أبو خليل إبراهيم حسين حصيرمِي الفرجاوي مستعد للتنازل عن كل أملاكه مقابل العيش تحت خيمة في
"أم الفرج"
في قرية المزرعة التي تحتضن بغالبية سكّانها مهجّرين من 12 قرية فلسطينية مهجَّرة لم يبق منها سوى المقابر وأطلال البيوت والمساجد، هدمتها إسرائيل ولكنها لم ولن تستطيع هدم ومحو ذاكرة سكان هذه القرى وحنينهم لبلادهم وحقهم في العودة إلى أرضهم وأملاكهم لتشييد ديارهم من جديد.
أبو خليل رفض اعتذاري
في قرية المزرعة التقيتُ مع إبن قرية أم الفرج المهجّرة إبراهيم حسين ياسين حْصيرمِي (أبو خليل) 73 عامًا، ذهبتُ إليه دون سابق موعد في ساعات قيلولة الظهيرة، فتضايقتُ كثيرًا لأنني كنتُ السبب في إيقاظه من النوم فاعتذرت له عن ذلك، لكنه لم يقبل اعتذاري، بل ارتسمت على وجنتيه ابتسامة عريضة وقال لي: ولا يْهِمَّك أنا اللي بدّي أشكرك لأنك بذلتْ هذا المجهود لنتحدّث عن بلدي والحقّ المسلوبْ.
اخترنا الجلوسْ في ساحة بيته التي تقع في ظلّ قناة المياه القديمة العهد المبنية بالحجارة على ظهر قناطر وتمتد من عَينْ الكابري حتى قرية النهر المهجّرة، إلى أم الفرج إلى المزرعة ثم السميرِيِّة المهجّرة وتمُرّْ من الجهة الغربيِّة لقرية المنشيِّة المهجّرة وتصل إلى مسجد الجزّار في عكا.
مستشفى نهريا على أرض إم الفرج
قلت:إحكيلي عن أم الفرج وشو بِقي منها؟... أبو خليل: ما بقي من البلد إشي، حتى مقبرة القرية جرّفوها، والمسجد مسحوه وهدموه نهائيًا قبل سنتين فقط. على أنقاض أم الفرج بنيت مستوطنة (بن عامي) وتقع بالضبط شرقي مستشفى الجليل الغربي – نهريا وحتى مستشفى نهريا اليوم قائم على أراضي البلد. حجارة الجامع وبيوت القرية حتى سرقوها بدون أي رحمة لدرجة ما بتقدر تلاقي أثر لأي معلم من معالم بلدنا.
قلت: أنت وُلدت في أم الفرج، شو بتتذكر من طفولتك القصيرة قبل التهجير؟... أبو خليل: إحنا طبعًا كنا فلاحين ونعتاش على الزراعة مثِلنا مِثِل باقي لِبلاد، إم الفرج بلد صغيرِة ما بِصَلْ عدد سكانها 800 نسمة، الغالبيِّة ملاكين ويعتاشونْ على الزراعة بجميع أنواعها، كروم وبساتين الفواكه والحمضيات على مَدّْ عينَك والنظر، وكَمانْ الخُضار على أنواعه، ومشهورة بزراعة قصب السُكَّر. كثار من أهالي القرى المجاورة كانوا يِشتغلوا ويِترَزّقوا عند أهل بلدنا.
بالله عليك فوت خُذلك شوية خُضرَة لولادك
قلت: إحْكيلي عن حياة الناس اليوميِّة... أبو خليل: كانت الناس تحترم بعضها بشكل غريب، على سبيل المثال، كان اللي يزرع بندورة، يفوت على جيرانُه يعطيهن شوية خُضرَة، طبعًا كل واحد حسب شو زارِعْ، بندورَة، خيار، بيتنجان ألخ..، حتى عابر السبيل اللي كان يُمرُقْ ويقول يعطيكو العافية، ينادوه: بالله عليك فوت خُذلك شوية خُضرَة لولادك.
أبويْ كان يِملُك 40 دونم رُمّان، عِشرين دونم مشمش، هذا غير الحمضِيّات، عايْشين ومبسوطين ومش ناقصنا إشي.
عِنّا بإم الفرج كنّا نزرع قصب السكّر، لما نعمل الشايْ نجيب القصبِة ونُعصُرها بْقلب الكبايْ ونشرب واللي أشطر منا بمصّْ قصب السكر الواوي، كان يمسِك القصبة عِلوها مترين وينزلها عالأرض، ينام على ظهرُه ويمُصّ فيها، نزرع كمِّيات ويربطوه رَزمات ونوخْذُه عالسوق نْبيعُه.
الزيب في المرتبِة الأولى وإم الفرج الثانْيِة
قلت: إوصِفلي موقع إم الفرج؟... أبو خليل: بلدنا تقع جنبْ الشارع الرئيسي نهريا ترشيحا، هذا الشارع على زمن إلإنجليز كانو يِسَمّوه شارع (البَخْشيشْ)، يِمُرّْ من أرض إم الفرج، كان ملتوي بشكل لولبي، وِاللي كان بَدُّه يُهرُبْ من خِلالُه يِدفَعْ شويِّة قْروشْ ويِنْفِذْ حتى يِصلْ لَلكابْري ويُمزُط. وجود إم الفرج جنب الشارع ساعدها على ازدهار التجارة وغنى أهلها.
رغم عدد سكانها القليل، كانت أراضي إم الفرج الواسْعَة تْحِدّْ الكابْري والغابْسيِّة والنهر، ومن ناحيِة مساحة الأراضي كانت الزيب في المرتبِة الأولى وإم الفرج الثانْيِة، إلزيب كانت تُعْتبر الأولى لأنها تملُك بِخيراتها ومصادر رِزقها من جهة البحر ومن جهة البرّْ، يعني لو ظَلّت الزيبْ لليوم كان ممكن يكون فيها أكبر ميناء على ساحِلْ لِبلاد. وَفْرِة المياه كانت تْساعِدْ بلدنا على تطوُّر الزراعة، الينابيع بكل زاوْيِة، نبع التّْلْ ونبع الفُوّارَة ونبع عين العسل، وكان في قناة تيجي من أرض التلّ وقريِة النهر وتِسقي بساتين إم الفرجْ كُلّها. بعض الناس كان عِندْهِن في أرضهِن نبع خاص إلهن. كنت أسمع من لِكبار إنُّه إم الفرج كُلّْها قاعْدِة على بُحيرَة .... سكت أبو خليل وهزّْ راسُه وقال: شو بَدّي أقُلَّك، ميِّة إم الفرج كانت مثل لِكريستال، قَدّْ ما هي طيْبِة وِنظيفِة. كان في واحَدْ يِسَمّوه (العَدّان)، يِسْقي أراضي المُزارعين حسب الدور، كانت قناة الميّ اللي بْتِطلَع من الكابري تِسقي كل لِبلاد حتى عكا. القناة كانت تصل لَبِرْكِة تحت جامع الجزار وتشرب أهل عكا منها.
المائدِة إلها أصول
وتابع أبو خليل: شو بَدّي أقُلّك، الناس كانت تِشتغِل ومِرْتاحَة، يِشربوا من ميّة البلد ويوكلوا من زراعِة إيديهِن مزروعات بلديِّة وأكل طبيعي صِحّي، مش مثل اليوم أغلب الأكل اصطناعي وعالأدويِة الكيماويِّة، أكلنا كان من الأرض للمطبخ.
على سيرِة الأكل، قبل فترة قصيرِة أجت صبيِّة تبيعني كتب، عزمت عليها توكل إشي، قالت: شكرًا يا عمّي إسّا أكلت ساندْويِشْ، قُلتِلها: هاذا اللي قُلتيه فيه قلِّة إحترام للأكل والمائدِة، لأنُه المسيح عليه الصلاة والسلام... قاطعتني الصبية وقالتلي إنها مسيحية.. قُلتلها: لما مشي المسيح وجماعة من اللي آمنوا فيه بالوعَر، ربنا بعثلُه ثلاث أرْغُفِة (كماجات)، وِبقُدرِة الله الكل أكل منهن وشِبِعْ وبِقي وراهُم، هاي هي المائدِة وأصولها. زمان لما نقعُد نوكل كنا نترَبَّع عالأرض وما حدا يبدأ يوكُل حتى الأبو يقول بسم الله الرحمن الرحيم ويكل أول لقمِة، والكل يوكلوا من صحن واحد ويقوموا شبعانين... الساندوِشْ عنّا كان إسمها (عروس) يا بنتي.
كان للكبار هيبِة واحترام
وتابع أبو خليل: البلد كلها كانت حارة وَحَدِه، أسماء عائلات البلد كانت: دار حْصيرمي، دار دْرازْ، دار القُطّْ، دار هويدي، دار العدَوي، دار أبو صبري، دار عبد العال، دار عْلَيّانْ، دار الحَلاّقْ، ومُختار إم الفرج كان من دار شحادِة. أقرب بلد علينا كانت النهر والتَلّْ... قلت بْتِعرِفْ قصص من حياة الناسْ؟.... أبو خليل: إلصراحة كانت علاقِة الناس مع بعضها ممتازة، إحترام وكرم وموَدِّة حتى مع الجيران من القرى المجاورِة، مُشاركِة في الأفراح والأتراح، والمشاكل قليلِة. كنت صغير، وبذكُر كان للكبار هيبِة واحترام، يعني لمّا واحد كبير يِلاقيني بالطريق، عن بُعدْ عِشرين متر أصير أفكِّرْ كيف ممكن أطرح عليه السلام. حتى لو شخص ضرب ولد صغير، كان الولد يِخاف يِقول لأبوه، أحسن ما يوكُلْ قَتلِة ثانيِة، لأنُه ساعتها الأبو بِقول، أبصر شو إبنُه غِلِطْ حتى تْسبَّبْ لَنفسُه بْقتلِة.
كانتْ الدايْ تْمَرِّجْ الولد المريض وتِكْويه في مكان الوجع
قلت: كان في مدرسِة بإم الفرج؟.... أبو خليل: كان في مدرسِة ابتدائية زمن الإنجليز، بس ما لْحِقْتها، وفي سنة 1950 بعد الاحتلال، كنت أمشي من إم الفرج مشي على الأقدام عَشانْ أتعلّم في مدرسة المزرعة... قلت: ولما كان الولد يمرض كيف كانت الحِكْمِة؟... أبو خليل: لما يمرض الولد كانت إمُّه توخْذُه عند الدّايْ، سِتّي لبيبِة إم أبويْ كانتْ الدايْ، تيجي تْمَرِّجْ الولد وتِكْويه في مكان الوجع. أنا مثلاً في ثلاث كَيّاتْ في بَطني. وكان في دَكتورين في نهريا، واحد إسمُه نتان، كانوا فاتحين عيادِة وين بنايِة البريد اليوم وهالمُقتدرين يِروحوا يحَكّْموا ولادهن هناك وكان الدكتور خازن في عكا، وكانت الإمّْ لما يمرض إبنها وما يْطيب توخْذُه عند مَرَة تِرإيه (تقرأ على راسُه قرآن أو أحاديث)، وإذا نِزلوا بَنات ذِنيه تْجيبلُه بيضَه تْزَلّْطُه ايّاها ويِبْلَعْها. إليهود بدأوا بناء مستشفى نهريا على أراضينا قبل ما نِطلع من إم الفرج. بعرِف قسم من الأرض اللي قاعدِة عليها المستشفى لإبن بلدنا شحادِة أصلان صحتُه اليوم مش ولا بُدّْ اليوم الله يِشْفيه وما بِطلع من البيت.
صَفّْ الحَوَلّوم مِسطَرَة حَطّات وعُقُلْ وشَمْلاتْ
قلت: وكيف كانت الأعراس في إم الفرج؟... أبو خليل: كانت حِلوِة كثير، كانوا الأسديِّة أبو سعود وأبو غازي والريناويِّة ييجوا على إم الفرج يحيوا الأعراس. بذكر أبو سعود وأبو غازي غنّوا بْعُرسْ عمّي محمد، حتى بتذكّر جَرِّة الأووووف تْرِنّْ رَنّْ ولا في زَيّْها في هذاك الوقت. كان كل واحد من البلد يجيب اللُّكسْ معاه من البيت. صَفّْ الحَوَلّوم تشوفُه زَيّْ المِسطَرة، كُلُّه حَطّات وعُقُلْ وشَمْلاتْ وضَرْبِة الكَفّْ طَقْعَة وَحَدِه، بدون فوضى ولا دَوْشِة، بعد الحولّوم تُنصُب الشباب الدبكِة الشعراويِّة على صوت المجوِزْ والشُبّابِة وأغاني جَفرا وعلى دلعونا. الزلام لَحالْ والنسوان لَحالْ. بالنهار تيجي النسوان توخُذ العريس وِيْزِفّوه، والكلّْ يتغذّى ويروِّحْ.
بالنسبة للنقوط، كان ييجي الضيف أو إبن البلد يحُطّْ ايدُه بإيد العريس باللي الله ييسِّر ويقول مبروك، وحتى العريس يحط المصاري بجيبُه وما كان يعرف قدّيش النقوط.
قعدنا عند أبو نجم بيركا سنة كامْلِة
قلت: بعرِف إني بمثل هاي اللقاءات بَفَتِّح للجروح يابو خليل ما تآخذني؟.... صفن أبو خليل وقال بحسرَة: شوف، صرلي أكثر من ستّين سنِة هون في المزرعة، إسا يِصِحِّلّي أرجع عإم الفرج، بَعطيهِن كل ما أملُك وبَعيش تحت خيمِة.
قلت: بأجواء هايْ المعيشة الهنية في أم الفرج أجا موشي ويتسحاك وقالولْكوا يلا من هون هاي الأرض إلنا شو اللي صار في الـ48؟... أبو خليل: لما أجت تركيا عفلسطين كانت الأرض مشاع وقسّمت الأراضي على الناس وسجّلتها بما يسمّى اليوم بـالطابو. وكل دولِة بتحتلّ، طبعًا بدها تحاول طرد الناس من أرضها وسلب ملكيتها بالضبط مثل اللي بعملوه اليوم مع عرب النقب، بِجمّعوهن بمنطقة وحدِة وبوخذوا أراضيهن.
في الـ48 مثل غيرنا، صارت تصل الإشاعات إنُّ اليهود بالطريق عإم الفرج، قسم من الناس هرب على لبنان. أبويْ حسين حصيرمي، أخذنا وطلع على يركا عند واحد بِقولولُه (أبو نجم) واحترمنا كثير، قعدنا عِندُه سنِة كامْلِة بيركا وبفضل أبو نجم بقينا في لِبلاد... بذكر في سنة النكبِة كانت سنة خير من ناحية المطر، لما كنت أفوت بين الزرع ما أبيِّن، كان ييجي أبوي من يركا على زَرِعنا في إم الفرج يوخذ شوية بصل أو بطاطا ويرجع.
إسا جايْ تِبكي هون؟ إنتي بُكرَة رايِحْ وشو أقول أنا اللي الأرض كل يوم بْوِجهي
قلت: ما اصطدمت بحدا من اليهود اللي استوطنوا على أرضكو؟... أبو خليل: أنا معتاد أسبوعيًا أمشي وأمرق من طريق أرضنا في إم الفرج، حتى صاروا اليهود اللي ساكنين على أرضنا يعرفوني ويعرفوا قصتي. بذكر مرّة كنت ماشي في أرضنا ولاّ واحد يهودي إسمُه موشي بنادي عليّْ أشرب قهوة. قعدت عِندُه، بِقُلّي: إبراهيم أنا بَشوفَك دايْمًا زعلان ومهموم كثير، بعرف إنُه هايْ الأرض إلك، بس أنا ما بقدر أعملك إشي، هذا شغل حكومِة وأنا مواطن ما تآخذني.
بذكُر مرّة أجا إبن عم أبويْ ياسين حصيرمي من لبنان من مواليد إم الفرج (أكبر منّي)، قللي يا قرابِتنا خُذني على أرضْنا (إسمها الحَمْرَة) في إم الفرج، رُحنا وقَّفنا بين المشمش والرُمّان وفجأة أجا علينا اليهودي اللي ساكن على أرضنا ومستولي على كْرومنا، حامِلْ العصايْ وهاجم، بسّ شافني قللي: أهلااااان ابراهيم، قُلتِلُّه: هذا إبن عمّ أبويْ وجايْ يزور الأرض ويْشوفْها، قال: فوت أٌقطُف شويِّة أبوجادو للبيت، طبعًا رفضت.. كَمّلت أنا وإبن عمّ أبويْ باتجاه أرضهن (الحمرَة). وَقّفنا حدّ تينِتهِن، قللي وين دارنا؟.. قلتِلُّه: هون بيتكو.. قال: مش مزبوط وشو العلامِة؟..قلتلُّه: بْتُذكُر كان هون نبع وقناة ميّْ؟ قال: آه، قلتلُّه: بْتُذكر هناك كان في جسر باطون؟ قال آه، قلتِلُّه: وهون كان في شجرة توتْ جنْبْ الجسر كان جِبّْ غابْ (قَصَبْ)؟ قال آه، قُلْتِلُّه: وكانت هايْ القناة تُمرُق من جنب لبيوت؟ رفع راسُه لفوق ورغرغَتْ عينيه بالدمع وصار يبكي وقال: يعني بَدَّك تقُلّي إنُّه هايْ الدار اللي مسكَّرة بالباطون دارنا؟، قُلتِلُّه: إسا جايْ تِبكي هون، إنتي بُكرَة رايِحْ وشو أقول أنا اللي الأرض كل يوم بْوِجهي؟!....قلت: أنا جدًا بتأثّر لما بسمع هايْ القصص كيف بتكون مشاعرك لما تزور إم الفرج؟... أبو خليل: شو بدّي أقُلّك، إنتي بتسمع هاي القصص بس إحنا عِشناها.. كل ما أزور البلد بصير راسي يوجَعني، أنا بعرف حدود أرضنا شبر شبر، ألله بصبِّرنا.
كنّا يمكن آخر ناس بفلسطين بِطلعوا من بلدهن
قلت: بعد سنِة بيركا حاول أبوك يرجع عإم الفرج؟... أبو خليل: نعم، رْجِعنا عإم الفرج، وعْمِلنا وْراق نفوس وقسايِم، بِقي في البلد بس خَمس عائلات بذكر منهن: عائلة والدي حسين حصيرْمي، عائلة أبو قاسم عبد العال، عائلة من دار أصلان، عائلة من دار دْرازْ، بقينا بأم الفرج لغاية 1953 بعد قيام دولة إسرائيل، صار في محاكم، عرضوا علينا نبدِّل أرضنا وما قْبِلنا، حَمّلونا وجابونا عالمزرعة، جابولنا اليهود بَرّاكيات وسكنا فيها، كنّا يمكن آخر ناس بفلسطين بِطلعوا من بلدهن... وكل فترة يهدموا منها شويّ، واليوم تقع عليها مستوطنة بن عامي وعمارات فاخرة... قلت: وكملت تعليم بالمزرعة؟... أبو خليل: تعلّمت للصف الرابع بسّْ في المزرعة أبويْ كان ضعيف البُنيِة ولازم أساعدُه في الشغل في الفلاحة، وتوفّى سنة 1973. وهاي هون إخوتي السبعة عايْشين حوالي بعض في المزرعة وإلي كمان سبع أخوات. إلي عمّ واحد مات في إم الفرج سنة 1950 وباقي أقاربي وأهل بلدي طِلعوا على لبنان بعد النكبِة.
الفَراجْوِة شرابين شايْ إسود مثل الدِبِسْ
في هاي اللحظة دخلت إبنة أبو خليل انتصار. سألت أبو خليل: ليش سَمّيت بنتك بهذا الإسم؟... أبو خليل: في الـ67 بعد الحرب بأسبوع خلّفت العيلِة بنت، أجت وحدِة يهوديِة بِتِسألني: شو سمّيت البنت؟ قُلتِلها: إنتصار... قالت: ليش يعني انتصار؟، قُلْتِلّْها بسخريِة وألم: لأنها دولِتنا انتصرت... قلت: هذا الجواب لليهود وللعرب شو كنت بتقول؟... تناولت الحكي انتصار وقالت: كان عِندُه أمل بالإنتصار وتحقق أملُه بالـ73... إنتصار: شو بِتحبّوا تِشربوا؟ قلت: بلاش بلاش، شربنا قهوة وكل شي... إنتصار: طيِّب شايْ.. قلت: ممكن بسّ بدّي شايّْ على نمط شاي إم الفرج... أبو خليل: شايْ إم الفرج ما بْتِقدر عليه، القهوِة أهون منُّه ومشهور، شايْ إم الفرج ثقيل إسود مثل الدِبِسْ، بقولوا إنُه منبَعنا من صعيد مصر والله أعلم،. بذكُر وانا طفل، نكون نزرع، ييجي النَكّاش اللي بُنْكُشْ الأرض يِرتاح مع سيجارة عربيِّة، نولِّع هالموقَدِة وندهن الإبريق بالوحلِة عشان ما يِنحرِقْ، ويشرب كبّاية الشايْ وهو عرقان بِطقِّة الشوبِة. وطبعًا كان معروف إنُّه المشروب الساخن بِطَفّي الشوبِة بِعكس البارد المتّبع اليوم، بعدها يلتقِحْ النكّاش وينام نص سيعَة ويقوم جسمُه مثل الحديد. عشان هيك كانوا يقولوا زمان إنُه الفَراجْوِة شرابين شايْ.
عليّ الطلاق ما عُدتْ أبيع ولا شبر أرض
قلت: بتحب تقول إشي في ختام هذا اللقاء؟.... أبو خليل: مَرّة كان عِندي قضية عند المحامي عبد الرحمن الزعبي، لاقيت عندُه خْتيار.. بَقُلُّه: شو مُشكلتك يا خْتيار؟.. قال: والله في عندي شوية أرض بَدّي أبيعهن.. قلتلُّه: قدّيشْ يعني دونم دونمين؟.. قال: شو دونمين، عِندي حوالي ألف دونم.. قُلتِلُّه: إنتي متجوِّز؟.. قال: آه، عندي اولاد متجوزين وأحفاد بدّي أبيع الأرض وأعطيهن المصاري.. قُلتِلُّه: بعد ما تبيع الأرضيات بهذا الجيل والله يوخذ وداعتك بعد عمر طويل المصاري بِصِرفوها بسرعة وبتطير، ليش ما بتروح وبتقسِّم الأرض على لِولاد، لأنّه الأرض بْتبقى إلهن ولنسلهن للأبد؟.. قال: إطّلع هالزلمِة فِيّي وقلّي: يا عَمّي من وين الله جابك إلي اليوم، أنا مروِّح، عليّ الطلاق ما عُدتْ أبيع ولا شبر أرض. يا عمّي ما حدا إلُه إشي بهالدنيا، بِتلاقي الناس بْتِتْقاتل على سنتمتر واحد وبالآخر المتنازعين بنزلوا تحت ترابها وما بوخذوا إلاّ أعمالهِن.
بقول إنُّه كل إشي بوَقْتُه منيح. وبآمن بإنُّه ممنوع البيع أو التفريط بالأرض، لأنُّه ما بضيع حقّ ووراه مطالب، وما بِضيع حقّ ما دام الطابو بالإيد، ما تبيع ارضك لأنُّه ما في شي بالدنيا بِدوم إلا وجه الله.
صحيفة الحقيقة