العائلات اللبنانية من أصول كرديّة
نزل الكرد جبل لبنان منذ أمد طويل، وتوجد منهم اليوم شريحة كبيرة ضمن المجتمع اللبناني قدر لها أن تلعب دوراً بارزاً في صنع تاريخ لبنان السياسي والاجتماعي طوال العهد العثماني وفي العصر الحديث. ومن هذه الأسر العريقة: المعنيون، آل العماد، الجنبلاطيون، أل المرعبي، آل عبود، آل سيفا في عكار وطرابلس في الشمال، آل الفضل والصعبيون في الجنوب، وغالبيتهم أسر إقطاعية قوية النفوذ هاجرت إلى لبنان في فترات زمنية مختلفة ولأسباب مختلفة أيضاً، فمثلاً الأيوبيون قدموا في فترة الحروب الصليبية بقصد حماية الثغور الإسلامية، ومنهم من قدم في مطلع القرن الرابع عشر ونزلوا في منطقة طرابلس ومنطقة عكار والضنية وذلك بهدف توطيد حكم المماليك على بلاد الشام(1). وهناك الجنبلاطيون الذين قدموا في القرن السابع عشر إلى جبل الشوف هرباً من الصدر الأعظم مراد باشا ومن والي الشام سليمان باشا وذلك بعد ثورة جدهم علي باشا جانبولارد في منطقة حلب - سيواس سنة 1606م(2). كما عرفت مدينة زحلة الأكراد ردحاً طويلاً وتعاملت معهم عندما كانت نقطة تلاقي الطرق التجارية يقصدها البدو وأكراد كردستان ليبادلوا منتجاتهم الحيوانية ومواشيهم بالبضائع اللبنانية والأوروبية. كما أن الدولة العثمانية كانت تعتمد بالدرجة الأولى على الأمراء الأكراد وتعينهم في المناصب الإدارية كولاة ومتصرفين وقادة جيش وشرطة في الولايات العربية، وهذا وحده يفسر ظاهرة بروز شخصيات كردية على مسرح الإحداث في الأقطار العربية، ولكن هذه الشخصيات لم تلبث أن قويت واستقرت في اماكن وجودها، وكثر عددها وأحفادها ولم تلبث أن تكيفت مع البيئة الجديدة، واعتنقت المذاهب والأديان السائدة فيه (3).
ولقد لعب أكراد لبنان دورا حيوياً وبارزا على مسرح الحياة السياسية فيها، بل تجاوز نفوذهم إلى خارج لبنان، عندما برزت منهم عائلات مرموقة تزعمت جبل لبنان أمثال المعنيون الذين بسطو نفوذهم على جبل لبنان وشمالي فلسطين وجبل عجلون في الأردن في القرن السابع عشر، وعائلة جنبلاط الذين برزوا كقوة حقيقية خلال القرن الثامن عشر واستمر نفوذهم السياسي إلى الوقت الحاضر، وهناك أمراء رأس نحاش الأكراد الذين برزوا في منطقة الكورة في شمالي لبنان، وآل مرعب الذين حكموا منطقة عكار في شمالي لبنان.
وهناك جالية كردية حديثة هاجرت إلى لبنان من منطقة الجزيرة السورية ومن مناطق ماردين وبوطان في تركيا بعد فشل الثورات الكردية هناك ضد الدولة التركية الحديثة منذ العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، ويتمركزون اليوم في مدينة بيروت، إذ يبلغ تعدادهم فيها حوالي 150 ألف نسمة، منهم 15 ألف في بيروت الغربية في منطقة زقاق البلاط بالذات.
ولقد اعتنقت العائلات والأسر ذات الأصول الكردية السابقة مختلف المذاهبب الأسلامية، فكان الأيوبيون ومن بعدهم آل سيفا وآل مرعب سنَّة،وبنو حمية شيعة مع المتاولة في جنوبي لبنان، وآل جنبلاط والمعنيون وآل العماد دروزاً، وبعض منهم تنصر. لاشك بأن الأسر الكردية السابقة الذكر من أصول كردية، ولعبت دوراً خطيراً في تاريخ لبنان الوسيط والحديث، فهؤلاء لا يمتون بصلة عائلية او ثقافية لأكراد لبنان الحاليون. فمنذ القرن الثامن عشر انصهروا تدريجيا في المجتمع اللبناني، وضعف ارتباطهم بكرديتهم وأصولهم في كردستان، وصارت الكردية تمثل لهم جزء من الماضي، وأصبحوا اليوم أكثر ارتباطاً بمصالحهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية في لبنان.
وفي لبنان كانت هناك صولة للأمراء المراعبة والجانبلاطيين ، ولاتزال قرية طاريا تتحدث عن تاريخ النضال والعلاقة المشتركة بين العرب والأكراد ، وليرحم الله المناضل أحمد المير الأيوبي من مدينة طرابلس ، وقائد الحركة الوطنية اللبنانية الشهيد كمال بك جنبلاط .
كما حرص كمال جنبلاط زيارة الملا مصطفى البارزاني عام 1971 في (قلالة) بكردستان العراق.
وفيما يلي لمحة موجزة عن أشهر العائلات الكردية في تاريخ لبنان الوسيط:
المعنيون
المعنيون هم من سلالة معن بن ربيعة الأيوبي الكردي، كان أجدادهم يعيشون في بلاد فارس ثم في الجزيرة الفراتية، ومنها انتقل جدهم معن بن ربيعة الأيوبي الكردي إلى جبل لبنان في القرن السادس عشر الميلادي، وقد أكد صحة هذا النسب ما ذكره المؤرخ محمد أمين المحبي في كتابه " خلاصة الأثر" بقوله"" كان بعض أحفاد فخر الدين المعني يروى عنه أنه كان يقول: أصل آبائنا من الأكراد سكنوا هذه البلاد"(4)، وأصبح أحفاد هذا الأمير من اشهر حكام جبل لبنان والشوف خلال سنوات 1516-1697م، وعرفوا بأمراء الدروز، وامتد نفوذهم على سائر البلاد اللبنانية، وأجزاء من سوريا وفلسطين والأردن، ودان لهم الدروز وتمذهبوا بمذهبهم، ومن اشهر رجالهم الأمير قرقماز، وفخر الدين المعني الأول، وفخر الدين المعني الثاني، وأخرهم احمد بن ملحم الذي مات بلا عقب فانقرضت سلالة المعنيين، وانتقل الحكم إلى الشهابيين بعد مؤتمر السمقانية عام 1697م.
لقد دخل معن الأيوبي لقتال الصليبين في إنطاكية، فظهرت شجاعته واشتهر، إلا أنه لم يظفر، فانهزم ببقايا رجاله سنة 513هـ/1108م إلى الديار الحلبية، وكان فيها الأتابك ظهير الدين طغتكين بن عبد الله، فأمره أن يذهب مع عشيرته إلى البقاع ومنها إلى جبل لبنان، ليشن الغارات على الإفرنج في الساحل، فتوجه إلى هناك وأنزل عشيرته في بلاد الشوف بجبل لبنان، وقويت صلته بالأمير التنوخي " بحتر" فتحالفا معاً على محاربة الصليبيين، وساعده بحتر على البناء في الشوف وقصدها أهل البلاد التي استولى عليها الصليبون، فصمدت. وأقام معن الأيوبي في بلدة " بعقلين" واستمر في إمارته إلى أن توفي سنة544 هـ/1149م (5).
وقد حكم أبناء معن جبل لبنان والشوف من سنة 1516حتى سنة 1697م، وعرفوا " بأمراء الدروز"، إذ امتد نفوذهم على ساحل البلاد اللبنانية وأجزاء من سورية وفلسطين والأردن، وقد نال أحد أمرائهم " فخر الدين المعني الأول" الحظوة لدى السلطان العثماني سليم الأول عندما ساعده في معركة مرج دابق التي أنهت حكم المماليك لبلاد الشام ومصر، ومهدت الطريق لحكم العثمانيين للعالم العربي لمدة ربت على الخمسة قرون، وتقديرا له خلع عليه السلطان سليم لقب ( أمير البر)، فحكم الشوف، واتخذ بعقلين عاصمة له، واشتهر بفصاحته، اغتيل بأمر من والي دمشق سنة 1544م(6).
خلفه في الحكم ابنه الأمير قرقماز سنة 1544م، وقد اتهم بسلب أموال الخزينة لعثمانية عن طريق جون عكار، وأرسل الباب العالي إبراهيم باشا حاكم مصر للاقتصاص منه، فهرب إلى مغارة شقيف بالقرب من نيحا الشوف وتوفي بها سنة 1585م(7).
ثم خلفه في الحكم ابنه الأمير الشهير فخر الدين المعني الثاني، وهو من مواليد بعقلين سنة 1572م، فقد علا صيته وشأنه، عندما أنشأ جيشاً قوياً واستعاد مكانته بعد انتصار القيسيين على اليمنيين سنة 1591م، وتحالف مع علي جنبلاط( كردي - درزي) ضد ابن سيفا الكردي في طرابلس الشام، فنظم الجيش، والضرائب، وسعى إلى توحيد بلاده، وتحالف مع حكام توسكانيا في إيطاليا ليقدموا له الخبرة في صب المدافع وتطوير الزراعة، حاول الاستقلال عن الدولة العثمانية، فبعثت الدولة العثمانية الوزير احمد باشا نائب دمشق لمحاربته، وحدث بينهما وقعات، ولم يظفر نائب دمشق منه بنصر، مما زاد من سطوة فخر الدين من خلال الاستيلاء على البلاد، وبلغ أتباعه حوالي المائة ألف من الدروز والسكبان، واستولى على بلاد عجلون والجولان وحوران وتدمر والحصن والمرقب والسلمية، وسرى حكمه من بلاد صفد إلى إنطاكية، وبلغ شهرة وافية، وقصده الشعراء من كل ناحية، ومدحوه.
ولما تحقق السلطان العثماني مراد خان من سطوته ونفوذه وخروجه على سلطانه، صمم على مقاومته وإنهاء تمرده، فبعث لمحاربته الوزير احمد باشا المعروف بالكوجك، وعين معه أمراء وعساكر كثر، فتوجه إليه، وانتصر عليه سنة 1633م، وقتل أولاً أبنه الأمير علي حاكم صفد، ثم قبض على فخر الدين ودخل به دمشق بموكب حافل، وهو مقيد على الفرس خلفه، ثم أرسله إلى الآستانة ومعه ولديه الأميران مسعود وحسين، وهناك تم حبس فخر الدين، وأرسل ولديه إلى قصر سراي الغلطة، وفي سنة 1635 أمر السلطان مراد وزيره بيرام باشا بقتله، ورميت رقبته في مكان للوحوش يدعى بأرسلان خانه، وألقيت جثته في المكان المعروف بآت ميدان. إما أملاكه وعقاراته فقد أوهبها السلطان إلى احمد باشا كوجك. ثم عمدوا إلى ابنه مسعود فخنق والقي بالبحر، أما حسين فشفع له صغر سنه فأبقوه في سراي الغلطة كعادتهم، وترقى في الرتب وتولى عدة مناصب عليا في الدولة العثمانية، فصار حاجباً في البلاط الثاني، فرئيساً للحجاب، فسفيراً في الهند.
ويقال أن طموح فخر الدين وتوسعه وتمرده وعدم تقديره لقوة الدولة العثمانية شجعه على ذلك، ولكنها أدت إلى فشل ثورته وانتهت به إلى مأساته المعروفة، قال كمال الصليبي: تمكن فخر الدين عن طريق تشجيع الإنتاج وحماية التجارة، من ربط إمارته اقتصادياً إلى حد ما بالركب الأوروبي وجعلها زاوية صغيرة تنفذ إليها الفضة من بلاد الغرب، فنعمت البلاد في ظله بالازدهار لم يكن له مثيل في أي جزء آخر من بلاد السلطنة(8).
تولى الإمارة بعده ابنه علي الذي توفى سنة 1635، فآلت الإمارة إلى الأمير ملحم الذي أعاد الأمن إلى المنطقة، توفي سنة 1657م، وبعده تولى الإمارة أبنه احمد سنة 1657م، وكان آخر أمراء بني معن، إذ توفي سنة 1697 بدون عقب، وبذلك انقرضت سلالة المعنيين الذكور، وانتقل الحكم إلى الشهابيين بواسطة ابنته والدة الأمير حيدر موسى بعد مؤتمر السمقانية عام 1697م(9)، وقد أذن العثمانيون لأعيان لبنان انتخاب ابن أخته الأمير شهاب من وادي التيم أميراً على البلاد، وهكذا أصبح الشهابيون أقرباء المعنيون وأصهارهم أمراء على لبنان(10).
الأيوبيون
قدم الأيوبيون إلى بعلبك في لبنان سنة 1139م، حيث تم تعيين أيوب بن شاذي والد صلاح الدين الأيوبي والياً على مدينة بعلبك، بعدما كانوا في قلعة تكريت في خدمة نور الدين زنكي، ثم رحلوا إلى الموصل فبعلبك، ومما يؤكد الانتماء الكردي للأسرة الأيوبية ما ذكره المؤرخ اللبناني كمال الصليبي بقوله:" الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاذي مؤسس الدولة الأيوبية في مصر، وكان أيوب بن شاذي وأخوه شيركوه من أكراد تكريت في العراق"(11). ثم ذهبوا إلى دمشق ثم مصر وأسسوا الدولة الأيوبية المعروفة.
كما كان هناك أمراء أيوبيين سكنوا مقاطعة الكورة في الشمال، ومن الذين أشاروا إلى موقع الأيوبيين في تلك المناطق ما ذكره كمال الصليبي بقوله:" وفي أيام الأيوبيين كن لأحد أمرائهم قلعة في المسيلحة، في إحدى أودية لبنان الشمالي صعوداً من بلدة البترون.. ما زالت الأسوار الرائعة لهذه القلعة قامة حتى اليوم".(12).
وفي عهد الفاطميين الذين حكموا الأجزاء الجنوبية من لبنان ادخلوا إلى بعض مناطقها مستوطنين من العسكريين الأكراد ومن بينهم الأيوبيين، وأحفادهم لازالوا في قرية من قضاء البترون في شمالي لبنان يقال لها" رأس نحاش" يحرصون على حفظ لقب الإمارة بالرغم من انحدار نفوذهم على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، وربما هم الذين عناهم طنوس الشدياق في كتابه " أخبار الأعيان في جبل لبنان" تحت اسم" أمراء رأس نحاش"(13).
أمراء رأس نحاش
هؤلاء الأمراء ينتسبون إلى الأكراد الذين وضعهم السلطان العثماني سليم الأول في مقاطعة الكورة شمالي لبنان في القرن السادس عشر من اجل المحافظة عليها من الإفرنج سنة 1556م، وقد اشتهر منهم عدة أمراء، مثل الأمير موسى والد الأمير إسماعيل سنة 1637م، وقد استخدمه شاهين باشا والشيخ علي حمادة وأرسلهما بقوة عسكرية لمحاربته آل سيفا في طرابلس وعكار وحصن الأكراد.
وهناك الأمير إسماعيل، وفي سنة 1655 سار محمد باشا الكبرتي لقتاله وقتال الشيخ سعيد حماده لعصيانهما بالمال الأميري، فقاتلهما فانكسرا وانهزم الأمير إسماعيل إلى الأمير احمد بن ملحم المعني، فسلمه مدينة صور، ثم قتله قبلان باشا، وفي سنة 1693 ولى علي باشا الصدر الأعظم الأمير حسين على بلاد جبيل، وفي سنة 1771، وأمر الأمير يوسف الشهابي بحرق قرية( عفصدين) قرية إسماعيل احمد، وبذلك انتهى أمرهم في القرن الثامن عشر(14).
آل جنبلاط
آل جنبلاط من العائلات المشهورة في لبنان، وهم أكراد الأصل، دروز المذهب، يسكنون اليوم في قضاء الشوف بجبل لبنان، وتعد بلدة "المختارة" قاعدتهم. وقد لعبت هذه الأسرة دوراً سياسياً فاعلاً في أيام الدولة العثمانية في شمالي الشام، وفي جبل لبنان، ودوراً مماثلاً في تاريخ لبنان الحديث.
تنتسب هذه الأسرة إلى الأمير جان بولارد بن قاسم بك بن احمد بك بن جمال بك بن عرب بك بن مندك الأيوبي الكردي، المنحدر من عشائر الأيوبيين الأكراد، وكان يعرف بابن عربي، تولى إمارة معرة النعمان وحلب وكلس في شمالي الشام أيام الدولة العثمانية، وقد ذهب مع والده إلى استانبول وهناك دخل مدرسة السراي السلطاني (اندرون همايون)، ثم دخل السلك العسكري في زمن السلطان سليمان القانوني واشترك معه في حملته على بلغراد ومولدادا وعلى جزيرة رودس، واشتهر بشجاعته وجسارته مما حببه إلى السلطان سليمان القانوني، مما دعى جان بولارد الطلب منه بإعادة ملك أبيه له، فلبي طلبه وأعادت الدولة ملكه بفرمان سلطاني، وهناك سار في خطة حازمة وساس مقاطعته (حلب وكلس) بكل جد وثبات، وصار أمير الأمراء، عاش تسعين عاماً، وتوفى سنة 980هـ /1572م، ويعد الجد الأكبر والمؤسس لأسرة جان بولارد (جنبلاط) النبيلة، ويذكر في الشرفنامة انه ترك سبعين ولداً (15).
ولقد اقلق آل جنبلاط بال الدولة العثمانية في مطلع القرن السابع عشر بغية الاستقلال بإمارتهم في حلب وكلس شمالي الشام، فقاموا بثورات متتالية ضد السلطنة، كان من أبرزها ثورة حسين باشا جانبولارد والي حلب، الذي قتله الصدر الأعظم العثماني حين عودته من محاربة الصفويين، لأنه تباطأ في نصرته، وعندما علم الأمير علي بمقتله ثأر ضد الدولة وسار إلى طرابلس فاستولى عليها واخذ تلك البلاد حكماً مستقلا، ولكن الدولة العثمانية سيرت إليه جيشا فاستطاع الوقوف ضده وكسره عام 1607م، ولم يجد هذا الأمير إلا أن يسلم نفسه للسلطان الذي عفا عنه وعينه واليا على طمشوار بالنمسا، وفي نهاية الأمر قتله السلطان. كما قام بالثورة ضد الدولة العثمانية ابن أخيه علي باشا، لكن ثورات آل جنبلاط انتهت بالفشل، وشهد التاريخ لهذه الأسرة بدورها الحافل في حلب استانبول ولبنان، وكان لبعضهم تحالفات مع المعنيين الكرد في جبل لبنان.
وقد بدأت أول سلالتهم في لبنان سنة 1630م، عندما نزل جانبولاد بن سعيد وابنه رباح لبنان بدعوة من الأمير فخر الدين المعني الثاني لما كان بينهما من ود وصداقة، ورحب به أكابر جبل لبنان ودعوه إلى الإقامة في بلادهم، فأقام في مزرعة الشوف، واعتمد عليه الأمير فخر الدين الثاني في مهمات أموره.
وبعد ذلك تزوج أحد أحفاده المدعو علي بن رباح جانبلاط ابنة الشيخ قبلان القاضي التنوخي كبير مشايخ الشوف لارتفاع نسب بيت علي الجنبلاطي، وعلو مقامه. ولما توفي القاضي التنوخي بلا عقب سنة 1712م اتفق أكابر الشوف أن يكون صهره (علي) في مرتبة الشيخ قبلان رئيساً عليهم. وذلك اعتنق الجنبلاطيون المذهب الدرزي بعد أن كانوا على المذهب السني، وولى الأمير حيدر الشهابي الأمير علي جنبلاط مقاطعات الشوف، فسلك منهج العدل والرحمة في حكمه، ونشر الأمن، وساد العدل، واستمال الناس إليه، وكثر أعوانه من كل الطوائف والملل، وكان محبا للعلم والعلماء، كريما حليما فاضلا، حتى أصبح شيخ المشايخ، أدركته الوفاة في بعذران سنة 1776م، وترك ست أولاد وهم (يونس، ونجم، ومحمود، وحسين، وقاسم، وجانبولاد)، وخلفه في الحكم ابنه الأمير قاسم، الذي كان مهيباً وديعاً عادلاً، توفى سنة 1791م، وكان من أولاده حسن وبشير وإسماعيل. وقد خلفه ابنه الشيخ بشير بن قاسم جنبلاط وصار من زعماء الإقطاع في عهد الأمير بشير الثاني الشهابي، ويعزى إليه بناء قصر المختارة، وإصلاح الطرق، وإقامة المعابد، ونشر الأمن والعدل بين الرعية، حتى لقب بشيخ المشايخ، قتله عبد الله باشا والي عكا سنة 1825م (16).
ومن الذين اشتهروا في عالم السياسة في العصر الحديث السيدة نظيرة جنبلاط عقيلة فؤاد جنبلاط، التي ترملت سنة 1922، فخلفت زوجها على مسرح السياسة اللبنانية، وكان لها دور فاعل، توفيت في بيروت سنة 1951م، فخلفها على المسرح السياسي ابنها الأستاذ كمال جنبلاط أحد كبار ساسة ومفكري لبنان، وكان له حضور سياسي في سياسة لبنان في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، ووضع الكثير من المؤلفات، اغتيل عام 1977، فخلفه في زعامة الدروز ابنه الأستاذ وليد جنبلاط، الذي شغل عدة مناصب وزارية وبرلمانية، ويعد اليوم أحد ابرز أقطاب الساسة في لبنان المعاصر.
وقد عرف عن آل جنبلاط حسن السياسة، والكرم والجود، والاهتمام بالعمران، وكانوا عيون العدل والعلم والإصلاح، مع احترام الطوائف الأخرى وخصوصا المسيحيين، إذ سمحوا لهم بإقامة الكنائس في منطقتهم، وجانبلاط كلمة كردية(جان بولارد) تعني ( الروح الفولاذية)، وقد لقبوا بها لشدة بأسهم، وفرط شجاعتهم، وحسن سياستهم، وقد حرفت مع الاستعمال إلى جنبلاط.
آل سيفا
آل سيفا حكام طرابلس الشام في لبنان، اشتهروا بالكرم والأدب، وهم أكراد الأصل، نزحوا من بلادهم واستوطنوا سهل عكار وطرابلس في شمالي لبنان، ومنها تولوا الحكم في طرابلس لمدة مديدة، وعلا شأنهم، ولا يزال في طرابلس أوقافا كثيرة باسمهم يقتسم ريعها آل الشهال وغيرهم ممن يمتون لهم بالنسب (17).
وقد لعبوا دوراً رئيسياً في حياة لبنان السياسية خلال العهد العثماني، وكان لهم صدامات وصراعات مع المعنيين في جبل لبنان، ومما يؤيد الرأي القائل بكردية آل سيفا ما ذكره إبراهيم بك الأسود في كتابه: " أنهم أمراء أكراد استقرت لهم الإمارة بين الأعوام 1528و 1579م، عندما رقي الأمير يوسف بن سيفا سنة 1579م إلى رتبة وزير وعين والياً على طرابلس"(18). وأكد كرديتهم أيضاً المؤرخ فيليب حتي بقوله:" وانتقل الحكم بعد بني عساف إلى منافسيهم بني سيفا في عكار، وكان بنو سيفا من أصل كردي، وقد اتخذوا من طرابلس مقراً لهم.."(19).
وقد ذكرهم الرحالة اللبناني رمضان العطيفي الذي زار طرابلس بقوله: " أن أخبار بني سيفا بالمكارم والكرم وإسداء الفضل إلى أهل الفناء والعدم أشهر أن تذكر، حتى كان يقصدهم المحتاج وغير المحتاج من سائر البلاد، ويقال عنهم أنهم أحيوا أيام البرامكة". وقال عبد الله نوفل: " آل سيفا المشهورين بالكرم والأدب كانت لهم العزة الزاهرة، والدولة الطاهرة، حتى صاروا مقصد كل شاعر، ومورد كل مادح، وكانوا يعطون أعظم الجوائز، وهم أكراد نزحوا من بلادهم واستوطنوا عكار، ومنها تولوا الحكم في طرابلس ، ومنهم آل الشهال..." (20).
وقد حكمت هذه الأسرة المنطقة الواقعة بين نهر الكلب ونهر إبراهيم في القرن السادس عشر، عندما تولى يوسف باشا ابن سيفا منصب حاكمية طرابلس الشام من قبل الدولة العثمانية 1579م. واستمر في منصب الولاية بعدما أبعد عنه عدة مرات حتى وفاته عام 1624م. وقد جرت بينه وبين الأمير فخر الدين المعني الثاني (1585 - 1635م) العديد من المعارك والتحالفات عبر سنوات طويلة. وأدت تلك الحروب إلى خراب طرابلس ونهبها مرتين(21).
وتولى بعده الحكم الأمير حسين بن يوسف باشا، وكان قد تولى في عهد والده كفالة طرابلس الشام، ثم عزل عنها، ثم ولي كفالة (الرها= اورفا) ثم تركها وقدم حلب ولم يكن محمد باشا قره قاش واليها يوده، فقبض عليه بالحيلة، وسجنه في القلعة، وخنقه بحلب بأمر من السلطان العثماني، وبعث بجثته إلى والده في طرابلس الشام سنة 1026هـ /1617م، وبكت عليه جماهير كثيرة لحسنه وشجاعته وبطولته ، ولم يتجاوز من العمر الثلاثين سنة(22).
وبرز منهم الأمير محمد بن الأمير علي السيفي الطرابلسي، الذي تولى الحكم في طرابلس بعد الأمير يوسف باشا السيفي، وكان من أهل الأدب والفضل السامي، وكان له شاعر خاص يدعى محمد العكاري، وكانت فضائله تستغرق العد. وله معارك مع الأمير فخر الدين المعني. قال عنه المؤرخ محمد المحبي في كتابه " خلاصة الأثر": الأمير محيى القريض ( المواليا) الكثير. توفي مسموما وهو مسافر إلى بلاد الروم في قونية( تركيا ) سنة 1032هـ. وانهار البيت السيفي بعده. وقد رثاه الشاعر حسين بن الجزري بقوله : ولما احتوت أيدي المنايا محمد آل أمير ابن سيفا طاهر الروح والبدن :
تعجبت كيف السيف يغمد في الثرى وكيف يواري البحر في طيه الكفن (23).
ويعتبر عهد آل سيفا في مدينة طرابلس الذي استمر حتى الأربعينيات من القرن السابع عشر عهداً ذهبياً بالنسبة لها على الرغم مما شاهدته من حروب ومآسي، ويصف الرحالة رمضان العطيفي آل سيفا الذي زار طرابلس عام 1634 بقوله :" أن أخبار بني سيفا بالمكارم والكرم وإسداء الفضل لي أهل الفناء والعدم أشهر من أن تذكر، حتى كان يقصدهم المحتاج وغير المحتاج من سائر البلاد، ويقال أنهم أحيوا أيام البرامكة-أيام هارون الرشيد-" (24).
ومن رجالاتهم الشيخ محمد بن محمد بن علي بن يوسف بن محمد بن رجب بن سعد الدين باشا المنسوب لبني سيفا الأكراد في طرابلس الشام، ولد فيها سنة 1285هـ /1868م. وتلقى علومه الدينية على يد الشيخ حسين ولازمه مدة عشر سنوات حتى أجازه بالتدريس. وأخذت الطلبة ترد إليه من سائر الجهات ، ثم عمل مدرساً للغة العربية في مدرسة كفتين الداخلية الوطنية الكبرى في طرابلس. ثم سافر إلى الآستانة ولبث هناك مدة ، وبعد رجوعه شرع في تأليف رسالة في علم الفلك ، ثم أخذ يفسر القرآن الكريم في أسلوب مختصر، وألف رسالة عن " دود الحرير وتربيته وحفظه" ، ونال على ذلك جائزة من حكومة العثمانية مع الميدالية الذهبية ، ثم ألف رسالة في " كيفية استخراج الزيوت من النباتات"، وله " مختصر رسالة في علم المعاني والبيان" . وله خدمات وطنية تذكر بالشكر، وكان رضي الأخلاق، حسن المعاشرة، وفياً لأصدقائه، واسع الإطلاع، توفي سنة 1336هـ/1918م (25).
واستمرت هذه الأسرة تكبر وتقوى حتى غدت ذات قدرة وبأس، واستمروا في حكم طرابلس حتى الأربعينات من القرن السابع عشر فخاف العثمانيون من خطرهم وحرضوا ضدهم بعض الولاة، وفي عام 1640 بادر متصرف طرابلس شاهين باشا إلى قتل الأمير عساف سيفا زعيم الأسرة آنذاك، ثم قضى على جميع أفرادها ومحقهم تقريباً(26).
آل الشهال
آل الشهال من الأسر الكريمة والقديمة في مدينة طرابلس الشام، وهم يمتون في نسبهم لآل سيفا الأكراد حكام طرابلس على مدى أعوام طويلة، ويؤيد نسبهم أنهم يأخذون مع بعض العائلات من ريع أوقاف آل سيفا، وبرز من هذه العائلة أفرادا اشتهروا بالشعر والأدب، كالشيخ محمود بن عبد الله الشهال، وابن عمه الأستاذ محمد، والأديب فضل أفندي، والفاضل القانوني جميل أفندي رئيس محكمة صيدا. ومن شعرائهم المجيدين الشاعر الشيخ محمود بن عبد الله الشهال. الذي ولد في طرابلس لبنان سنة 1252هـ /1835م، وقد تعلم على يد شيوخ طرابلس ودخل في سلك موظفي الدولة العثمانية فعين مديرا في طرابلس، وعضوا في مجلس البلدية أعواما طويلة، وعمل رئيس كتاب مجلس الحقوق وغير ذلك من الوظائف الإدارية، وكان حسن المحاظرة مفوها واسع الإطلاع، جهوري الصوت ، ماهر في تلحين القصائد، وله موشحات جميلة. كان شاعر مطبوعا مجيدا نظم في سائر أبواب الشعر، وكان غزير المادة، رقيق الأسلوب، لطيف المعاني. له ديوان مطبوع (27) .
آل خضر آغا
آل خضر آغا من الأسر الكريمة في طرابلس لبنان، وهم أكراد حسبما ذكر حبيب نوفل في كتابه" تراجم علماء طرابلس" ذ يقول: "ولقد اطلعت على حجج ووثائق شرعية كثيرة ممهورة بأختام قضاة ذلك العصر ومفاتيه، وأجلاء الشيوخ والعلماء تؤكد صحة اتصالهم بالنسب لآل سيفا( الأكراد)، ومن تلك الوثائق التي تؤكد نسبهم الوثيقة الآتية " بمجلس الشرع الشريف ومحفل الحكم المنيف بطرابلس الشام المحمية لنصب متولية سيدنا... وناقل ذا الخطاب المدعي فخر الأماثل الكرام إبراهيم آغا ابن المرحوم مصطفى آغا خضر زاده مشرفا شرعياً وناظراً على وقف الست أصيل بنت يوسف باشا السيفي زوج خضر آغا العائد وقفها على ذريته الذي هو جد الناظر المنصوب الأعلى بتصادق مستحقي الوقف وأذن له بالإشراف على الوقف، والنظر على متوليه الحاج احمد آغا خضر آغا ، بمعنى أن لا يتقاضى أمرا ولا مصلحة في الوقف بدون إطلاعه ... وسطر بالطلب عن شهر رجب سنة 1245هـ"(28).
ولقد نبغ منهم رجال لمعوا في سماء الوجاهة والكرم كخضر آغا بن مصطفى ضابط الراجلين المحافظين بطرابلس، ومحمود آغا رئيس بلدية طرابلس وعضو في مجلس إدارتها، وشقيقه سعيد آغا رئيس بلدية طرابلس.
آل العماد/ العماديون
أسرة كبيرة معروفة تقيم في جبل لبنان وذات منابت إقطاعية، تعود بنسبها إلى الجد (عماد)، وهو كردي الأصل قدم من مدينة (العمادية) الواقعة اليوم في كردستان العراق، إذ جاء مهاجراً إلى لبنان وسكن قرية (مرطحون)، ثم ارتحل إلى الباروك، ومنها انتقل أحفاده إلى منطقة الشوف، فاعتنقوا المذهب الدرزي الشائع هناك، وأصبحوا من كبار الملاكين، كما اعتنق بعضهم الديانة المسيحية المارونية. ومما يؤيد كرديتهم ما كتبه الدكتور سليم الهيشي بقوله:" يمتون بصلة القربى إلى عماد الدولة الديلمي الكردي الذي حكم منطقة العمادية...".
أما الدور المهم الذي لعبه العماديون في تاريخ لبنان عموماً، ومع الدروز خصوصاً هو تزعمهم للحزب اليزبكي... نسبة إلى الجد الأعلى للشيخ العماد وهو يزبك، وهم اليوم دروز المذهب(29).
آل مرعب أو المراعبة
المراعبة من أمراء عكار في شمالي لبنان، ينسبون إلى الأكراد الرشوانية، قدم جدهم مرعب إلى بلاد طرابلس من منطقة عفرين الكردية في سوريا، وتوطنت سلالته سهل عكار، وهم من الأسر الإقطاعية العريقة في لبنان، ويعتنقون المذهب السني، ومما يؤيد نسبهم ما ذكره احمد محمد احمد في كتابه (أكراد لبنان) بقوله: " أمراء ينتسبون إلى جدهم مرعب أحد بكوات الأكراد في هكاريا (سلسلة جبال تمتد في المناطق الكردية الموجودة ضمن تركيا والعراق) "(30). وما ذكره أيضاً حبيب نوفل في كتابه (تراجم علماء طرابلس) بقوله: "بنو مرعب أكراد الأصل، قدم جدهم من بلاده واتخذ عكار موطناً، وتملكت سلالته الدور الشاهقة والأملاك الواسعة في تلك البلاد، وتولى منهم حكومة طرابلس مثل الأمير شديد الذي تواقع مع عيسى حماده سنة 1714م، وعثمان باشا المرعبي في القرن التاسع عشر، وعلي باشا الأسعد المرعبي ومنذ يومئذ تلقب أولاده وأحفاده بالبكوات، أما سائر أفراد بني مرعب فكانوا يلقبون بالاغوات حتى أنعمت عليهم الحكومة بلقب بكوات أسوة بأبناء عمهم (31).
حكم المراعبة منطقة عكار قرابة المائة عام، ولازالوا إلى اليوم يتمتعون ببعض التأييد في قضاء عكار الذي يملكوه، والى وقت قريب كان أحد أبناء هذه الأسرة المدعو طلال المرعبي الذي تولى منذ سنة 1972 نائباً عن المقعد السني في قضاء عكار واستمر حتى سنة 1992، ثم أعيد انتخابه عن المقعد نفسه، كما تكرر فوزه في الانتخابات النيابية لسنة 1996م (32).
ومن مفاخر بني مرعب المدعو (علي باشا الأسعد المرعبي)، كان رجل زمانه، خبرة ومضاء وعزيمة، ومهابا عاقلا، و فارسا مغوارا، جسوراً فصيحا. قال عنه الكاتب نوفل نوفل في تاريخه" كشف اللثام في حوادث مصر وبر الشام" :" أنه كان تقصده ذوو الحاجات فيقضيها، ويرجو الفقراء نوال كفه فيعطيهم، ويمتدحه الشعراء بغرر القصائد فيجزل صلتهم. وكان فصيحاً، وله مشاركة في الأدب والشعر، ووفياً لأصدقائه ومن يلوذ به". وقد عزله احمد باشا الجزار عن حكومة طرابلس، لكنه رجع لمنصبه، وأنعمت عليه الحكومة العثمانية برتبة الباشاوية( مير ميرانية)،
المصدر: موقع جلجامش للدراسات والبحوث الكرديّة