القضاء العشائري والسلطة القضائية في فلسطين .
مقدمة:
إن تاريخ الجنس البشري يرتبط بالصراع بين الخير والشر أي الصراع بين الأفراد والمجتمعات، والأصل هو أن يلجئوا في نزاعاتهم إلى قاضيهم الطبيعي يلتمسون منه العدل والإنصاف بقبول كلمة الحق التي هي كلمة الله عز وجل . وهي أمان الخائفين وملاذ المظلومين، ولكي تتأكد الثقة بين المتقاضيين وتسود الطمأنينة نفوس الناس الذين يتوقون إلى سرعة حصولهم على حقوقهم . وقد جاء في ذلك قول الله تعالى: " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز ". سورة الحديد (25).
تاريخ ونشأة القضاء العشائري:
عرفت القبائل والعشائر القضاء العشائريمنذ زمن بعيد حيث كانت هذه القبائل والعشائر بعيدة عن سيطرة السلطة أو النظام الحاكم، فاعتمدت على العادات والأعراف والتقاليد المبتكرة لحل نزاعاتهم وفض خلافاتهم التي تفرضها طبيعة العيش، وقد كانت ملزمة للجميع في زمن مضى ولها تأثير كبير في المجتمع، ولا يمتلك أي فرد تجاوزها ومن يفعل ذلك يحرم من حماية ورعاية العشيرة وقد يهدر دمه. ولقد عرف القضاء العشائري على مر العصور مثلاً:
** في العصر الجاهلي:
ثبت انه كان هناك قضاءاً عشائرياً وقد تم في ذلك العصر الإصلاح بين قبيلتي عبس وذيبان، على أثر المعارك التي كانت دائرة بينها والتي عرفت (بداحس والغبراء) وكان من أشهر القضاة في ذلك العصر: هرم بن سنان، وحارث بن عوف، وهند بنت الحسن، والايادية .
لذلك أعتبر القضاء العشائريأول قانون خضع له العرب وكل من يتمرد علي أعراف القبيلة يهرب أو يلجأ الي قبيلة أخري وينتسب إليها بالولاء ويجبر علي الخضوع لأعرافها .
وكذلك حينما حكم الرسول (صلي الله عليه وسلم) بين القبائل ورضوا وقبلوا بحكمه في قصة وضع الحجر الأسود في مكانه أثناء بناء البيت العتيق، بعد ما كانوا مختلفين .
أما في العصر الإسلامي: فكان الرسول والصحابة الخلفاء الراشدين والقضاة يحكمون بين الناس بكتاب الله وسنة رسوله بالاجتهاد .
أما في العصر التركي:
فقد ترك الأتراك للناس ممارسة دور قضاء العشائر ودعمهم والاستعانة بهم .ولكن في أواخر العهد التركي تم تعيين الشيخ عيسي بن عمرو مسئولا لملف العشائر في فلسطينتحديدا في جنوب الخليل، وقد عمد الي وضع قضاة دم في كل بلد ليكن (منقع دم) وهو الجهة المسئولة عن حل مشاكل القتل، وانتهاك العرض، وخلافات الأرض، وقد تعامل الناس معهم بثقة أكثر من المحاكم الرسمية الموجودة في ظل الدولة العثمانية نظرا لسرعة حل النزاعات وأخذ الجاه والوجه .
وفي عهد الانجليز: عملت بريطانيا علي تشكيل مجلس العموم في سنة 1919 _ 1920 م في بئر السبع لحل القضايا المستعصية وقد استمر هذا المجلس حتى سنة 1922 م وكان مكونا من ثمانية أعضاء هم:
1- حسين أبو ستة 2 _
2- حمد الصوفي عن الترابيين .
3- إبراهيم أبو رفيق
4- سلامة أبو شنار عن التياها .
5- فريح أبو مدين عن العزازمة .
6- سلامة أبو هويشل عن العزازمة .
7- سعود الوحيدي عن الجبارات .
8- محمد مصطفى أبو دلال رئيس بلدية بئر السبع .
كما نصت المادة (45) من دستور فلسطينالمنشور في عام 1/9/1922 م علي أن للمندوب السامي أن ينشئ بأمر منه محاكم منفصلة لبئر السبع ولأي منطقة عشائرية حسبما يري مناسبا . ويجوز لهذه المحاكم أن تطبق العادات العشائرية إذا لم تكن منافية للعدل الطبيعي أو الآداب .كذلك تشكلت لجنة الأمن والإصلاح عام 1948 م في مدينة نابلس والقرى المجاورة لها .
دور القضاء العشائري في فلسطين:
القضاء العشائري في فلسطينمتوارث جيل بعد جيل، والسر وراء ازدهاره ما مرت به المنطقة من تقلبات سياسية، كذلك واقع المجتمع الفلسطيني كمجتمع قبلي . كما انه يسعى لرد الحقوق إلى أصحابها بسرعة اكبر مما هو عليه الحال في القضاء الرسمي، ولا يزل القضاء العشائريحاضراً وبقوة في المجتمع الفلسطيني، وقادراً في كثير من الأحيان على حل المنازعات تعجز عنها محاكمنا خاصة إذا ما تعلق الأمر بجرائم الشرف والثأر والقتل. إلا انه لم يسمح للقضاء العشائري التدخل في القضايا السياسية.
ولقد لجأت القبائل والعشائر في فلسطين إلى القضاء العشائري لحفظ الأمن والاستقرار والمحافظة على الأرواح والأعراض والأموال وعنت بمبدأ (الصلح سيد الأحكام) . كما وان القضاء العشائري يشكل جزءاً من هوية العشائر الشخصية والثقافية، فهو دستور اجتماعي شرعي مشروع تعترف به الجماعة، وهو القضاء المستعجل حسب فهم القانون الوضعي الحديث .
ويقوم القضاء العشائري
على المبدأ أو العادة المتبعة في حل القضايا بين الناس، فقد يقيم طالب الحق حقه بداية بشكل يشعر فيه انه رد اعتباره بهذه الطريقة، ولا أحد يستطيع أن يخالفه في تقييمه لحقه في القضية المعروضة للإصلاح، ولكن جرت العادة على أن يتراجع إلى الحدود المتعارف عليها والجسور التي مر عليها غيره في قضية مشابهه لقضيته .
لقد شرعت القبائل الفلسطينية الصلح العشائري نظرا لكثرة المشاكل وعدم وجود سلطة أخرى تضبط الأمور، فاتفق شيوخ القبائل على نقاط وأحكام اعتبروها جسوراً مبنية ومتعارف عليها لحسم الخلافات التي تعرف بالجسور العشيرية الموروثة . أي لا ينتقل من الأب لابنه بل ينتقل إلى اى شخص لديه القدرة على فهم حياه العشائر وعاداتها وتعامله مع المشاكل برأي سديد . ولكن لا يخرج من العشيرة .
الصلح العشائري:
الصلح: هو عقداً رضائياً يهدف إلى حل النزاع وأهم ما يميزه:
1- يتنازل بعض الأطراف في الصلح عن بعض ما يتمسك به كل منهما .
2- الأطراف هم أصحاب القرار في عقد الصلح لذلك تكون لديهم ملامح واضحة عن النتيجة .
3- يطعن في عقد الصلح بطريق الدعوة الموضوعية .
4- لا ينال عقد الصلح القوة الإلزامية إلا إذا تم التصديق عليه من المحكمة .
والصلح العشائريهنا يعني تدخل رجل عشائر بين طرفين بهدف تقصير النزاع وإعادة الهدوء بين العشائر والسيطرة على المشكلة بسرعة على اعتبار إن النزاع يتعلق بكرامة هذه العشيرة وتلك .
وهذا عرف سائد راسخ منذ زمن، واستمر خلال فترة الاحتلال الطويل وغياب السلطة والقضاء المستقل والفاعل مما أدى إلى تعزيز دور القضاء العشائري . إضافة إلى ذلك تقوم العشائرية بتوفير الحماية في ظل غياب العديد من المؤسسات، ومنها الأحزاب الفاعلة .
القضاء العشائري والقضاء الرسمي:
1- القضاء العشائري والعشائرية هي حالة سائدة في المجتمع الفلسطيني ولا علاقة لها بالقانون، كما أن القضاء الرسمي لا يمكن أن يحل محل عادات وتقاليد متوارثة، وأعراف ووسائل وطرق لتحصيل الحقوق كالجمع بين الخصوم والكفلاء .
2- القضاء العشائري لا يمكن أن يتضمنه نص قانوني أو تشريعي . في حين القضاء الرسمي ينضمه قانون السلطة القضائية رقم (1) لسنة 2002 م .
3- معظم القضايا تحمل نوعان من الحقوق الحق العام والحق الخاص ولا يسقط الحق العام تبعا لسقوط الحق الخاص بسبب الحل أو الصلح العشائري، ولكن تنزل قيمة الحكم نتيجة الصلح والتوفيق بين المتخاصمين، وبذلك يكون الصلح العشائري سببا في تخفيف الحكم وبالتالي يكون القضاء العشائري مكمل للقضاء الرسمي .
4- لا
يوجد أي تعارض بين النظامين القضائيين حيث يكمل كل منهما الأخر خاصة في ظل
ضعف الجهاز القضائي الرسمي القائم وغياب الجهاز التنفيذي للأحكام .
القضاء العشائري في عهد السلطة الوطنية الفلسطينية:
1- سبق أن طالبت وزارة الداخلية بضرورة إصدار قانون لقضاء العشائر مبررة ذلك بمذكرة توضيحية أوضحت فيها:
أ. إن القضاء العشائري في فلسطين له تاريخ طويل، وما زال هو السائد في الكثير من المناطق الفلسطينية والمتفوق على القضاء الرسمي على اعتبار انه مكملا له، ويلجا إليه الخصوم لتسوية الخصومات القائمة بينهم . إلا انه في كثير من الأحيان نجد أن القضاء العشائري يتقاطع مع القضاء الرسمي من حيث الإجراءات والضمانات التي يجب أن تتوفر في القضاة . كما أن القضاء العشائري غير خاضع لرقابة جهة معينة مما يعرضه في كثير من الأحيان لارتكاب الخطأ .
ب . إن القضاء العشائرييلامس حاجات الناس في شريحة واسعة من المجتمع الفلسطيني من النواحي الاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية، وان بقائه دون قانون خاص ينظمه من حيث صفات القاضي العشائري وما يجب أن يتمتع به من خبرات، وكذلك إجراءات التقاضي، وكيفية الرقابة علي القضاة وأحكامهم .
2- عقد مؤتمر القضاء العشائريفي ظل السلطة الوطنية برعاية المرحوم الرئيس ياسر عرفات، وقد شارك فيه د.غيث أبو غيث مستشار الرئيس لشئون العشائر والعديد من المتخصصين والمهتمين وقد خرج المؤتمر بتوصيات أهمها:
· تشكيل مجلس عشائري في الضفة الغربية، وأخر في قطاع غزة يلتزمان بقواعد وضوابط محددة ويتبعان هيئة الرئاسة مباشرة .
· إعادة النظر في الأحكام والقضايا العرفية وإلغاء الرزقة .
· اقتصار الجلاء والترحيل على الجاني لأن المسئولية الجنائية فردية وصدر مرسوم رئاسي بهذا الأمر .
· رفع مذكرة إلي المجلس التشريعي حول قضاء العرف والعادة للأخذ به كرافد مساند بجانب القوانين المعمول بها في الضفة الغربية وقطاع غزة .
· فلسطنة القانون مع الأخذ بعين الاعتبار العرف والعادة .
· الدعوة إلى ترشيد القضاء بالعرف والعادة .
· تأكيد أهمية رجال الإصلاح، وقضاة العرف والعادة ودورهم في إحلال النظام والأمن .
الخاتمة:
في السنوات الأخيرة عندما بدأ تعيين رجال الإصلاح، ولجان الإصلاح والمخاتير للحصول على رواتب من السلطة الفلسطينية كموظفين تابعين لوزارة الداخلية أو لدائرة شئون العشائر وكذلك تدخل كل من يتوفر لديه المال أو الجاه أو النفوذ في العديد من القضايا وتوجيهها في الجهة التي تخدم شخصاً معيناً أو تحقق مصلحة ذاتية أصبح القضاء العشائري مهلهلاً وغابت مشايخ العشائر أصحاب الحنكة والخبرة . ولم يتطوعوا في كبرى المصائب على خلاف ما كان جرى عليه العمل في زمن الاحتلال .
وللخروج من هذا المأزق باب واحد فقط هو ضرورة السعي الجاد إلى دعم استقلالية القضاء الرسمي وتوطيد السلطة القضائية وتوفير جهاز تنفيذي قوي يقوم على تنفيذ القرارات لإحقاق الحقوق، وإرساء قواعد العدل بين الناس بعيداً عن السطوة العشائرية والقضاء العشائري وعمل لجان الإصلاح لا سيما وأن عملها يتوقف على أعراف متوارثة ومنقولة جيلا بعد جيل وباتت تنقرض شيئا فشيئاً.
المستشار
محمد طومان