انا من مواليد قرية خُبيزة سنه 1940. يعني لما تهجرنا منها كان عمري 7 سننين وكنا بالبيت أنا وأبوي وأمي وثلاث أخوة وثلاث أخوات. بلدنا كانت بمنطقة اسمها بلاد الروحا وفيها كان كثير قرى، قسم منها تهجّر وقسم بقي. ببلدنا سكنت عدّة عائلات منهم أبناء سْـليط ومنهم أعمامي عباس وخليل وصالح ومصطفى ومنصور. وسكنوا فيها كمان أبناء الباقاوي، إبراهيم وخليل وعلي الباقاوي، سكنوا فيها كمان ناس من يعبد، منهم فارس النجار، وسكنت فيها عائلة خليل الحبيطي من أم الفحم وحسين البطيخ من باقة الشرقية. عبد القادر الحاج حسن كان هو آخر مختار للبلد قبل ما تهجرنا.
مياه
مساحه بيوت القرية حوالي 11 إلى 12 دونم. أراضيها ما يقارب 5 آلاف دونم. عدد البيوت فيها كان بين 40-45 بيت. معظم البيوت كانت مبنية من حجر وطين. أما عدد سكان القرية فكان حوالي 300-350 نفر. كان فيها من العيون، بير محمد هذا كنا نستعمله للطرش، الميّ تبعته بتنزل على النزازات، منطقة قريبة من أم الشوف، وعلى العين الغربية، هاي العين كانوا يزرعوا عليها بساتين. كان عنا كمان بير أبو حجوة قريب من الكيبوتس [جلعد]، هذا كان للشرب. كان بالبلد كثير ينابيع ، وعنا عين العسل، والوادي الشمالي وعين العرايس وعنا عين الفحرور. كان في ما يقارب 10 أو 11 عين. منطقة الروحا كانت غنيّة بالميّ.
زراعة
البلد كانت مليانة شجر زيتون وكان عنا شجر رمان وتين ولوز. مساحة كبيرة من أراضي بلدنا كانت مخصصة للحبوب مثل الحمص، الشعير، القمح والذرة. النسوان كانت تروح تغمّر القمح لما يحصدوه، وتحلب البقر وتعمل أجبان وتعمل كل شغل الدار، والرجال عليهم الحراث والدراس والحصيدة وكل شي ثاني. يعني أهل البلد كانت عايشة من الزراعة والمواشي وما كان في بيع وشراء، الناس كانت لبعضها، اللي معتاز يوخذ من جاره. أبوي وأعمامي كان عندهم حوالي 100 راس غنم و 7 أو 8 روس خيل. كان عنا حوالي 20 - 30 راس بقر، وكانوا يملكوا أربع بيوت، وغرفة بنيناها جديد من باطون. يعني وضعنا، وضع مسعود إبراهيم وإخوته كان فوق الريح. هاي المواشي ظلت عنا لحد ما تهجرنا وقعدنا بكفيرت (قرية فلسطينية تقع غربي جنين قرب يعبد، ما زالت قائمة حتى يومنا هذا). لما طلعنا لهناك ما كان محل للبقر والغنم، ساعتها أخذ أبوي وأخوته الطرش وباعوه بطولكرم.
جيران يهود
قبل النكبة اشترى أبوي وأعمامي تراكتور جنزير لحراثة الأرض وماتور ميّ. بهاي الفترة كانت الناس عم تتقدم. وكان أبوي يعطيه للناس بالإيجار وبغير إيجار. كان جنبنا كيبوتس لليهود اسمه جلعد، هذا الكيبوتس موجود من سنه ال- 45 وبسنوات السبعين 70 تغيّر اسمه لإبن يتسحاق. كانت علاقتنا معهم كثير قريبة وكنا نحكي معهم بس عربي. وكانوا كثير مرات يطلبوا التراكتور والماتور من أبوي وبعد ما ينهوا عملهم يرجعوه. قبل ما طلعنا من البلد قالوا لنا أعطونا الماتور وبس ترجعوا بتوخذوه. أعطيناهم إياه وقلنا لهم التراكتور موجود بكفر قرع، بتقدروا تجيبوه وتخلـّوه عندكم. كانت علاقتنا معهم كثير قوية ولما طلعنا قالوا لنا خليكم، إحنا بنحميكم. بس احنا طلعنا من خوفنا على النساء والبنات والعرض وخصوصاً بعد اللي صار بدير ياسين.
تعليم
بالبلد ما كان مدرسة، بس بسنة 1947 فتحوا مدرسة مشتركه بقرية أم الشوف، وتعلم فيها أولاد من قريتنا ومن أم الشوف. بذكر جابوا معلم يمكن من إجزم أو عين غزال. بس بعد كم شهر صارت الحرب وسكرت المدرسة. بالمدرسة تعلمنا حوالي عشرين ولد. يعني مثلاً أنا وأولاد عمي وأولاد خالي تعلمنا فيها. كنا بس أولاد، لأنه البنات كان عيب تتعلم. كنا نكتب على تنكة الكاز، نقسمها أربع شقف ونعمل منها لوح ونكتب عليها قرآن. قبل ما فتحوا هاي المدرسة كان الأولاد يتعلموا عند المشايخ في البلد.
نكبة
القرى اللي كانت حوالينا بزمن فلسطين هي: من جهة القبل قرى قنّير وعارة وعرعرة وكفرقرع، ومن الغرب أم الشوف، صبّارين والسنديانة، من الشمال دالية الروحا، الريحانية، أم الزينات، دالية الكرمل وخربة الكلبة. من الشرق كانت البطيمات ومعاوية والكفرين. معظم القرى تهجرت. بمنطقة الروحا تهجّرت 32 قرية. أهل خبيزة، قسم منهم موجود بالضفه الغربية، بيعبد وبقفين وبالنزلة الشرقية، قسم بطولكرم ورام الله وقسم بمخيم جنين ومخيم الفارعة، قسم تهجّر على سوريا وعلى الأردن بإربد وعمان والكرَيّمه والأغوار والرصَيفه والزرقاء. وقسم بألمانيا. يعني أهل خبيزة مشردين بكل البلاد. اليوم العلاقة بينهم قليلة، بس أقوى إشي العلاقة مع الضفة لأنهم قراب علينا.
احتلال القرية
قبل ما سقطت البلد طلعوا مندوبين من قرى الروحا حتى يجيبوا سلاح من سوريا. من خبيزة طلع أبوي مسعود إبراهيم، من الكفرين طلع شاكر أسعد الغول، ومن أم الشوف كامل الحاج محمود صباح، وطلعوا من السنديانة وصبارين، وعارة وعرعرة وكفرقرع وأم الزينات وطيرة حيفا وغيرهم. من كل بلد طلع واحد، وقعدوا حوالي 3 أشهر، راحوا على سوريا ولبنان والعراق ومصر. كان في واحد اسمه محمود الماضي من الهيئة العربية العليا من إجزم، كان ساكن بسوريا وعن طريقه جابوا سلاح من سوريا. السلاح اللي جابوه كان نوعه طلياني، وكان عبارة عن بارود وفشك. هذا محمود الماضي عزم الرجال عنده وعملهم عشاء وقال لهم "وداعا يا فلسطين". سألوه ليش هيك بتحكي؟ فقال لهم لأنه في مؤامرة كبيرة، وأحسن لكم تقعدوا وتتفقوا مع اليهود وما تطلعوا من البلد. بعد ما رجعوا الرجال عملوا اجتماع بطيرة حيفا، بس ما اتفقوا وقالوا كل بلد تقرر مصيرها لحالها. ببلدنا اجتمع أهل خبيزة وكمان هم ما اتفقوا، وساعتها أبوي وأعمامي أخذونا إحنا الأولاد والبنات والنسوان وأخذونا على قرية ظهر المالح، قرية تابعة ليعبد، قعدنا هناك حوالي شهر، وكان كل ليلة واحد ييجي ينام عندنا. بالبلد بقي الشباب والختيارية ونسوان كبار والمواشي.
بذكر بيوم كان أخوي وابن عمي بيحرسوا أرضنا. كان عنا أرض كبيرة بين خبيزة وأم الشوف، زرعناها حمص وكنا نجيب عمال يعشبوا الأرض ويتشغلوا فيها، وأخوتي يسهروا كل ليلة يحموها. مرة وهم سهرانين سمعوا واحدة بتبكي. راح أخوي يفحص الموضوع وقال لابن عمّي امشي وراي واحميني لانه خايف يكون هذا كمين. لما وصل عند العين الغربية، شافوا مرَة بتبكي، سألوها شو صار؟، قالت لهم احنا شردنا من بلدنا، ولما وصلنا عند عين أم الشوف طخّوا علينا ناس وهربنا، ووقعت ابني ومش عارفة وين هو. عين أم الشوف كانت معروفه انها مصيدة، كان فيها زعران كثير يطخوا على الناس الشاردين والهاربين، والناس كانت تخاف وتهرب وهم يسرقوا أغراضهم. المهم راح أخوي وابن عمي على العين ولاقوا الولد، ورجّعوه لأمه وأخذوها لعند عارة.
ببلدنا كان إطلاق نار بس مرّة واحدة ولمدة قليلة، وما حدا تصاوب. يومها أجوا اليهود وصاروا يطخوا علينا وحوالي عشرين شاب من عنا صاروا يطخوا عليهم بالسلاح اللي جابوه من سوريا، جبنا حوالي 70 بارودة. بس طبعاً الشباب لا مدربين ولا إشي. يومها أنا كنت بعدني بالدار وكنت قاعد بالاوضة الجديدة اللي عمرناها وكنت أسمع الطخ.
تهجير ولجوء
بعد ما طلعوا من عنا، صرنا نسمع صوت الرصاص كمان من قرى أم الشوف وصبارين والسنديانة. يعني كانوا يدخلوا على كل قرية يطخوا عليها ويطلعوا. إحنا ظلينا صامدين بالبلد لحتى صارت معركة كفر قرع [تم احتلال كفرقرع في أيار عام 1948 على يد قوات الهجناه، واعتبرت معركة كفر قرع من المعارك الكبيرة والفاصلة في المنطقة]. بعد سقوط كفر قرع، تركنا ظهر المالح لأنه ما كان في ميّ هناك للطرش، ورحنا على قرية كفيرت. هناك أبوي كان يعرف شخص اسمه ناجي المصطفى اللي أعطانا غرف نسكن فيها. لما أهل بلدنا طلعوا، ما راحوا كلهم باتجاه واحد. يعني مثلا عمي عبد القادر طلع من البلد على أم الفحم لأنه مرته من أم الفحم، عمي عيسى مرته من الصوالحة من الجبارين فطلع لهناك. خالي طلع على باقة لأنه بنته كانت متجوزة بباقة. الناس تقسمت وتوزعت بالبلاد.
بعد بأشهر أجا أبوي على أم الفحم عند جماعة أصحابه، أم الفحم بعدها ما كانتش مع إسرائيل، وسمع انه العرب بدهم يسلموا منطقة المثلث لإسرائيل. أصحابه حكوا له: شو رأيك تيجي على أم الفحم، وممكن بعد بفترة ترجع على خبيزة؟. رجع أبوي عند أعمامي على كفيرت وقالهم الفكرة. عمي خليل كان عصبي شوي، قال له: يا مسعود، كل الوقت إحنا ما خالفناك، أما انه نرجع على أم الفحم وأشوف جبال الروحا قدامي، وما أدخلها؟ هذا مستحيل. رجعنا أنا وأمي وأبوي على أم الفحم، وثاني يوم دخلت اليهود أم الفحم. كان هذا بأيار 1949. وصار الحكم العسكري، وقالوا لنا انتو لاجئين وما لكم مكان هون بأم الفحم. بس ظلينا. يومها إحنا كنا بحارة الاغبارية فسجلنا بهويتنا انـّا تابعين للاغبارية، دار عمي عبد القادر كانوا بالمحاميد وسجلوا محاميد، عيسى الحاج حسن كان بالجبارين وسجل جبارين. واللي كان بالمحاجنة سجل محاجنة واللي كان بمعاوية سجل بمعاوية. ولأجل هيك ظلينا.
بفترة الحكم العسكري صرنا نطالب بلمّ شمل مع أخوتي اللي بجنين بس الدولة رفضت. يعني بعيلتي كل واحد ساكن ببلد. واحد بالأردن، وواحد توفى بجنين، واثنين منهم بالغور، وعندي أخت عايشة معي بأم الفحم. يعني من كل أخوتي أنا الوحيد اللي بقيت بأم الفحم. أنا عشت وحيد [باكياً]. يعني أنا مش بس تهجّرت، أنا كمان عشت كل حياتي وحيد. كنت لما أسمع واحد يقول خالي أو عمي أو أخوي كنت ابكي. ما خلينا اسم إلاّ أخدناه، سمّونا لاجئين ونازحين ومشردين، ولليوم بنسمعها من الجاهلين. أنا عشت بأم الفحم بين أهلي. الكل بيحترمني. ومع ذلك بسمع كلمة لاجيء. بعد حرب ال 67 كانت أول مرّة بتواصل مع أهلي، فرحنا انه النكسة صارت عشان نلتقي فيهم.
عودة
أنا زرت خبيزة بعد سنين من التهجير. ما بعرف ليش، يمكن إهمال او جهل. كل مرّة باجي على خبيزة بروّح فاقد عيوني من البكا. بتذكر أهلي وأخوتي. اليوم أنا بجيب أولادي وأحفادي. بس احنا الكبار بنحنّ أكثر. اللي ربي بهاي الأرض بيعشقها. من يومين اتصلت بابن عمي بجنين عمره 85 سنة، سألته سؤال أو سؤالين عن البلد، صار يبكي، وصار يترجى ويقول من شان الله خذني ع البلد. جبته لهون مرة أو مرتين، وكل مرة بيصير يبكي. ابن عمي هاذ كان هو أبو المنطقة، كان يلف كل منطقة الروحا وحافظها كلها.
اليوم ما بقي من القرية ولا إشي، البيوت هدموها وبقي بس أنقاض وحجارة. مقبرة القرية مهملة بس أنا بقدر أتعرف على قبر سيدي الحاج عباس، اللي هو أبو أمي، لأنه على زمن خبيزة طلعت على قبره شجرة الغار ومن يومها واحنا بنعرف قبره من شجرة الغار.
المصدر:موقع ذاكرات