جديدنا: وثيقة - مركز الوثائق الفلسطيني
مقابلة محمد خشان مع جريدة "السفير"
يصطنـع ذاكـرة فيمـا هـو صاحـب الأرض محمد خشان: متيقن من أنني سأعود إلى فلسطين إن لم أكن أنا فأحفادي عناية جابر محمد خشان كاتب فلسطيني يعيش في بيروت، صدر له عن «دار الجمل» كتابه الأول: «الخط الشمالي» يؤرخ فيه بلغة أدبية طيّعة وعفوية، ترتفع بها الذاكرة إلى مصاف النبع الأول والحقيقة الصافية، عن قريته في فلسطين، أي عن فلسطين ذاتها الوطن والأرض والأهل، في الوقت الذي تتعرض للسلب الكامل والإمحاء. عن «الخط الشمالي» وعن اللغة والمكان والحراك السياسي العربي، كان هذا الحديث مع الكاتب ÷ تكلّمنا قبل المقابلة، عن قصور اللغة، وعن عجزها رغم أهميتها، عن التعبير عن الوجدان، وجدانك الفلسطيني العربي. هل اللغة عاجزة عن التعبير عن الوجدان؟ } قد تكون مرّت مئات آلاف السنين حتى وصلت اللغة إلى المستوى الذي يقول فيه المتنبي: «أنام ملء جفوني عن شواردها..». ربما كانت اللغة أهم اختراعات الإنسان للتعبير عن تجاربه، ومع ذلك تبقى اللغة عاجزة عن التعبير عن محيط متلاطم من المشاعر والأحاسيس تدنو وتبتعد، ما ان نظن أننا أمسكنا بها حتى تفلت من أيدينا. ليتنا كنا في مقدرة طرفة بن العبد، الذي له من المفردات في وصف النوق فحسب ما يُشكل معجماً بذاته، فكيف للمفردات أن تأتيني أنا الذي أضاع وطناً. على كل تبقى اللغة إلى جانب الموسيقى والرسم والنحت والتصوير، هي الأكثر طواعية على التعبير عن الوجدان الإنساني. ÷ هل هذا الكتاب حصيلة عمرك وهل تتبعه كتب أخرى؟ } الكتاب حصيلة معظم عمري. فقد فلتت أحداث من الذاكرة وبقيت سنين لم أسجلها. الكتاب يبدأ بثورة 1936 وينتهي في سنة 2008، ونحن الآن في 2011، هناك ثلاث سنوات لا تزال مخطوطة وستلحق بكتاب «الخط الشمالي» مع مقالات متعددة. ÷ ما رأيك بكتاب عاموس عوز، وهل أثار شهيتك إلى رد بمثابة توضيح للانتماء الحقيقي لفلسطين؟ } أنا كنت ابتدأت بكتابة مذكراتي سنة 1998 ثم حدثت ظروف أوقفتني عن الكتابة حتى سنة 2006، فأكملت بعدها مذكراتي التي انتهت في 29 تشرين الاول 2008. قرأت كتاب عاموس عوز ووجدت فروقاً بين كتابي وكتابه. أنا أظن أن هناك فريق عمل يساعد الكاتب عاموس عوز، بينما مذكراتي هي وثيقة صحيحة رأيتها عياناً أو سمعتها بأذني. شعرت أن عوز يحاول أن يبني وطناً وأن يذكر تفاصيل دقيقة وكأنه صاحب الأرض. ومع كل جهده تلمس أن لا روح في الكتابة تربط بين المكان والرجل. كتابته تنقصها مصداقية صاحب الأرض. أما من الناحية الفنية فكتابته دقيقة وموسّعة وإبداعية بدرجة أولى. ولكن أشعر أن علاقته بالأرض ليس حميمة ÷ هذه وجهة نظرك، هل تعتبر كتابك بهذا المعنى سوف يلاقي صدى أطيب في آذان قارئيه؟ وماذا من الناحية الفنية؟ } أنا أعتقد أن كتابي هو رد على عاموس عوز. هو مهاجر يحاول بفنيته وقدرته على الكتابة أن يبني وطناً كما قلت لك، بينما أنا صاحب الأرض الحقيقي. وكل كلمة في كتابي، وكل شجرة ذكرتها تسلقتها، وكل بئر ذكرتها نزلت إلى أعماقها. ÷ أيضاً عاموس عوز ذكر تفاصيل شبيهة بهذه؟ } الفرق، هو الفرق عينه بين الأصيل والمقلّد. قد تخدعك ملمس ثياب مقلّدة وتشترينها على أنها حرير ثم تكتشفين أنها غير ذلك. ÷ لماذا «الخط الشمالي» وليس أي عنوان آخر؟ } لأني رافقت هذا الخط، وهو خط فعلي أي شارع يمتد من ساحل فلسطين، لنقل من عكا، ويتجه شرقاً. رافقت بدايات شق الطريق عندما وصلت إلى أرض قريتنا حتى نهاية تلك الأرض وهي في حدود 4 كلم. المغزى التاريخي هو مشاهدتي الجرافات التي تقتلع الأشجار في أرض قريتنا والألغام تفجر الصخور، والعمال يرصفون الطريق (بلوكاج). إذن هذا هو الشارع الذي مشينا عليه لآخر مرة بعد اغتصاب فلسطين وطردنا منها. أيضاً هذا الشارع حيث قضيت نصف عمري في فلسطين وأنا أكاد يومياً ألعب مع رفاقي في هذا الشارع وهو يقع على مدخل القرية. على هذا الشارع أمام مدخل القرية رأيت مجموعة من مقاتلي القرية وقد عادوا من معركة من معاركهم مع الاسرائيليين وشاهدت قتيلاً إسرائيلياً وراء شاحنة ثم شاهدت الكثير من الأمور التي توضح علاقتي الفعلية بتلك الأرض التي هي أرضي ووطني. ÷ أثناء كتابة «الخط الشمالي» هل كان هاجسك كتابة ما عشته من أحداث أم خالطك موضوع فنية كتابة رواية على الشكل الكلاسيكي الذي نعرف؟ } تركت القلم يجري على هواه ويسجل مخزون ذاكرتي وأحياناً كثيرة تكون الأفكار أسرع من القلم، أرى ذلك في كتابتي على الورق، فتجد كقارئ كلمة ناقصة حرفاً أو مقطعاً فأفكاري كانت أسرع من يدي. إنما الذي كنت أواجهه هو الكتابة بالفصحى والعامية. والكتاب مزيج من الفصحى والعامية. عندما أنقل كلاماً لأحد أو أغنية شعبية أو رواية سمعتها باللهجة العامية أنقلها كما هي لأنني لاحظت أنني في محاولتي كتابتها بالفصحى تفقد أهميتها ومصداقيتها. ÷ إذن كان هاجسك لغوياً فحسب؟ } لم يكن عندي هاجس مدرسة روائية فنية معينة على رغم دراستي لهذه المدارس كلها. ÷ لمن كتبت الخط الشمالي؟ } كتبته لكل الأعمار ولكل المستويات. كتبت كتاباً على ما أظن يقرأه المثقف فيجد فيه شيئاً كما الإنسان العادي يجد فيه شيئاً، وأبرز ما فيه تلقائيته وعفويته وترك القلم يجري على سجيته. أحياناً كنت أتذكر أحداثاً في فلسطين وأقول في نفسي سأسأل عنها فلاناً ممن يكبرني سناً فأجده قد مات. ثم وجدت أن معظم من في سني من رفاق المدرسة قد غادروا الحياة وكنت أقف متأملاً وخائفاً أن أموت ولا نترك لأولادنا وأحفادنا ذاكرة. أعتقد أن هذا هو هاجسي. ÷ هل ما زلت تأمل في فلسطين؟ } فلسطين ليست إبنة اللحظة الآنية أو الأحداث العابرة، هي فلسطين في تاريخها وعظمتها. أنا لست فحسب متفائلاً، بل أنا متيقن ومتأكد أنني سأعود إلى فلسطين. إن لم أعد بجسمي نفسه فستكون العودة لأولادي وأحفادي. هذا لا شك فيه. ÷ ما رأيك بالحراك الثوري العربي إذا صحّ التعبير وانعكاساته على فلسطين التي موقن من العودة إليها؟ } الحراك العربي كإقامة بناء تسمع فيه ضجيج الآلات ونقل المواد وإثارة الغبار، فلا تتبين، وعليك ان تنتظر حتى يكتمل البناء. أنا أخشى أن هذا الحراك العربي حتى اللحظة، ليس هو المخلص او النهاية بل أشعر ان هناك استمرارية حراك، حتى تستوي الأمور على وجهها الصحيح وستبقى فلسطين ضمن هذا الحراك الآني والمقبل هي البوصلة وهي المقياس. ÷ ما الذي تأخذه على هذا الحراك او الربيع العربي؟ } منذ البداية لاحظت شباباً في مقتبل العمر يملأون الميادين ويرفعون شعارات عظيمة وكبيرة، وتمر الأيام ولم أر المثقفين والقادة والساسة والذين كانوا يملأون الشاشات لم أرهم في الميادين، وتُرك الشباب ينجزون مهمة التغيير، ثم أراهم أخيراً وكأنهم نبتوا هكذا واحتلوا المواقع الأمامية، أحزاباً وشخصيات. التغيير لم يكتمل بعد. وهذه جولة من الجولات حتى يجد الشعب العربي طريقه. ÷ في العودة إلى كتابك «الخط الشمالي» وجدت كما لو دلالة ما، جعلت من فلسطين في هذه البقعة من الأرض. هل من فلسفة للمكان برأيك؟ } عبقرية المكان أو فلسفته، هي التي أعدت وهيأت فلسطين لتقوم بدور بالغ الخطورة وفائق الأهمية في تاريخ البشرية. الناظر إلى فلسطين يرى أنها صلة وصل بين قارات العالم القديم، وهي على صغر مساحتها تشبه قارة مصغرة وعلى هذه الأرض المباركة أقيم بيت المقدس أو القدس الشريف وهي مدينة الأنبياء وعاصمة الأرض والسماء. فلسطين هذه، والتي على أرضها عاش ومات وصعد إلى السماء معظم الأنبياء، هي أرض بالغة الأهمية بموقعها وتطورها وتاريخها وكانت هدفاً لأطماع الغزاة. الناظر إلى التاريخ العربي الإسلامي يرى أن المعارك المفصلية إنما حدثت على أرض فلسطين، ونحن الآن نواجه غزوة أشرس وأدهى مما سبق من غزوات فالصهيونية اليوم تؤيدها معظم دول العالم، لكن ما ضاع حق وراءه مطالب. ÷ كيف ترى إلى الأدب والأدباء في فلسطين؟ } الأدب في كل الأحوال هو صورة للحياة في سلمها وحربها، في فقرها وغناها، فيكفي ان نقول إن الدكتور فيليب حتي يرجّح النظرية التي تقول إن أيوب هو عربي، فإذا صح ذلك يكون هو أقدم شاعر فلسطيني، ولنسرع قليلاً فالإمام الشافعي أحد أصحاب المذاهب الأربعة كان يقرض الشعر، كما لا يفوتني شيخ الإسلام غبن حجر العسقلاني صاحب كتاب الإصابة في تمييز الصحابة، وفي العصر الحديث نذكر عبد الغني النابلسي. أما في جيلي فهناك العشرات بل المئات من المبدعين في الشعر والنثر والفكر والموسيقى والصحافة أذكر منهم الشاعر وشهيد ثورة 1936 عبد الرحيم محمود وإبراهيم طوقان وتوفيق زياد وسميح القاسم ثم من حسدتنا عليه الدنيا واستعجل وفارقنا محمود درويش. من الكتّاب يحزنني أننا فقدنا أدوارد سعيد وغسان كنفاني ومعين بسيسو, وفي الموسيقى هناك عائلات بأكملها كعائلة سحّاب وعائلة عبد العال، وفي فن الكاريكاتور فقدنا من لا يعوّض ناجي العلي. ولنا في السينما نصيب إخراجاً وتمثيلاً أذكر على سبيل المثال بدر لاما، وعبد السلام النابلسي ومحمد بكري ومحمود سعيد. نحن امتداد لمئات آلاف السنين من الجهد والتطور والإبداع، كل يعمل بمقدار ما أوتي من موهبة وما بذل من جهد. ÷ مجدداً وجدت في كتابك ما يُشبه الرد على «حب في الظلام» لعاموس عوز الكاتب الإسرائيلي، فهو يكتب عن حياته في فلسطين، عن الأرض والبيت والمنفى كما فعلت في كتابك؟ } لا قبور أجداد ولا أجداد لعاموس عوز في فلسطين. أما أنا الذي أعرف مقبرة بلدي التي تحمل أسماء أجدادنا وامتدادها في المكان والزمان يدرك الفرق بين المغتصب وصاحب الأرض. عاموس كل ما حوله ينكره لغة وديناً ولوناً وعادات وتقاليد. هو ليس من هذه الأرض. الأرض نفسها تنكره. هو يصطنع ذاكرة وإن جمّلتها الكتابة فهي ذاكرة لا عمق لها. عاموس يلهث في ان يقنعنا أنه من هذه الأرض ولكنه لا يستطيع ان يخفي ملامحه الأوروبية الفاقعة. أهله من لتوانيا، ليعد هو وأهله إلى لتوانيا كما نصحته الحكيمة هيلين توماس. ليكن عاقلاً ويستمع إلى نصيحة الحكماء.