئلة وأجاب عليها بالتفاصيل وقد سجلتها على مسجل صوتي، ولكنني في سؤالي الأخير طلبت منه أن يحدثني عن مشاعره تجاه سحماتا واستأذنت منه أن أصور الإجابة على كاميرا الفيديو فلم يردّ الطلب.
وأنشر هنا جزءاً من هذا اللقاء:
( ... في وقت من الأوقات حلمت حلم بعد ما تعرفت على وجيه سمعان، حلمت إنّو باعث لي اوراق يعني مثل تصريح إني أروح ع سحماتا.. وهنا يأخذ أبو خلدون وقتاً قبل أن يكمل، فقد اغرورقت عيناه بالدمع... وصارت كلماته تخرج بصعوبة وببطء.. لمّا بحكي عن سحماتا، الصحيح ما في شي بيأثّر فيّي ... ولا يكمل كلماته.. يأخذ المحارم كي يمسح دموعه، ويتابع.. لا تتصور إنّو في شي بيأثّر فيّي أكثر من إني أتذكر بلدنا..
في المنام شفت نفسي راكبين بسيارة وجايين، طريق ترشيحا حسب ما بتذكرها أنا سنة الـ 48 وكيف نزلنا من عند الجسر، وصلنا للخلّة، وطلعنا عند الدبش، ووصلنا زتون السوس وزتون العرب، ولفّت السيارة بدها تفوت عالبلد، كانت... وهنا تظهر حشرجة في صوت أبو خلدون.. في المنام أجهشت في البكاء.. ويبكي أبو خلدون أثناء الحديث.. هذا الشي ما خبّرته لوجيه سمعان لأني ما بدّي أزيد الجروح والمشاعر عنده..
تدمرت البلد وجرفوها وقلعوا حجارتها وأخذوها عالقدس وبنوا فيها، وشرّطوا محل الردم، ولكن صورة سحماتا الـ 48 لم تفارق مخيلتي أبداً.... )
ويختتم أبو خلدون اللقاء بقوله: ( أنا بشوف مناظر كثير جميلة في لبنان، أشجار وجمال الطبيعة في لبنان معروف.. ولكن أنا هالـ كم شجرة اللي كانوا جنب المدرسة وشجر العنبر والسرو ما بشوف أجمل منهم بالعالم كلّياتو).
بعد اللقاء ببضعة أيام اتصلوا بي من تلفزيون الجديد NEW TV ، وطلبوا موعداً لزيارتنا في مكتبنا لإعداد تقرير عن المشروع الوطني للحفاظ على جذور العائلة الفلسطينية /هوية، فأعددت لهم المادة المطلوبة لانتاج التقرير ومن بينها شريط التسجيل الذي تحدثت عنه آنفاً. وإذا بأبو خلدون يتصل بي في اليوم نفسه وقبل أن يعلم بأمر التلفزيون ويفاجئني بطلبه.. فقد طلب مني أن لا أعرض المشهد الذي ظهر فيه متأثراً وباكياً عند الحديث عن سحماتا، فقلت له أن هذا المشهد بالتحديد هو الذي أفكر بإرساله لتلفزيون الجديد لأنه يظهر صورة من صور تعلق الشعب الفلسطيني بأرضه ووطنه، ومع ذلك فقد نزلت عند رغبته ( آنذاك ) وأرسلت الشريط للتلفزيون بعد أن حذفت منه المشهد المذكور.
الثالثة: وهي جلسة لم تحدث بل كانت جلسة مفترضة ومؤجلة مرة بعد أخرى، وكان من المفترض أن تتم في شهر أيار ولكن أشغالاً عدة فرضت نفسها عليّ حينها فتأجل اللقاء.. ويؤلمني الآن أنه اتصل بي معاتباً عتاب الأخ والصديق قائلاً: (صار بدها قعدة يا أبو عمار).. فقد كان عنده الجديد ليحدثني به وهو يدرك أنني أحب سماع ما عنده لأنه كان يكتب مذكراته ويعلم أنني أسعى وراء هذا النوع من الذكريات. وعدته أن أزوره في وقت قريب، ولكنني كنت أؤجل اللقاء بدوري كي أتمكن من أن آتيه بالجديد، وكنت أحسب أنني في هذه الجلسة المفترضة سأعرض عليه حصاد لقاءات مع عدد من أبناء سحماتا قمت بها بعد زيارتي الأخيرة لأبو خلدون، وهي زيارات لكل من الحاج عبد الكريم فايز، قاسم عسقول (أبو نايف)، يوسف دياب ( أبو نزيه) وآخرهم الأستاذ نهاد خليل عسقول يوم أمس الأربعاء 15 حزيران 2011، وقد وعدت الأستاذ نهاد أن أحضر له نسخة عن خريطة سحماتا ( التي أعدها أبو خلدون) في زيارتي القادمة..
كنت فرحاً بهذا الحصاد الذي أحمله للجلسة القادمة وواضعاً على جدول أعمالها أن أطلب من أبو خلدون الإذن بطباعة المزيد من النسخ عن الخريطة، ولكنه الموت سبّاق..
وصلتني رسالة صباح اليوم الخميس من الأخ ماهر علي قدورة يخبرني فيها بوفاة العم أبو خلدون فأصابني الخبر بشيء من الذهول والصدمة.. ورغم أني كنت أعرف وضعه الصحي ولكنني ظننت – مخطئاً - أنني سأدركه وأحمل له ما يسرّه، ولكن الله قد أخذ أمانته.. وأقولها صادقاً لا من قبيل العادة والتكرار: إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا على فراقك يا أبا خلدون لمحزونون..
فارقتنا وفي قلبك حسرة على فلسطين، وقد كان إيمانك راسخاً بأننا عائدون إليها، بل إلى سحماتا تحديداً، ولطالما رددتها وأعدتها على مسامعي ومسامع الآخرين دون شك: إننا عائدون.. وأفهم اليوم أن هذه العودة التي نؤمن بها ليست بالضرورة أن تكون لأشخاصنا ولكنها حتماً لشعبنا.. اليوم أو غداً..
ولمن لم يعرف أبا خلدون، أولم يعرف إيمانه وحبه لهذه العودة، أنقل له الجواب الذي أرسله لي عبر البريد الالكتروني عندما أرسلت له رسالة في 12 أيار 2011 لأسأله إن كان مشاركاً بمسيرة العودة في 15 أيار إلى منطقة مارون الراس، وقد وصلني هذا الرد في اليوم التالي، أي في 13/5/2011 ، وأنقله بحرفيته:
عزيزي أبو عمار تحياتي وأشواقي
الحرقة تمزق قلبي لعدم قدرتي الصحية للمشاركة بهذا الزحف المقدس الذي يمكني من تنسم أواشتمام هواء بلدي ورؤية سحماتا ولو خيالات عن بعد
عزيزي أبو عمار. إني اتوق شوقاً لا حدود له للذهاب إلى الحدود. إن دموعي حارة تسبق عباراتي هذه التي أكتبها لك تشوقاً لهذه المسيرة المباركة ولكن قاتل الله الظروف
هنيئاً لكم تتنسمون هواء فلسطين التي لا بد أننا إليها عائدون
أتوقع دائما زيارتكم
أبو خلدون